المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الإجارة القارئ: وهي بيع المنافع وهي جائزة في الجملة لقول - تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة - جـ ٥

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌كتاب الإجارة القارئ: وهي بيع المنافع وهي جائزة في الجملة لقول

‌كتاب الإجارة

القارئ: وهي بيع المنافع وهي جائزة في الجملة لقول الله تعالى (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) الآيتين وقول الله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ) ولأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان فلما جاز عقد البيع على الأعيان وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع.

الشيخ: استدل المؤلف رحمه الله على جواز الإجارة بالنص والقياس فالنص صريح وهو قوله تعالى (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) وقوله (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ) وأما القياس فهو أن يقال إن الناس في حاجة إلى المنافع كما هم في حاجة إلى الأعيان فلما جاز بيع الأعيان وجب أن يجوز بيع المنافع.

القارئ: وتنعقد بلفظ الإجارة والكرى لأنه لفظ موضوع لها وفي لفظ البيع وجهان أحدهما تنعقد به لأنها صنف منه والثاني لا تنعقد به لأنها تخالفه في الاسم والحكم فلم تنعقد بلفظه كالنكاح.

الشيخ: الظاهر أنها تصح بلفظ البيع إذا أضيف إلى المنافع بأن يقول بعت عليك منافع هذا البيت لمدة سنة فلا مانع في أن نقول إنها إجارة صحيحة لأن هذا هو الذي يدل عليه هذا العقد.

فصل

القارئ: وتجوز إجارة الظئر للرضاع والراعي لرعاية الغنم للآيتين.

الشيخ: قوله (الآيتين) هما قوله تعالى (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) هذا في راعي الغنم وقوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ) هذا في الظئر أي المرضعة، والمعنى أنه يجوز أن نستأجر امرأة ترضع هذا الطفل لأن الله نص على الجواز فقال الله تبارك وتعالى (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) وسبحان الله إن تعاسر الزوج والزوجة في إرضاع الطفل فإن الله تعالى سوف يجعل له من يرضعه من غير أمه ولهذا أكد هذا الحكم فقال (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) وفي هذا بشارة لمن عنده طفل وتعاسر مع أمه أن الله سيجعل له فرجاً وسترضع له امرأة أخرى وفي عصرنا الحاضر والحمد لله هناك فرج آخر وهو الحليب الصناعي.

ص: 193

القارئ: واستئجار الدليل ليدل على الطريق لأنه ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا رجلا رجل من بني الديل هادياً خريتا والخريت الماهر بالهداية وهو على دين كفار قريش وأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا) رواه أحمد والبخاري.

الشيخ: في هذه القصة جواز استئجار غير المسلم وائتمانه وفيها أيضاً الأخذ بقوله لأن هذا الرجل مشرك ويدلهما في أخطر طريق بالنسبة لهما وهو طريق الهجرة لأن قريشاً تطلب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر حتى جعلت لمن أتى بهما مائتين من الإبل فيستفاد منه أنه يجوز أن يستأجر الإنسان طبيباً كافراً لدوائه وهو أحد الأدلة التي استدل بها من يرى أنه يقبل قول الطبيب في أن لا يصوم الإنسان وأن لا يصلي قائماً وأن لا يركع وأن لا يسجد إذا كان الطبيب ثقة ولو كان كافراً وهو القول الراجح والعمل عليه الآن.

القارئ: وإجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقاء عينها دائماً قياساً على المنصوص عليه وتجوز إجارة النقود للتحلي والوزن واستئجار شجر ليجفف عليها الثياب والغنم لتدوس الزرع والطين لأنها منفعة مباحة يجوز أخذ العوض عنها في غير هذه الأعيان فجاز فيها كالبيع.

الشيخ: قوله (إجارة النقود للتحلي) هل يتحلى بالنقود؟ الجواب نعم يُتحلَّى بها وهو معروف عندهم في السابق وأدركنا شيئاً من ذلك فتنظم الدنانير في قلادة وتحلى بها المرأة وقوله (والوزن) هل يوزن بالنقود؟ الجواب نعم يوزن بها وأدركنا هذا أيضاً يقول لك مثلاً وزن الريال بكذا وكذا، قوله (واستئجار شجر ليجفف عليها الثوب والغنم لتدوس الزرع والطين) الغنم تدوس الزرع وذلك بأن ينشر الزرع وتمشي عليه حتى يتميز الحب من العصر وقوله (والطين) المقصود به الحرث وذلك بأن تمشي عليه حتى تلينه بأظلافها.

ص: 194

القارئ: ولا يجوز عقدها على مالا نفع فيه مثل أن يستأجر للزرع سبخة لا تنبت أو لا ماء لها يكفي فإن كان لها ماء معتاد كماء العيون والأنهار والمد بالبصرة والمطر في موضع يكتفي به جاز وإن كانت الأرض على نهر تسقى بزيادته كالنيل والفرات وتسقيها الزيادة المعتادة جازت إجارتها لأن الغالب وجودها فهي كالمطر لغيرها وإن كان لا يسقيها إلا زيادة نادرة فاستأجرها بعد الزيادة صح لأنها معلومة وإن استأجرها قبلها لم يصح لأنه لا يعلم وجودها فهي كبيع الطير في الهواء وإن استأجرها ولم يذكرها للزارعة وكانت تصلح لغيرها صح وإن لم تصلح لغيرها لم يصح لأن نفعها معدوم وإن غرقت الأرض فاكتراها لزرع مالا ينبت في الماء كالحنطة وللماء مغيض يمكن فتحه فينحسر الماء ويمكن زرعها صح لأنه يمكن زرعها بفتحه كما يمكن سكنى الدار بفتحها وإن علم أنه ينحسر عادة صح لأنه يُعلم بالعادة إمكان الانتفاع فإن لم يُعلم هل ينحسر أو لا لم يصح لما ذكرنا وإن اكترى أرضاً على نهر تغرق بزيادته المعتادة لم يصح لأنه غير منتفع بها عادة فإن كانت بخلاف ذلك صح.

الشيخ: الشرط الذي ذكره المؤلف هنا مهم فيشترط أن يعقد الإجارة على شيء يمكن أن ينتفع به فإن لم يمكن لم تصح لأن ذلك من إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته، وضرب المؤلف لهذا أمثله مثل أراضي لا يمكن أن يأتيها النهر والمطر فيها قليل فكيف يستأجرها للزرع؟ أما لو أستأجرها وأطلق وهي تصلح للزرع وغيره فهذا لا بأس به والأمثلة التي ذكرها المؤلف وهي واضحة.

فصل

ص: 195

القارئ: ولا يجوز عقد الإجارة على المنافع المحرمة كالغناء والنياحة والزمر ولا إجارة داره لمن يتخذها كنسية أو بيت نار أو يبيع فيها الخمر ونحوه لأنه محرم فلم تجز الإجارة لفعله كإجارة الأمة للزنا ولا يجوز استئجار رجل ليكتب له غناء أو نوحاً أو شيئاً محرماً لذلك ولا يجوز استئجاره ليحمل خمرا ليشربها لذلك وعنه فيمن حمل خنزيراً أو ميتة لنصراني أكره أكل كرائه ولكن يُقضى له بالكراء وإذا كان لمسلم فهو أشد قال القاضي هذا محمول على أنه استأجره ليريقها أما للشرب فمحظور لا يحل أخذ الأجرة عليه.

