المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القارئ: وإذا أخرج الوديعة من حرزها لمصلحتها كإخراج الثياب للنشر - تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة - جـ ٥

[ابن عثيمين]

الفصل: القارئ: وإذا أخرج الوديعة من حرزها لمصلحتها كإخراج الثياب للنشر

القارئ: وإذا أخرج الوديعة من حرزها لمصلحتها كإخراج الثياب للنشر والدابة للسقي والعلف على ما جرت به العادة لم يضمن لأن الإذن المطلق يحمل على الحفظ المعتاد وإن نوى جحد الوديعة أو إمساكها لنفسه أو التعدي فيها ولم يفعل لم يضمن لأن النية المجردة معفو عنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عفي لأمتي عن ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به) رواه البخاري ومسلم ولفظه (إن الله تجاوز عن) وإن أخرجها لينتفع بها ضمنها لأنه تصرف فيها بما ينافي مقتضاها فضمنها كما لو أحرزها في غير حرزها وإن أخذت منه قهراً لم يضمن لأنه غير مفرط أشبه ما لو تلفت بفعل الله تعالى وإن أكره حتى سلمها لم يضمن لأنه مكره أشبه الأول.

فصل

القارئ: فإن طولوب بالوديعة فأنكرها فالقول قوله لأن الأصل عدهما وإن أقر بها وأدعى ردها أو تلفها بأمر خفي قبل قوله مع يمينه لأنه قبضها لنفع مالكها وإن كان بأمر ظاهر فعليه إقامة البينة بوجوده في تلك الناحية ثم القول قوله مع يمينه.

الشيخ: إذا ادعى المودَعُ رد الوديعة فالقول قوله لأنه قبضها لمصلحة مالكها والقاعدة أن ما قبضه الإنسان لمصلحة مالكه فقوله مقبول في الرد لأنه محسن وقد قال الله تعالى (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أما إذا ادعى التلف نظرنا إن قال إنها تلفت بحريق أو غرق قيل له أقم البينة على الحريق والغرق لأن الحريق والغرق لا يخفى ثم إذا أقام البينة أنه حصل في تلك الناحية حريق أو غرق قبلنا قوله في أنها تلفت به وإلا لم نقبله أما إذا قال تلفت بأمر خفي مثل أنها سرقت أو أكلتها الأَرَضَة فالقول قوله.

فصل

القارئ: وإن طالبه برد الوديعة فأخره لعذر لم يضمن لأنه لا تفريط من جهته وإن أخره لغير عذر ضمنها لتفريطه ومؤونة ردها على مالكها لأن الإيداع لحظه.

‌باب العارية

القارئ: وهي هبة المنافع.

ص: 329

الشيخ: العارية هي أن يعطي متاعه لأحد ينتفع به ويرده إليه وقول المؤلف رحمه الله إنها هبة المنافع فيه نظر ظاهر لأن هبة المنافع تكون ملكاً للمنتفع وهو الذي استعار وأما منافع العارية فليست ملكاً للمستعير ولذلك لا يملك أن يعيرها أحداً غيره ولا أن يبيع منافعها ففي قول المؤلف رحمه الله إنها هبة منافع فيه تسامح لا شك والصواب أن العارية هي إباحة الانتفاع للمستعير أن ينتفع بالعارية وحكمها من جهة المستعير جائزة فيجوز للإنسان أن يستعير لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار دروعاً من صفوان بن أمية أما بالنسبة للمعير فهي سنة وقد تجب أحياناً كما سيأتي إن شاء الله.

القارئ: وهي مندوب إليها لقول الله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).

الشيخ: الاستدلال بهذه الآية فيه نظر ظاهر والصواب أن يقال لقوله تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وذلك لأن المستعير قد لا يستعيرها لبر ولا لتقوى فقد يستعيرها لغرض مباح لا يوصف بأنه بر ولا تقوى فاستدلال المؤلف رحمه الله بالآية فيه نظر والصواب أن يستدل بقوله تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

القارئ: ولأن فيها عوناً لأخيه المسلم وقضاء حاجته (والله في عون العبد ما كان العبد في أخيه).

