الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انظر حولَك .. تأملاتٌ في الكونِ والآفاقِ
ارفعْ بصرَ فِكْرِكَ إلى عجائبِ السمواتِ، فتلمَّح الشمسَ في كلِّ يومٍ في منزلٍ، فإذا انخفَضَتْ بَرَدَ الهواءُ وجاءَ الشتاءُ، وإذا ارتفَعَتْ قَوِيَ الحرُّ، وإذا كانت بين المنزلتينِ اعتدلَ الزمانُ.
ثم اخفِضْ بَصَرَكَ إلى الأرضِ، ترى فِجَاجَها مذلَّلةً للتسخيرِ، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]، وتفكَّروا في شُربِها بعد جَدْبِها بكأسِ القطرِ.
وتلمَّحْ خروجَ النباتِ يرفُلُ في ألوانِ الحُللِ على اختلافِ الصورِ والطعومِ والأراييحِ.
وانظرْ كيفَ نَزَلَ القطرُ إلى عِرقِ الشَّجَرِ، ثم عاد ينجذبُ إلى فروعِها، ويجري في تجاويفِها بعروقٍ لا تفتقِرُ إلى كُلْفَةٍ.
فلا حظَّ للغافلِ في ذلك إلا سماعُ الرعدِ بأذنِه، ورؤيةِ النباتِ والمطرِ بعينيه .. كلا! لو فُتح بصرُ البصيرةِ لقرأَ على كلِّ قطرةٍ خطًّا بالقلمِ الإلهِيِّ: أنَّها رزقُ فلانٍ في وقتِ كذا!!
ثم انظُرْ إلى المعادنِ لحاجاتِ الفقيرِ إلى المصالحِ، فمنها مودعٌ كالرصاصِ والحديدِ، ومنها مصنوعٌ بسببِ غيرِه كالأرضِ السبخةِ، يُجمعُ فيها ماءُ المطرِ فيصيرُ مِلْحًا.
وانظرْ إلى انقسامِ الحيواناتِ ما بين طائرٍ وماشٍ وإلهامِها ما يُصلِحُها.
وانظرْ إلى بُعْدِ ما بين السماءِ والأرضِ، كيف ملأَ ذلكَ الفراغَ هواءً، لتستنشقَ منه الأرواحُ، وتَسْبَحَ الطير في تيَّارِه إذا طارَتْ.
وانظرْ بفكرِك إلى سَعَةِ البحرِ وتسخيرِ الفُلكِ فيه، وما فيه من دابةٍ.
قال يحيى بنُ أبي كثيرٍ: خلقَ اللهُ ألفَ أمةٍ، فأسْكَنَ ستمائةٍ في البحرِ، وأربعمائةٍ في البرِّ.
واعجبًا لك! لو رأيتَ خطًّا مستحسَنَ الرَّقْمِ، لأدرَكَك الدهشُ من حكمةِ الكاتبِ، وأنت تَرَى رقومَ القدرةِ ولا تعرفُ الخالقَ، فإن لم تَعْرِفْهُ بتلك الصنعةِ، فتَعَجَّبْ كيف أعْمَى بصيرتَك مع رؤيةِ بصرِك! (1).
فسبحانَك يا ربَّنا .. يا من سبحتْ له الكائناتُ .. وسجدَ له الصخرُ والنباتُ .. وتدكدَكَتْ لخشيتِه الجبالُ الراسياتُ ..
ويهتفُ حمدًا جمالُ الصباحِ
…
وسِحرُ الربيعِ الشهيُّ العَطِر
وسِحْرُ السماء الشَّحيُّ الوديعُ
…
وهمسُ النسيمِ ولحنُ المَطَر
تُسبِّحُه نغماتُ الطيورِ
…
يُسبِّحُه الظلُّ تحتَ الشَّجَر
يُسبِّحه النبعُ بين المروجِ
…
يسبِّحُ دومًا أريجُ الزَّهَر
يسبِّحه النورُ بين الغصونِ
…
وسِحْرُ المساءِ وضوءُ القَمَر
قال الإمامُ ابنُ الجوزيِّ: عَرض لي في طريقِ الحجِّ خوفٌ من العربِ، فَسِرْنَا على طريقِ خيبرٍ، فرأيتُ من الجبالِ الهائلةِ والطرقِ العجيبةِ ما أذهَلَنِي .. وزادتْ عظمةُ الخالقِ عز وجل في صَدْرِي، فصارَ يعرِضُ لي عند ذكرِ تلك الطرقِ نوعُ تعظيمٍ لا أجدُه عند ذكرِ غيرِهَا.
(1) انظر: التبصرة لابن الجوزي (/59 - 61).