ص: 196

الشيخ: هذا الفصل مهم جداً وهو أن جميع المنافع المحرمة لا يجوز أخذ الأجرة عليها فمثلاً في الغناء لو استأجر رجلاً يغني له غناء حراماً لم يجز وذلك لأن الغناء ليس كله حراماً لكن المقصود هنا الغناء المحرم فلا يجوز لقول الله تعالى (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَان) وهذا وقوع في التعاون على الأثم والعدوان فلا يصح لأن كل ما نهى الله عنه بعينه فإن العقد عليه لا يصح، قوله (والنياحة) وذلك بأن يستأجر نساء ينحن على ميته فهذا لا يجوز لأن النياحة ملعون فاعلها فإذا استأجر نساءً تنوح على ميته فقد استأجرهن على عمل محرم، قوله (الزمر) يعني الزمر بالمزمار كالموسيقى وشبهها فهذا أيضاً لا يجوز أخذ الأجرة عليه، قوله (ولا إجارة داره لمن يتخذها كنيسة) وذلك بأن يستأجرها النصارى ليتخذوها كنيسة يتعبدون لله تعالى فيها فهذا حرام أيضاً، ولو استأجر دكاناً ليكون بقالة ومن مواد البقالة الدخان فهل يجوز أو لا؟ الجواب إن شرط عليه أن لا يدخل فيه الدخان جاز وإلا فلا لأن هذا العقد جمع في صفقة واحدة بين ما يجوز التأجير عليه ومالا يجوز، قوله (أو بيت نار) وذلك بأن يجعلها بيت نار للمجوس يتعبدون لله فيها، قوله (أو يبيع فيها الخمر ونحوه لأنه محرم فلم تجز الإجارة لفعله كإجارة الأمة للزنا) إجارة الإماء للزنا حرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن مهر البغي) لكن لو استأجرها للزنا وزنى بها أيقام عليه الحد أو لا؟ الجواب قال بعض أهل العلم أنه لا يقام عليه الحد لأن هذه شبهة وقال آخرون بل يقام عليه الحد لأن تركه يؤدي إلى أن يستأجر النساء ليزني بهن ثم يقول إن الحد لا يقام عليه، قوله (ولا يجوز استئجاره ليحمل خمراً ليشتربها لذلك) أي لهذه العلة، قوله (وعنه فيمن حمل خنزيراً أو ميتة لنصراني أكره أكل كرائه ولكن يقضى له بالكراء) الإمام أحمد رحمه الله إذا قال أكره فهو للتحريم لأنه من ورعه لا يطلق التحريم إلا فيما ثبت

ص: 197

تحريمه وأما ما لم يثبت فإنه يتورع فيقول أكره وعلى هذا فهو يرى تحريم أكل الكراء لمن حمل خنزيراً أو ميتة لنصراني فيرى الإمام أن أكله حرام، ولكن هل يرى أن لا يؤخذ من النصراني شيء؟ الجواب لا بل يرى أنه يطالب بالكراء لأننا لو قلنا لهذا الرجل الكراء عليك حرام يكون النصراني قد كسب وجمع بين العِوضِ والمُعوَّضِ لأن متاعه حمل إليه والأجرة أسقطناها عنه وعلى هذا فنوجه هذه الرواية بأن يُأخذ الكراء من هذا النصراني ولكن لا يأكله بل يتصدق به وهذا التوجيه متمشي على القواعد الشريعة لأن تركه للنصراني يكون جمعاً له بين العوض والمُعوَّض ثم فيه سخرية من النصراني بأن يلعب على ذقون المسلمين فنأخذ منه الأجرة ونقول للرجل الذي حمل الخنزير والميتة هذا لا يطيب لك لأنه عوض منفعة محرمة وعليك أن تتصدق به وكذلك أيضاً نقول مثل هذا في الربا إنسان مثلاً أعطى البنك مائة ألف على أن يعطيه في كل مائة عشرة ريالات ثم تاب فهل نقول لا تأخذ من البنك شيئاً؟ الجواب لا، بل نقول خذ منه لكن لا تحل لك لأنها أُخِذت بكسب محرم بل تصدَّقْ بها، ثم هل تقبل الصدقة من الربا؟ الجواب نقول نعم تقبل للتخلص منه فتقبل منه التوبة لا الصدقة لأنه لم يملكه حتى يتصدق به والمهم أن الرواية عن الإمام أحمد متمشية تماماً على القواعد الشرعية وعليه فنقول لو حمل خمراً لشخص فإنه لا يجوز لكن يقضى له بالأجرة ويتصدق بها، وأما حمل القاضي رحمه الله هذا على أنه استأجره ليريقها فهذا لو فُرِضَ أي أنه استأجره ليريقها فإن الإجارة صحيحة والأجرة حلال لأن هذا استئجار لإتلافها لا لشربها لكن هذا الحمل من القاضي عفا الله عنه بعيد جداً من مراد الإمام أحمد رحمه الله.

ص: 198

القارئ: وإن استأجر حجاماً ليحجمه جاز (لأن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه) متفق عليه قال ابن عباس ولو كان حراماً ما أعطاه أجره ويكره للحر أكل أجره لقول النبي صلى الله عليه وسلم (كسب الحجام خبيث وقال أطعمه عبدك أو خادمك) وقال القاضي لا تصح إجارته لهذا الحديث.

الشيخ: الحجامة لا شك أنها دواء والذي يعتادها لا يمكن أن يصبر عنها والذي لم يعتدها يمكن أن يصبر بدونها وعلى كل حال نقول الحجام هل له أن يأخذ الأجرة أو لا، وهل استئجاره للحجامة جائز أو لا؟ الجواب احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يعقد مع الحجام شيئاً حراماً ولهذا قال ابن عباس لو كان حراماً لم يعطه وصدق رضي الله عنه ولكن كيف نجمع بين هذا الحديث الصحيح المتفق عليه وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم (كسب الحجام خبيث) نقول جمع بينهما بعض العلماء وقال إنه هنا جهتين جهة للمحجوم فهذا لا يكره ولا يحرم عليه أن يعطي الحجام أجره وذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم والجهة الأخرى جهة الحاجم فإنه يقال له تَنَزَّه عنها لأن أخذ الأجرة عليها دناءة ولذلك أكثر ما يكون الحجامون من الأرقاء وأشبهاهم فينبغي أن يترفع الإنسان عنها فيكون المراد بالخبث في قوله (كسب الحجام خبيث) ليس الخبث الشرعي لكنه الخبث العرفي أو الخبث بمعنى الرديء كما قال الله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) وهذا جمع حسن، وهو أحسن مما لو جمع الإنسان بينهما فقال كسب الحجام إذا تعينت عليه الحجامة خبيث لأنه إذا تعينت عليه الحجامة يجب عليه إنقاذ المريض فأحياناً الذين اعتادوا الحجامة يغشاهم الدم حتى يسقطوا صرعى وحينئذ يتعين على العارف بالحجامة أن يحجمهم فإذا أخذ الأجرة على هذا فهو خبيث خبث تحريم لأنه يجب عليه إنقاذه.

ص: 199

السائل: لماذا لا يكون عمل الحجام مثل الطبيب لأن الطبيب يداوي الناس ويأخذ الأجرة فكذلك الحجام؟

الشيخ: لأن عمل الحجام عوض عن استخراج دم، ثم هو كما قلنا أنه خبيث عرفاً ودناءة وليس خبيث شرعاً وحينئذ لا نقول إنه مكروه.

السائل: هل التبرع بالدم يكون مثل الحجامة؟

الشيخ: لا، التبرع بالدم من الإحسان إلى الغير فإذا وجدنا مريضاً محتاجاً إلى دم ووجدنا شخصاً آخر يوافق دمه دم هذا المريض لأن الدماء تختلف وقال الأطباء إن أخذ الدم من هذا وإعطاءه المريض لا يضر بالصحيح شيئاً فإنه لا شك أن هذا من الإحسان أن يتبرع الإنسان لأخيه.

السائل: ما هو الفرق بين من أجر محلاً لشخص وفعل فيه محرم أو باع فيه محرم وبين من أجره بيتاً للسكن ففعل فيه محرم؟

الشيخ: الفرق بينهما نقول إذا استأجر شخص من آخر داره ليجعلها كنيسة فهذا حرام لأن المنفعة التي استأجر من أجلها البيت منفعة محرمة وإذا استأجر هذا البيت ليسكنه لكن فعل فيه محرم فهذا أصل العقد فيه حلال.

السائل: وإن أجره له على أنه دكان وباع فيه الدخان فما هو الحكم؟

الشيخ: إذا علمنا بالعرف المطرد أن أصحاب البقالات لابد أن يكون عندهم دخان فحينئذ يشترط عليه ألا يبيع الدخان في الدكان.

فصل

القارئ: ولا تجوز إجارة الفحل للضراب لما روى ابن عمر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل) أخرجه البخاري ولأن المقصود منه الماء الذي يخلق منه الولد وهو محرم لا قيمة له فلم يجز أخذه عوضه كالدم.

ص: 200

الشيخ: إجارة الفحل للضِّرَاب ثبت النهي عنها لما فيها من قطع المروءة بين الناس ولأن هذا الجمل إما أن يتضرر بالضِّرَاب أو لا يتضرر فإن تضرر بالضِّرَاب فليمنعه أصلاً من الضِّرَاب وإن كان لا يتضرر فلا يمنعه، لكن بعض الناس يقول أنا لا أريد أن أعوِّدَ الجمل الضِّرَاب أو الحمار النَّزْوَ لأنِّي إذا عَوَّدْتُهُ ذلك صار صعب الشكيمة متى رأى أنثى ذهب يركض إليها وترك صحابه فيقول أنا لا أدعه يضَّرَب إلا بفلوس، نقول هذا لا يجوز وإما أن تمنع ولك المنع ولا أحد يقول لابد أن تبذل عسب الفحل وإما أن لا تمنع ولكن بدون عوض.

القارئ: ولا يجوز إجارة النقود ليجمل بها الدكان لأنها لم تخلق لذلك ولا تراد له فبذل العوض فيه من السفه وأخذه من أكل المال بالباطل وكذلك استئجار الشمع للتجمل به أو ثوب ليوضع على سرير الميت لا يجوز ذلك.

الشيخ: كل هذه لا تجوز لأنها لا داعي لها ولا مصلحة فيها للإنسان فمثلاً استأجر النقود والمقصود بالنقود الدراهم والدنانير فهو استأجر النقود من أجل أن يُجمِّل بها دكانه فيصفها مثلاً على سقف الباب حتى يقول الناس إن هذا الرجل غني فيُجمِّل بها الدكان فهذا لا يجوز كما علل المؤلف رحمه الله بأنها (لم تخلق لذلك) يعني أنها لم تُصنع لهذا وإنما صنعت للتداول والوصول بها إلى الحاجات من بيع أو إجارة وقال المؤلف أيضاً (ولا تراد له فبذل العوض فيه من السفه وأخذه من أكل المال بالباطل) ثم قال المؤلف (كذلك استئجار الشمع للتجمل به) نقول استئجار الشمع مشكل لأنه لا يمكن أن ينتفع به إلا بعد تلفه لأن الشمع يذوب ويضمحل لكن لو فُرِضَ أنه استأجر شمعاً يصفها مثلاً على الدكان حتى يقول الناس إن هذا الدكان دكان واسع فيه الشموع وما إلى ذلك، فنقول كل شيء لا يراد وإنما هو للفخر والخيلاء فإنه لا يجوز استأجره.

فصل

ص: 201

القارئ: ولا يجوز عقد الإجارة على ما تذهب أجزاءه بالانتفاع به كالمطعوم والمشروب والشمع ليسرجه والشجر يأخذ ثمرته والبهيمة يحلبها لأن الإجارة عقد على المنافع فلا تجوز لاستيفاء عين كما لو استأجر ديناراً لينفقه إلا في الظئر تجوز للرضاع لأن الضرورة تدعو إليه لبقاء الآدمي ولا يقوم غيرها مقامها.

الشيخ: لا يجوز استئجار شيء لا يمكن الانتفاع به إلا بإتلافه مثل الشمع فإذا استأجر شمعاً لأجل أن يوقده فهذا لا يجوز وحتى لو أنه اشترى الشمع وقال اشتري الحبة مثلاً بعشرة ريالات وما ذاب بالإحراق فهو بقسطه من الثمن فقال الفقهاء إن هذا حرام أيضاً لأنه لا يدرى ما الذي يبقى فالشمعة الطويلة مثلاً إذا اشتراها وقال إني اشتريها منك بعشرة ريالات على أن ما بقي منها أرده عليك بقسطه من الثمن فهذا لا يجوز لما فيه من الجهالة فيما يبقى وعلى هذا فلا طريق إلا أن يشتري الشمع شراء باتاً وما بقي فهو له وما تلف فهو عليه، لكن بعض العلماء يقول إنه لا بأس بأن يستأجر الشمعة ليشعلها لأن ما يحصل من الإضاءة بمنزلة المنفعة فإذا استأجر هذه الحبة مثلاً بعشرة ريالات ليشعلها فلا بأس، ثم ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يجوز استئجار البهيمة ليحلبها لأن المستأجر الآن هو اللبن ولا يمكن استيفاؤه إلا بإتلافه ولكن هذا القول ضعيف جداً، أولاً: أنه لا دليل على المنع والأصل في المعاملات الإباحة.

ثانياً: أن هذه العين وهي اللبن عين يخلفها عين أخرى فإذا حلب جاء بدلها حليباً فهذه الأعيان التي تُخْلَفُ ويأتي بدلها شيء آخر تعتبر كالمنافع.

ص: 202

ثالثاً: أن الله عز وجل أجاز أن تستأجر المرأة لتُرْضِع الطفل فقال الله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وأيُّ فرق بين لبن المرأة ولبن الشاة لكن الفقهاء قالوا لأن حرمة الآدمي أعظم ولو منعنا استئجار المرأة _ وتسمى الظئر وهي المرضع _ لو منعاه لتلفت بذلك نفس آدمي وهذا ليس كتلف البهيمة، والعجب أن بعض الفقهاء قال إن المعقود عليه في الظئر هو حملها للطفل ووضعه على فخذيها وإلقامه الثدي وهذه منافع وليس المعقود عليه هو اللبن لكن، يقال لهم لو جاءت عجوز قد غار لبنها وقالت أنا سأعمل لهذا الصبي هذا العمل فأضعه على فخذي وألقمه الثدي الذي لن يجد فيه شيئاً وأعطوني أجراً على ذلك فهل ستعطى الأجرة كالظئر أو لا؟ الجواب أننا لا نعطيها ولا شك لأن المعقود عليه في الظئر هو اللبن وهذه الأعمال إنما هي أعمال للوصول إلى استيفاء المنفعة والكل يعرف أن المقصود هو اللبن فنقول إذا جاز الاستئجار في الظئر وهي المرضعة مع أن لبنها يشربه الطفل فكذلك استئجار الحيوان لأخذ لبنه ولا فرق وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والقاعدة عندنا أن الأعيان التي يَخلُف بعضها بعضاً يجوز عقد الإجارة عليها، وهنا مسألة وهي استئجار النخل لثمره مثل أن يستأجر شخص هذا الحائط كل سنة بعشرة آلاف والثمر له أي للمستأجر وصاحب النخل ليس له إلا عشرة آلاف فهل يجوز أو لا؟ المؤلف يقول لا يجوز والصحيح أنه جائز لأن هذا يشبه الاستئجار على الرضاعة، ولأن فيه راحة لصاحب البستان وللمستأجر لأن المساقاة على هذا النخل يكون فيها إشكال في التصرف وفي ضمانها وعند القسمة وأما التأجير فليس فيه أي شيء فيقول المستأجر لصاحب البستان استأجرته منك كل عام بعشرة آلاف فأعطيك عشرة آلاف ولي ثمره، وهذه المسألة فيها خلاف فالمذهب أنه لا يجوز لأنه يؤدي إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحه والصحيح أنه جائز وقد فعله أمير المؤمنين عمر

ص: 203

رضي الله عنه _ في تضمين حديقة أسيد بن الحضير رضي الله عنه حيث كان له غرماء فضمَّنه _ أي ضمَّن الحديقة شخصاً يدفع كل سنة كذا وكذا والثمرة له.