فصحتُ بالنفسِ: ويحكِ! اعبُرِي إلى البحرِ، وانظري إليه وإلى عجائِبِه بعينِ الفكْرِ، تُشاهدِي أهوالًا هي أعظمُ من هذه .. ثم اخرُجي عن الكونِ، والتفتي إليه، فإنكِ ترينَه بالإضافةِ إلى السمواتِ والأفلاكِ كذرَّةٍ في فلاةٍ ..
ثم جُولي في الأفلاكِ .. وطوفي حولَ العرشِ .. وتلمَّحِي ما في الجنانِ والنيرانِ .. ثم اخرُجِي عن الكلِّ والتَفِتِي إليه .. فإنكِ تشاهدينَ العالَمَ في قبضةِ القادرِ الذي لا تَقِفُ قدرَتُه عندَ حدٍّ .. ثم التفِتِي إليكِ .. فتلمَّحِي بدايتكِ ونهايتَكِ .. وتفكَّرِي فيما قبل البدايةِ وليس إلا العدمُ .. وفيما بعدَ البِلَى وليس إلا الترابُ!!
فكيف يأنسُ بهذا الوجودِ من نَظَرَ بعينِ فكرِهِ المبدأَ والمنتَهَى؟ وكيف تغفلُ القلوبُ عن ذكرِ هذا الإلهِ العظيمِ؟
باللهِ لو صَحَّت النفوسُ عن سُكْرِ هواها لذابتْ من خوفِه .. أو لغابَتْ في حبِّه .. غيرَ أنَّ الحسَّ غَلَبَ .. فعظُمَتْ قدرةُ الخالقِ عندَ رؤية جبلٍ .. وإن الفطنةَ لو تلمَّحتْ المعانِيَ لدلَّت القدرةُ عليه أوفى من دليلِ الجبلِ. فسبحانَ من شغلَ أكثرَ الخلقِ بما هم فيه عما خُلِقوا له .. سبحانَه» [صيد الخاطر].
الفجرُ بدَّده الضحى وعلى الضحى شدَّ الأصِيل
والليلُ يدنو زحفُه فكأنما انَهَمَرَتْ سُيُول
أرخَى على الدنيا دُجَاهُ فعمَّ في الدنيا الذُّهُول
الصمتُ لوَّن هذه الدنيا وغطَّاها خُمُول
والريحُ أعياها السُّرى والبدرُ من ضعفٍ خَجُول
ونظرتُ من يَحْمِي الأنامَ وعزَّ في الناسِ السبيلُ!
ونظرتُ من للنَّجْمِ يُمْسِكُه فلا يخشَى أُفُول!!
ونظرتُ ثم نظرتُ ثم رأيتُ كم حَارَتْ عُقُول
ونَظَرْتُ ثم نَظَرْتُ يا سبحانَ ربِّي ما أقُول
وضحَ الدليلُ وغابَ عنا أنه وَضَحَ الدَّلِيل
ولربما تَحْوِي يَدِي وأنا بما تَحْوِي جَهُول!!
ذكر الحافظُ ابنُ رجبٍ عن بعضِ السلفِ أنه قرأَ في بعض الكتب المنزلةِ: «يقولُ اللهُ عز وجل: يؤمَّلُ غيري للشدائدِ .. والشدائدُ بيدِي .. وأنا الحيُّ القيومُ .. ويُرجَى غيري .. ويُطرقُ بابُه بالبُكرَاتِ! وبيدي مفاتيحُ الخزائنِ .. وبابي مفتوحٌ لمن دعاني!!
من ذا الذي أمَّلني لنائبةٍ فقطعتُ به ..
أو من ذا الذي رَجَاني لعظيمٍ فَقَطَعْتُ رَجَاءَه!! ..
ومن ذا الذي طرقَ بابي فلم أَفْتَحْ له؟
أنا غايةُ الآمالِ .. فكيف تَنْقِطُعُ الآمالُ دوني؟!
أبخيلٌ أنا؟ فيبخِّلُني عَبْدِي!!
أليس الدنيا والآخرةُ والكرمُ والفضلُ كلُّه لي؟!
فما يمنعُ المؤمِّلينَ أن يؤمّلوني؟!
لو جمعتُ أهلَ السمواتِ وأهلَ الأرضِ .. ثم أعطيتُ كلَّ واحدٍ منهم ما أعطيتُ الجميعَ .. وبلّغتُ كلَّ واحدٍ منهم أمَلَه .. لم يُنْقِصْ ذلك من مُلكي ذرةً .. وكيف يَنْقُصُ مُلكٌ أنا قيّمُهُ؟!
فيا بؤسًا للقَانِطِينَ من رَحْمَتِي!!
ويا بؤسًا لمن عَصَاني .. وتوثَّب على مَحَارِمي!!
* * *