فصل

القارئ: ولا تجوز إجارة ما يسرع فساده كالرياحين لأنه لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها دائما فجرت مجرى المطعوم فإن كانت مما تبقى عينه دائماً كالعنبر جازت إجارته للشم لما تقدم.

الشيخ: ذكر المؤلف هنا منفعة مقصودة وصورة المسألة استأجر إنسان عنبراً وجعله مثلاً في الحجرة أو في مجلس الرجال من أجل رائحته فلا بأس به لأنه لا يتلف شيء من أجزائه.

فصل

القارئ: وما يختص فاعله أن يكون من أهل القربة وهم المسلمون كالحج وتعليم القرآن ففيه روايتان إحداهما يجوز الاستئجار عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) رواه البخاري وأباح أخذ الجعل عليه ولأنه فعل مباح فجاز أخذ الأجرة عليه كتعليم الفقه والثانية لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجرا) رواه أبو داود ولأنه لا يقع إلا قربة لفاعله فلم يجز أخذ العوض عليه كالصلاة فأما الاستئجار لتعليم الفقه والشعر المباح فيجوز لأن فاعله لا يختص أن يكون من أهل القربة فجاز كبناء المساجد وفي إجارة المصحف وجهان بناءً على بيعه.

ص: 204

الشيخ: هذا فصل مهم فالأشياء التي لا تقع إلا قربة ويشترط أن يكون فاعلها مسلماً هل يصح أخذ الأجرة عليها أو لا؟ الجواب إذا كان نفعها متعد فلا بأس وإن كان غير متعد فلا، فلو قال شخص لآخر استأجرني لأصلِّ لك فهنا لا يصح لأن الصلاة لا تكون للغير، وأما إذا كان نفعاً متعدياً كتعليم القرآن والآذان والحج ففي ذلك روايتان عن أحمد رحمه الله رواية أنه لا بأس به واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ولأن هذا المستأجر عمل عملاً يحتاج إلى الأجرة عليه، وأما إذا أردتُ أن أستأجر رجلاً يقرأ القرآن ويكون ثوابه لي فإنه لا يجوز لأن قراءة القرآن لا تقع إلا قربة وبهذا نعرف ضلالة هؤلاء القوم الذين يستأجرون القراء أيام موت القريب من أجل أن يقرؤوا فإن هذا محرم من وجهين الوجه الأول أنهم أغروا هذا القارئ أن يقرأ بعوض والوجه الثاني إضاعة المال لأن هذا القارئ لا ثواب له وإذا لم يكن له ثواب لم ينتفع الميت بذلك فالميت لا ينتفع بالفلوس وإنما ينتفع بالثواب وهذا القارئ ليس له ثواب فيكون ذلك من باب إضاعة المال، ولكن لو أتينا إلى شخص وقلنا أقرأ على هذا اللديغ فقال لا أقرأ إلا بكذا فهل يجوز هذا أو لا؟ الجواب يجوز لأن نفعه متعد وهذا قد وقع من الصحابة رضي الله عنهم وأقره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين بعث بعثاً فنزلوا على قوم فاستضافوهم ولكن القوم كانوا بخلاء قالوا ارجعوا وراءكم ما عندنا لكم ضيافة فتنحوا ناحية وسلط الله على سيدهم عقرباً فلدغته وكانت شديدة فجعل الرجل يتقلب كأنه في مقلاة فقالوا اسألوا هؤلاء القوم لعل فيهم قارئاً يقرأ فجاءوا إلى الصحابة فقالوا هل فيكم من راق فإن سيدنا قد لُدِغَ قالوا نعم فينا راقٍ لكن لا يقرأ إلا بكذا وكذا من الغنم فقالوا نعطيكم ما شئتم فذهبوا وجعل أحدهم يقرأ على هذا اللديغ بسورة الفاتحة حتى قام كأنما نَشِطَ من عقال، فالأمر بيد

ص: 205

الله عز وجل والله سبحانه وتعالى يقول (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) فقام الرجل كأنما نَشِطَ من عقال وأعطوهم الجُعل، فهؤلاء قالوا ما نقرأ إلا بجُعل لأن هذا عمل متعد، لكن أشكل الأمر على الصحابة رضي الله عنهم أن يأكلوا منها وكأنهم تحرجوا حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم وأخبروه فقال (كلوا _أو قال_ خذوا واضربوا لي معكم بسهم) وطَلَبُهُ صلى الله عليه وسلم أن يُضْرَب له بسهم لزيادة الطمأنينة في نفوس الصحابة ولا شك أن الفعل يزيد الإنسان طمأنينة أكثر فقال (خذوا واضربوا لي بسهم).

ص: 206

فهذا الفصل فيما يصح الأجرة عليه من أعمال القُرب ضابطه أن ما يختص بالفاعل لا يجوز أخذ العوض عنه كما لو استأجر شخصاً يصلي فقال صلِّ عني وسأعطيك على كل ركعة درهماً، فهذا لا يجوز ولا إشكال فيه لأنَّ نفعه لا يتعدى بل هو قاصر على من فعله فهذا الذي استأجره لن يستفيد من عمله شيئا فالصيام أو الحج لا تدفع الأجرة فيه أما ما كان متعدياً كتعليم القرآن فإن تعليم القرآن لا شك أنه من القُربِ قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) لكن إذا استأجر شخصاً يعلمه القرآن ففيه خلاف والصحيح أنه جائز لأن التعليم متعدٍّ لا يختص بالمعلم بل يتعدى إلى المتعلم، أما الحج ففيه روايتان كما قال المؤلف رحمه الله فمن العلماء من قال يجوز الاستئجار للحج بمعنى أنه يجوز أن تعقد عقد إجارة مع شخص أن يحج لك وهذا إن كان فريضة فإنه لابد من شروط وهو أن يكون هذا المستأجر عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله وإن كان نافلة فهو لا يشترط أن يكون عاجزاً لكن قد اختلف العلماء رحمهم الله في جواز الاستنابة في نفل الحج والقول بأنه لا يجوز الاستنابة في نفل الحج قول قوي لأننا نقول لهذا الذي يريد أن يقيم غيره يحج عنه نفلاً نقول إن كنت قادراً فحج وإلا فلا تحج لأن هذه عبادة، لكن في وقتنا الحاضر بالنسبة للحج لا يجد شخص أحداً يحج عنه إلا بأجرة فتجد مثلاً يكون بينهما عقد فيقول استأجرتُ فلاناً يحج عني الفريضة أو يحج عن أبي أو أمي أو ما أشبه ذلك.

ص: 207

وخلاصة البحث أن ما كان نفعه متعدياً جاز أخذ الأجرة عليه وما لم يكن فإنه لا يجوز أن تؤخذ الأجرة عليه لكن يجوز المكافئة فتقول مثلاً يا فلان حج عني ثم إذا رجع تكافئه أو تقول مَنْ يحج عني بكذا فتكون جَعَالةً، وأما قوله رحمه الله (وفي إجارة المصحف وجهان بناءً على بيعه) نقول هل بيع المصحف جائزٌ أو لا؟ الجواب: المذهب أن بيعه حرام وأن من استغنى عنه وجب عليه بذله لغيره ولا يصح البيع أيضاً لكن هذا القول ضعيف فما زال المسلمون يتبايعون المصاحف وما يروى عن عبد الله بن عمر (وددت أن الأيدي تقطع في بيعه) أي المصحف فهذا محمول على ما إذا وجبت إعارته فإنه إذا وجبت إعارته فإنه لا يجوز بيعه لكن هذا نادر خصوصاً في عهدنا والحمد لله الآن المصاحف كثيرة ولا يمكن أن نقول للناس لا تبيعوا، فالصواب جواز بيع المصحف وصحة العقد على بيعه وكان الناس فيما سبق لورعهم نسمعهم ونحن صغار يقول من يشتري البطاعة والبطاعة هي الجلد الذي يكون على المصحف، والمسألة ليست من باب الخداع لكنه من باب الورع ولكن على كل حال الصواب أن بيع المصحف وشرائه وتأجيره للقراءة فيه جائز ولا بأس به.

فصل

القارئ: قال بعض أصحابنا لا يجوز إجارة المشاع لغير الشريك إلا أن يؤجراه معاً لأنه لا يمكنه تسليم حصته إلى المستأجر إلا بموافقة الشريك وقال أبو حفص يجوز لأنه يصح بيعه ورهنه فصحت إجارته كالمفرد.

ص: 208

الشيخ: هذه المسألة وهي إجارة المشاع قد يتردد فيها الإنسان فمثلاً هذه عمارة بين رجلين كل واحد له نصفه فأجَّر أحدهما نصيبه على صاحبها فهذا جائز لا إشكال فيه ويكون الشريك مالك للمنفعة أي منفعة العمارة كلها فبالنسبة لنصيبه يملك العين والمنفعة وبالنسبة لنصيب شريكه يملك المنفعة دون العين هذا لا إشكال فيه لكن إذا أجر أحد الشريكين شخصاً آخر فهل يصح هذا أو لا؟ المؤلف يقول رحمه الله (قال بعض أصحابنا) وظاهر كلامه في مثل هذا السياق أنه يجوز ويُنَزَّلُ المستأجر منزلة المؤجر في استيفاء المنفعة وهذا أقرب إلى الصواب فإذا قال قائل هل يملك الشريك الشفعة؟ فالجواب الشفعة إنما تجب فيما إذا انتقل ملك العين، وأما الإجارة ليس فيها انتقال ملك عين بل ملك منفعة فقط، لكن في قول آخر في الإجارة تثبت بها الشفعة.

فصل

القارئ: ولا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي نص عليه لأن علياً رضي الله عنه أجر نفسه يهودياً يسقي له كل دلو بتمرة وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره وأكل أجرته ولا يؤجر نفسه لخدمته لأنه يتضمن إذلال المسلم للكافر فلم يجز كبيعه إياه ويتخرج الجواز لأنه عاوضه عن منفعة فجاز كإجارته لعمل شيء.

ص: 209

الشيخ: هل يجوز للإنسان أن يكون أجيراً عند كافر؟ الجواب نقول أما إذا كان العمل مستقلاً فلا بأس كما لو استأجره الكافر ليعمل له بيتاً أو يصنع له مصنعاً وما أشبه ذلك، وعمل الناس اليوم على هذا فإن كثيراً من الشركات رؤساءها كفار، وأما إذا كان لعمل مباشر لهذا الكافر بمعنى أن يكون خادماً له مباشراً فذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يجوز لأن في ذلك إذلالاً للمسلم وهذا صحيح أن فيه إذلال فكيف تكون خادماً للكافر قد يقول لك في يوم من الأيام يا فلان هات الحذاء ضعها أمامي أو يقول مثلاً هات مفتاح السيارة وإذا تباطأ انتهره وهذا فيه إذلال للمسلم فالصواب أن العمل الخاص لا يجوز للمسلم أن يكون أجيراً فيه لكافر أما العمل العام فلا بأس.

فصل

القارئ: والإجارة على ثلاثة أضرب إجارة عين معينة كالدور وموصوفة في الذمة كبعير للركوب وعقد على عمل في الذمة كخياطة ثوب وحمل متاع لأن البيع يقع في عين حاضرة وموصوفة ومقدر معلوم كقفيز من صبرة فكذلك الإجارة.

الشيخ: الإجارة على ثلاثة أقسام: المعينة والموصوفة في الذمة وعمل في الذمة، فالمعينة بأن يقول أجرتك هذا البيت أو أجرتك هذه السيارة أو أجرتك هذا المتاع فهذا عقد على عين معينة، والموصوفة كأجرتك بعيراً أو سيارة إلى مكة أو إلى المدينة فهذا جائز فأنا لم أعين السيارة ولكن جعلتها موصوفة في الذمة، وعلى عمل في الذمة كخياطة الثوب وحمل متاع فهذه ثلاثة أضرب.

القارئ: فإن كانت الإجارة لعين معينة اشترط معرفتها برؤية أو صفة إن كانت تنضبط بالصفات كالحيوان فإن لم تنضبط كالدار والأرض فلابد من رؤيتها كما يشترط ذلك في البيع.

ص: 210

الشيخ: إذا كانت الإجارة لعين معينة اشترط معرفتها برؤية أو صفة قوله (برؤية) وذلك بأن يشاهد البيت الذي يستأجره للسكنى أو (بصفة) إن كانت تنضبط بالصفة والذي ينضبط بالصفة كالحيوان ونقول نحن الآن بدله كالسيارة وأما الدار والأرض فلا يمكن أن تنضبط فأنا لو بقيت أصف شقة من الشقق أكثر من ساعة أو ساعتين فإنك لا تتصورها، ثم إن البيوت أيضاً والشقق تختلف باختلاف الراحة النفسية وانشراح الصدر ولذلك لا يجوز تأجير البيوت إلا بعد رؤيتها فلو قال عندي لك شقة تشتمل على غرفتين ومجلس ومطبخ وفيها نوافذ كذا وكذا فأنت الآن تصورتها تصوراً إجمالياً فإنه لا يصح عقد الإجارة عليها حتى تذهب وتنظر إليها.

القارئ: وفي استئجار عين لم يرها ولم توصف له وجهان بناءً على بيعها.

الشيخ: الوجه الأول أنه يجوز وللمشتري خيار الرؤية إذا رآها فإذا قلنا بجواز بيع العين الموصوفة قلنا بجواز إجارة العين الموصوفة ثم للمستأجر الخيار إذا رأى، وهذا قول جيد وفيه منفعة للناس وتوسيع عليهم.

القارئ: ويشترط معرفة المنفعة فإن كان لها عرف كسكنى الدار لم يحتج إلى ذكرها لأنها لا تكترى إلا لذلك فاستغني عن ذكرها كالبيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد معروف وإن اكترى أرضاً احتاج إلى ذكر ما يكتري له من غراس أو بناء أو زرع.

الشيخ: قوله (فإن كان لها عرف كسكنى الدار) سُكنى الدار معروف فيقول استأجرت الدار لأسكنه ومعروف أن السكن يكون بأن يسكن فيه هو وأولاده وما أشبه ذلك لكن لو استأجرها للسكنى وجعلها معرض للتجارة فللمؤجر أن يمنعه ويقول له: إن السكنى غير كونها معرض للتجارة.

ص: 211

القارئ: لأنها تكترى لذلك كله وضرره يختلف فوجب بيانه فإن أجرها للزرع مطلقاً صح وله زرع ما شاء لأنه يجوز أن يستأجرها لأعظم الزرع ضررا فإذا أطلق العقد تناوله بإطلاقه ودخل فيه ما دونه وإن قال لتزرعها ما شئت فهو أولى بالصحة لتصريحه بذلك وإن اكتراها لزرع معين فله زرعه ومثله في الضرر ودونه لأن الزرع إنما ذكر لتقدير منفعة الأرض فلم يتعين كما لو اكترى للسكنى كان له أن يسكن غيره وإن قال لتزرعها أو تغرسها لم يصح لأنه لم يعين أشبه ما لو باعه أحد هذين العبدين وإن قال لتزرعها وتغرسها ما شئت صح وله ما شاء منهما لأنه جعلهما له فملكهما كالنوع الواحد.

فصل

القارئ: وإن اكترى ظهراً للركوب اشترط معرفته برؤية أو صفة لأنه يصح بيعه بهما وذكر المهملج والقطوف من الخيل لأن سيرهما يختلف ومعرفة ما يركب به من سرج أو غيره لأنه يختلف بالمركوب والراكب ولا يحتاج إلى ذكر الذكورية والأنوثية لأن التفاوت بينهما يسير وقال القاضي يفتقر إلى معرفته لتفاوتهما.

الشيخ: ذكر المؤلف أنه لا يشترط ذكر الذكورة والأنوثة فلا يختلف الجمل والناقة في ذلك، والصحيح أنه يختلف اختلافاً عظيماً ولهذا لا شك أن قول القاضي هو الصواب وأنه لا بد من ذكر الذكورة والأنوثة لأن الجمل صعب ومتعب والناقة أسهل وأذل منه وهذا إذا استأجره للركوب والسفر فإذا استأجر لابد أن يقول ذكر أو أنثى أما لو أن الإنسان أراد أن يحمل عليه شيئاً فلا شك أن الجمل أفضل لأنه أقوى.

القارئ: ولابد من معرفة الراكب برؤية أو صفة ذكره الخرقي لأن الصفة تكفي في بيع مثله وقال الشريف لا يجزئ فيه إلا الرؤية لأن الصفة لا تأتي عليه.

الشيخ: الغالب أن هذا يُتسامح فيه لأن الفرق بين الرجال من جهة الجسم في الغالب قليل.

ص: 212

القارئ: ولابد من معرفة المحامل والأغطية والأوطئة والمعاليق كالقدر والسطيحة ونحوهما إما برؤية أو صفة أو وزن وإن اكترى ظهراً لعمل في مدة كالحراثة والدياس والسقي والطحن اشترط معرفة الظهر بالتعيين أو بالصفة لأن العمل يختلف باختلافه وإن استأجره على عمل معين كحراثة قدر من الأرض ودياس زرع معين وطحن قفزان معلومة لم يحتج إلى معرفة الظهر لأنه لا يختلف ويحتاج في الطحن إلى معرفة الحجر وفي السقي إلى معرفة البئر والدولاب لأنه يختلف وإن اكترى لحمل متاع لم يحتج إلى ذكر جنس الظهر لعدم الغرض في معرفته ويشترط معرفة المتاع برؤية أو صفة فيذكر جنسه من حديد أو قطن أو نحوه لأن ضرره يختلف وقدره بالوزن إن كان موزونا أو بالكيل إن كان مكيلا لأن البيع يصح بكلا الطريقتين.

الشيخ: أيهما أهون في الحمل الحديد أو القطن؟ الجواب الواقع أن كل واحد أحسن من الثاني من وجه فمن جهة القطن يكون كبير فيتعب الناقة في مقابلة الهواء ولا سيما إذا كان متحرك فتتعب جداً لأنه يصطدم بالحمل وتتكلف وأما الحديد فصغير الحجم، وأما من جهة الاتكاء على الظهر فالحديد أشد وأما القطن فيكون منبسطاً على جميع الظهر فيكون أهون ولذلك لابد أن يذكر نوع المحمول.

مسألة: كل من أعد نفسه للعمل من وَرَّاش أو غَسَّال أو كَنَّاس أو غيرهم لا بأس أن تَعقِد معه بدون أن تُحَدِّدَ الأجرة وله أجرة المثل وذلك لأنه قد أعد نفسه لهذا العمل.

مسألة: المستأجر يضمن إذا حَمَّلَ البعير فوق طاقته بل وإذا حَمَّلَه فوق ما يتعارف الناس عليه وإن كان يطيقه فإنه يعتبر متعدياً وعليه الضمان بكل حال.

ص: 213

القارئ: وإن ذكر وزن المكيل فهو أحصر وإن دخلت الظروف في وزن المتاع استغني عن ذكرها وإن لم تدخل وكانت معروفة لا تختلف كثيراً صح من غير تعيينها لأن تفاوتها يسير وإن اختلفت كثيراً اشترط معرفتها بالرؤية أو الصفة لذلك ولو اكترى ظهراً ليحمل عليه ما شاء لم يصح لأنه يدخل في ذلك ما يقتل البهيمة وإن شرط أن يحمل عليها طاقتها لم يصح لأنه لا ضابط له.

فصل

القارئ: وإن استأجر راعياً مدة صح لأن موسى عليه السلام أجر نفسه لرعاية الغنم ثماني سنين ويشترط معرفة الحيوان لأن لكل جنس تأثيراً في إتعاب الراعي ويجوز أن يكون على معين وعلى موصوف في الذمة فإن كان على موصوف في الذمة اشترط ذكر العدد لأن العمل يختلف به وإن استأجر ظئراً اشترط معرفة الصبي بالتعيين لأن الرضاع يختلف به ولا تأتي عليه الصفة وإن استأجر رجلاً ليحفر له بئراً أو نهراً اشترط معرفة الأرض لأن الغرض يختلف باختلافها ومعرفة الطول والعرض والعمق لأن الغرض يختلف بذلك كله وإن استأجره لبناء حائط اشترط ذكر طوله وعرضه وعلوه وآلته من لبن أو طين أو غيره لأن الغرض يختلف بذلك كله وإن استأجره لضرب لبن اشترط معرفة الماء والتراب والطول والسمك والعرض والعدد وعلى هذا جميع الأعمال التي يستأجر عليها فإن كان في ما يختلف فيها الغرض ما لا يعرفه رجع فيه إلى أهل الخبرة به ليعقد على شرطه كما لو أراد النكاح من لا يعرف شروطه رجع إلى من يعرفه ليعرِّفه شروطه وإن عجز عن معرفته وكَّل فيه من يعرفه ليعقده.

الشيخ: إذا كنتَ لا تعرف الشيء وَكِّل مَنْ يعرف وهو بالنسبة لك مجهول وبالنسبة للوكيل معلوم وهذه من الحيل الجائزة فإذا أراد أن يبيع عليَّ متاع في بيتي وأنا لا أعرفه فإنني أُوَكِّلُ إنساناً وأقول له وَكَّلْتُك يا فلان بأن تشتري لي المتاع الذي عند هذا الرجل فيذهب الوكيل ويطلع عليه ويعرفه.

فصل

ص: 214

القارئ: ويشترط معرفة قدر المنفعة لأن الإجارة بيع والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر ولمعرفتها طريقان أحدهما تقدير العمل كخياطة ثوب معين والركوب أو حمل شيء معلوم إلى مكان معين والثاني تقدير المدة كسكنى شهر فإن كانت المنفعة لا تتقدر بالعمل كالتطيين والتجصيص فإن مقدراه يختلف في الغلظ والرقة وما يروي الأرض من الماء يختلف باختلاف الأرض واحتياجها إلى الماء وما يشبع الصبي في الرضاع يختلف باختلاف الصبيان والأحوال والسكنى ونحوها فلا يجوز تقديره إلا بالمدة لتعذر تقديره بالعمل وما يتقدر بالعمل كاستئجار الظهر للحرث والحمل والطحن والدياس والعبد للخدمة جاز تقديره بالعمل فإن شرط تقديره بالعمل والمدة فقال استأجرتك لتحرث لي هذه الأرض في شهر لم يصح لأنه إن حرثها في أقل من شهر أو فرغ الشهر قبل حرثها فطولب بتمام ما بقي كان زيادة على المشروط وإن لم يتمم كان نقصا وعن أحمد ما يدل على الصحة لأن الإجارة معقودة على العمل والمدة مذكورة للتعجيل فجاز كالجعالة.

ص: 215

الشيخ: قوله (لم يصح) نقول هذه الرواية غير صحيحة ولا شك أنها غير صحيحة وعليها العمل الآن فأنت تستأجر هذا الرجل يبني لك البيت وتذكر أوصاف البناء فتقول في خلال ستة أشهر فالمذهب أنه لا يجوز أن يجمع بين تقدير المدة والعمل لأنه مشكل إن انتهى العمل قبل المدة بقي باقي مدة ليس له أجرة وإن تمت المدة قبل انتهاء العمل بقي باقي العمل ليس له أجرة فيقولون إنه لا يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل، والصحيح الرواية الثانية عن أحمد وهي التي عليها العمل اليوم أنه يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل فأقول لهذا المقاول خذ هذا البيت ابنه لي في ستة أشهر وأُقدِّرُ العمل كل متر بكذا وكذا وهذا الذي عليه عمل الناس، الآن لكن هنا طريقةٌ الآن يستعملها بعض الناس يقول إذا انتهت المدة ولم تنجز العمل فعليك خصم لكل شهر كذا أو لكل يوم كذا فهل يجوز هنا أو لا؟ هذا نرى أنه فيه تفصيل إذا قَدَّرَ مدة يمكن أن ينقضي فيها العمل فلا بأس وإذا قَدَّرَ مُدَّةً إنجازُ العمل فيها يعتبر نادراً فإنه لا يجوز لأنه مخاطرة، ونضرب لذلك مثلاً فنقول: هذا بيت أعطيته المقاول وجعلت المدة سنة ومثل هذا البيت يمكن أن يبنى في سنة بدون مشقة فقلت له إن انتهت المدة ولم تكمل البناء فعليك خصم، فهذا جائز ولا بأس به لأن الفائدة من الخصم هو أن ينجز العمل في خلال المدة المقدرة، أما لو قلت ابني لي هذا البيت في خلال ستة أشهر فإن انتهت المدة فعليك خصم كل يوم كذا أو كل شهر كذا فهذا لا يجوز لأن هذا غرر فإنني إذا أعطيته إياه في مدة ستة أشهر ستكون أجرته أكثر مما أعطيته إياه في سنة وحينئذ إما أن يكون غانماً إن أنهى العمل في المدة المحددة وإما إن يكون غارماً إن لم ينه العمل في المدة المحددة وعلى هذا فلابد من هذا التفصيل وهو أنه إذا حدد مدة يمكن إنجاز العمل فيها على وجه معتاد فهذا لا بأس أن يقول إن انتهت المدة ولم تنجز العمل فعليك خصم لأن الأجرة ستكون معتادة

ص: 216

وأما إذا قَدَّرَ مدة لا يمكن أن يوجد فيها إلا على وجه نادر فهنا لابد أن تزيد الأجرة وحينئذ يكون إما غانماً وإما غارماً إذا تأخر وخصم عليه.

القارئ: ويشترط فيما قدر بمدة معرفة المدة لأنها الضابطة للمعقود عليه فإن قدرها بسنة أو شهر كان ذلك بالأهلة لأنها المعهودة في الشرع فوجب حمل المطلق عليها فإن كان ذلك في أثناء شهر عد باقيه ثم عد أحد عشر شهراً بالهلال ثم كمل الأول بالعدد ثلاثين يوما لأنه تعذر إتمامه بالهلال فكمل بالعدد وحكي فيه رواية أخرى أنه يستوفي الجميع بالعدد لأنه يجب إتمام الشهر مما يليه فيصير ابتداء الثاني في أثنائه وكذلك ما بعده.

الشيخ: هناك قول ثالث أصح مما ذكره المؤلف وهو أنه يعتبر بالأهلة حتى الشهر الذي عقد في أثنائه يعتبر بالأهلة فإذا عقد في ستة عشر والمدة سنة فإنه تنتهي في خمسة عشر من الشهر الذي هو آخر السنة حتى لو كان أكثر السنة تسعة وعشرون يوماً أَشْهُرُهَا، فَثَمَّ إذاً ثلاثة أقوال القول الأول: أن يكمل جميع الشهور بالعدد ثلاثين يوماً والثاني: عكسه وهو أن يكملها بالأهلة وهذا هو الصحيح والثالث: أن يكملها بالأهلة إلا الشهر الذي وقع العقد في أثنائه فيكمل بالعدد.

القارئ: وإن عقد على سنة رومية وهي ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع وهما يعلمان ذلك جاز وإن جهلاها أو أحدهما لم يصح لأن المدة مجهولة عنده والحكم في مدة الإجارة كالحكم في مدة السلم على ما مضى فيه.

الشيخ: الظاهر أن الاختلاف اليسير مثل ثلاثمائة وخمسة وستين يوم وربع أنه يتسامح فيه فكوننا نحرر ثلاثمائة وخمسة وستين يوم وربع فإنه أمر صعب فينبغي التسامح في هذا الشيء.

فصل

ص: 217

القارئ: وتجوز الإجارة مدة لا تلي العقد مثل أن يؤجره شهر رجب وهو في صفر سواء كانت فارغة أو مؤجرة مع المستأجر أو غيره لأنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز عليها مفردة كالتي تلي العقد ويحتاج إلى ذكر ابتدائها لأنها أحد طرفي المدة فاحتيج إلى معرفتها كالانتهاء فإن كانت تلي العقد فابتداؤها منه ولا يحتاج إلى ذكرها لأنها معلومة.

الشيخ: وإن أطلق فهل يحكم بابتداء السنة الهجرية أو من العقد؟ الجواب ابتداؤها من العقد وعلى هذا فيكون ابتداء المدة من العقد فيما إذا أطلق أو شرط أنها من العقد أما إذا قال ابتداؤها من شهر معين لا يلي العقد فلا بأس.

فصل

القارئ: فإن قال أجرتكها كل شهر بدرهم فالمنصوص أنه صحيح وذهب إليه الخرقي والقاضي لكن تصح في الشهر الأول بإطلاق العقد لأنه معلوم يلي العقد وأجرته معلومة وما بعده يصح العقد فيه بالتلبس به ولكل واحد منهما الفسخ عند تقضي كل شهر لأن علياً رضي الله عنه أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه وذهب أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى بطلانه لأن العقد على كل الشهور وهي مبهمة مجهولة فلم يصح كما لو جعل أجرتها في الجميع شيئاً واحدا.

الشيخ: الصواب الصحة بلا شك فإذا قال كل شهر بعشرة صح ذلك، ومتى دخل في الشهر لزم إتمامه ولهذا ينبغي إذا أراد المؤجر أن يفسخ العقد أن يخبره قبل تمام الشهر ليكون المستأجر على بصيرة فمثلاً لو قال أجرتك كل شهر بعشرة ريالات فدخل الشهر لزم هذا الشهر ولا يجوز للمؤجر ولا للمستأجر أن يفسخ الإجارة إلا برضى الطرفين، فإذا كان عند المؤجر وهو صاحب الملك نية أن ينهي عقد الإجارة فإنه إذا بقي عشرة أيام أو نحوها فليخبره ويقول له إن هذا آخر شهر، وذلك ليستعد المستأجر فيستأجر محلاً آخر غير هذا.

فصل

ص: 218

القارئ: ويشترط في صحة الإجارة ذكر الأجرة لأنه عقد يقصد فيه العوض فلم يصح من غير ذكره كالبيع ويشترط أن تكون معلومة لذلك ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة كالبيع وفيه وجه آخر لابد من ذكر قدره وصفته لأنه ربما انفسخ العقد ووجب رد عوضه بعد تلفه فاشترط معرفة قدره ليعلم بكم يرجع كرأس مال السلم وقد ذكرنا وجه الوجهين في السلم.

الشيخ: قوله (وفيه وجه آخر لابد من ذكر قدره وصفته) هذا وجه جيد وهو أنه لابد من معرفة القدر لأنه ربما تنفسخ الإجارة بخلاف البيع فالبيع يجوز أن أقول اشتريت منك هذا البيت بهذه الصبرة من الدراهم وإن كنا لا نعلم قدرها لأن البيع يتم بالعقد والإيجاب والقبول وكل واحد من البائع والمشتري يأخذ ما آل إليه وينتهي لكن الإجارة ليس كذلك فاشتراط معرفة القدر أمر جيد.

القارئ: وتجوز بأجرة حالة ومؤجلة لأن الإجارة كالبيع وذلك جائز فيه فإن أطلق العقد وجبت به حالة ويجب تسليمها بتسليم العين لأنها عوض في معاوضة فتستحق بمطلق العقد كالثمن وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة استحق استيفاء الأجرة عند انقضاء العمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) ولأنه أحد العوضين فلزم تسليمه عند تسليم الأجر كالبيع وإن شرطا تأجيلها جاز إلا أن يكون العقد على منفعة في الذمة ففيه وجهان أحدهما يجوز لأنه عوض في الإجارة فجاز تأجيله كما لو كان على عين والثاني لا يجوز لأنه عقد على ما في الذمة فلم يجز تأجيل عوضه كالسلم.

الشيخ: الظاهر أنه يجوز التأجيل لأن السلم عين بعين وهذا عين بمنفعة فالظاهر أنه لا بأس أن يقول استأجرتك على أن تبني لي هذا الحائط بعشرة آلاف مؤجلة.

فصل

ص: 219

القارئ: ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته سواء جعل ذلك جميع الأجرة أو بعضها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (رحم الله أخي موسى أجر نفسه ثماني سنين على طعام بطنه وعفة فرجه) رواه ابن ماجة ولأن العادة جارية به من غير نكير فأشبه الإجماع فإن قدر الطعام والكسوة فحسن وإن أطلق جاز ويرجع في القوت إلى الإطعام في الكفارة وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله ولأن لذلك عرفاً في الشرع فحمل الإطلاق عليه.

فصل

القارئ: وإذا استوفى المنفعة استقرت الأجرة لأنه قبض المعقود عليه فاستقر بدله كما لو قبض المبيع وإن سلم إليه العين مدة يمكن الاستيفاء فيها استقرت الأجرة عليه لأن المعقود عليه تلف تحت يده فأشبه تلف المبيع تحت يده وإن عرض عليه العين ومضت مدة يمكن الاستيفاء فيها استقرت الأجرة لأن المنافع تلفت باختياره فأشبه تلف المبيع بعد عرضه على المشتري وإن كان العقد على عمل في الذمة لم تستقر الأجرة إلا باستيفاء العمل لأنه عقد على ما في الذمة فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه وإن كان العقد فاسداً لم يستقر ببذل التسليم كما لا يستقر ببذل المبيع ويجب باستيفائها لأنه استوفاها بشبهة عقد وإن قبض العين ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها ففيه روايتان إحداهما لا يجب شيء لأنه عقد فاسد على منفعة لم يستوفها فلم يجب العوض كالنكاح والثانية يجب أجر المثل لأن البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل فكذلك الإجارة.

الشيخ: الظاهر أنه تجب الإجارة لا سيما إذا كانا جاهلين بفساد العقد أما إذا كانا عالمين بفساده فينبغي أن نأخذ الأجرة من المستأجر لأننا لو تركناها له لزم أن يكون له العِوَضُ المُعَوَّضُ ثم نجعل الأجرة في بيت المال ولا نردها إلى المؤجر لأننا لو رددناها إلى المؤجر لكان هذا مقتضي للصحة والعقد غير صحيح، وهكذا كل عقد فساد يتعامل به الطرفان مع العلم بفساده فإنهما لا يُمَكَّنَانِ من تنفيذه.

فصل

ص: 220

القارئ: ويجوز أن يكتري الرجلان ظهراً يتعاقبان عليه وأن يكتري الرجل عقبة يركب في بعض الطريق إذا كان ذلك معلوما لأنه يجوز العقد على جميعه فجاز على بعضه كالزمان فإن كان في طريق فيه عادة في الركوب والنزول جاز العقد مطلقا وحمل على العادة كالنقد في البيع وإلم يكن فيه عادة اشترط بيان ما يركب لأنه غير معلوم فوجب بيانه كالثمن وإن اختلفا في البادئ منهما أقرع بينهما لأنهما تساويا في الملك فقدم أحدهما بالقرعة كما في القسمة.

فصل

القارئ: إذا دخل حماماً أو قعد مع ملاح في سفينة فعليه أجرتهما وإن لم يعقدا معه إجارة لأن العرف جار بذلك فجرى مجرى الشرط كنقد البلد وكذلك إن دفع ثوبه إلى خياط أو قصار منتصبين لذلك أو مناد أو رجل معروف بالبيع بالأجر ليبيعه فلهم أجرة أمثالهم لذلك وإن دفع كتاباً إلى رجل ليحمله إلى صاحب له بأجر فحمله فوجد صاحبه غائبا فله الأجر للذهاب لأنه فعل ما استأجره عليه وللرد لأنه بإذنه تقديرا إذ ليس سوى رده إلا تضييعه وقد علم أنه لا يرضى تضييعه فتعين رده.

الشيخ: لو استأجرتُ رجلاً يؤدي الكتاب إلى صاحبٍ لي في مكة وذهب إلى مكة بالكتاب ولم يجد الرجل فماذا يصنع؟ نقول إن كان هناك ثقةٌ يمكن أن يجعله وديعة عنده حتى يعود الرجل فليفعل وإلا وجب عليه أن يرجع به وله الأجرة ذاهباً بالعقد وراجعاً بالعرف لأنه لو لم يرجعه ووضعه عند عتبة بابه لعُدَّ مفرطاً فالمؤلف رحمه الله لم يذكر إلا الصورة الثانية وهو أن يرجع به لكننا نقول قبل الرجوع إذا وجد ثقة فإنه يجب أن يجعله عنده ويقول يا فلان هذا لفلان إذا جاء فسلِّمُه إياه.

فصل

ص: 221

القارئ: إذا آجره مدة تلي العقد لم يجز شرط الخيار لأنه يمنع التصرف فيها أو في بعضها فينقص عما شرطاه وفي خيار المجلس وجهان أحدهما لا يثبت لذلك والثاني يثبت لأنه يسير وإن كانت لا تلي العقد ثبت فيها الخياران لأنها بيع ولا مانع من ثبوته فيها وكذلك إن كانت على عمل في الذمة أو على منفعة عين في الذمة ثبتا فيها ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.

مسألة: هي خيار المجلس هل يثبت في الإجارة أو لا؟ الجواب نقول تقرر عندنا أن الانتفاع بالمستأجر يكون من حين العقد فهل يكون فيه خيار مجلس أو لا الصواب أنه يكون فيه خيار مجلس وذلك لأن الإجارة عقد معاوضة على منفعة فهي كالبيع والمجلس يسير، لكن هل يصح فيه خيار الشرط؟ ذكر المؤلف أن في هذا التفصيل إن كان ابتداء المدة بعد انتهاء مدة الشرط فلا بأس وإن كان قبل انتهاء مدة الشرط لم يصح مثال ذلك أجَّرَكَ صاحب البيت بيته سنة ابتداءً من رمضان ونحن الآن في جمادى الآخرة ولكنه قال لي الخيار إلى دخول شعبان، فهل هذا يجوز أو لا؟ الجواب أن هذا جائز لأن مدة الخيار تنتهي قبل الشروع في مدة الإجار، مثال آخر إذا قال أجرتك هذا البيت لمدة سنة ابتداءً من شهر رجب على أن لي الخيار لمدة شهر، ونحن الآن في الخامس عشر من شهر جمادى الآخرة فهل هذا يجوز أو لا؟ الجواب لا يجوز لأن مدة الإجارة تبتدئ قبل انتهاء مدة الخيار فتكون الإجارة لازمة وغير لازمة لأنها تبدأ في شهر رجب والخيار سيمتد إلى نصف رجب تكون الإجارة لازمة وغير لازمة وهذا تناقض وهذا هو المذهب والصحيح أنه يصح خيار الشرط ولو على مدة تبتدئ قبل انتهاء مدة الشرط فإن لزمت الإجارة فلا إشكال وإن لم تلزم فما بين مدة الشرط والفسخ يُقدَّرُ بأجرة المثل ويلغى الأجر الذي اتفقا عليه وهذا هو فائدة كون خيار الشرط يمتد إلى دخول وقت التأجير ففائدته أنه إذا فسخ ألغيت الأجرة التي اتفقا عليها ووجب لصاحب البيت أجرة المثل.

ص: 222