الشيخ: كثير من الناس يروون هذا الحديث (والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه) وهذا غلط، لأن هناك فرقاً بين قوله (ما كان العبد في عون أخيه) وقولهم (مادام العبد في عون أخيه) لأنه إذا قال (ما كان العبد) يعني أن عون الله لهذا الإنسان كعون هذا الرجل لأخيه طال أم قصر قوي أم ضعف لكن قوله (مادام) تقتضي أن الله لا يديمه إلا إذا دام ولا تقتضي أيضاً أن الجزاء من جنس العمل فلفظ الحديث هو الذي ينبغي أن يساق عند رواية الحديث (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).

ص: 330

القارئ: وتصح في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرساً فركبها واستعار من صفوان بن أمية أدراعا رواه أبو داود.

الشيخ: حديث أبي طلحة القصة فيه أنهم في المدينة سمعوا صيحة يعني غارة على البلد فركب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفرس وهو فرس عري ليس عليه شيء على ظهره واستبرأ الخبر ولما فزع الناس وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم راجع مستبرء الخبر فقال لهم (ارجعوا فلن تراعوا) أو كلمة نحوها فيحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعاره منه ويحتمل أنه وجده وللحاجة ركبه بدون استعارة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم الكل يفرح أن ينتفع بماله ويُسَرُّ به وعلى كل حال فالدليل الواضح هو قصة صفوان بن أمية فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعاً.

القارئ: وسئل صلى الله عليه وسلم عن حق الإبل فقال (إعارة دلوها وإطراق فحلها) فثبت إعارة ذلك بالخبر وقسنا عليه سائر ما ينتفع به مع بقاء عينه ويجوز إعارة الفحل للضراب للخبر والكلب للصيد قياساً عليه

الشيخ: قوله صلى الله عليه وسلم (إعارة دلوها) معناه إذا طلب صاحب الإبل من شخص أن يعيره الدلو ليسقي إبله.

السائل: رجل أُودِعَ وديعة فوضعها في غير حرزها ليخدع اللصوص كمن جعل المال في الغسالة وضع عليه ملابس فما حكم ذلك؟

الشيخ: إذا حفظ الوديعة في غير حرزها حتى يُغَرِّرَ بالسارق فنقول له أرأيت لو ترك الصندوق مفتوحاً وقال أغرر بالسارق لأجل إذا رآه مفتوحاً قال هذا ليس فيه شيء؟ فهل هذا ينفعه؟ الجواب لا، إذا هو عليه أن يحفظها في حرز مثلها وإذا سرقت من حرز مثلها فليس بمفرط.

السائل: قوله صلى الله عليه وسلم (الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)(ما) هنا مصدرية ظرفية وعليه ألا تكون بمعنى ما يروى عند الناس في قولهم (ما دام العبد

ص: 331

الشيخ: لا، هي مصدرية ظرفية وكيفية أيضاً فيكون المعنى على صفة ما كان في عون أخيه.

فصل

القارئ: ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر لأنه لا يجوز أن يستخدمه ولا الصيد لمحرم لأنه لا يجوز له إمساكه ولا الجارية الجميلة لغير ذي محرم منها على وجه يفضي إلى خلوته بها لأنه لا يؤمن عليها فإن كانت شوهاء أو كبيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس لأنه يؤمن عليها.

الشيخ: لا شك أن الجارية الجميلة أقرب للفتنة من الشوهاء، والصغيرة أقرب للفتنة من الكبيرة، ولكن حتى هذه فيها خطر لا سيما إذا كان المستعير شاباً لا زوجة له فهذا يكفيك كل شيء وكما يقولون لكل ساقطة لاقطة فالصواب إن إعارة المرأة لغير المحرم محرم والمراد إعارة الجارية يعني المملوكة أما الحرة فلا تعار لكن المملوكة لا يجوز أن يعريها إلا لذي محرم إلا إذا كان يعريها للبيت والبيت كله فيه الأهل وفيه النساء فتكون خادماً له لمدة أسبوع أو أكثر أو أقل فهذا لا بأس به، لكن هل يعيرها لرجل فيقول له أعيرك جاريتي لتخدمك لأن زوجتك سافرت؟ الجواب نقول إن كانت شابة لا تجوز الإعارة وإن كانت غير شابة فعلى كلام المؤلف يجوز لكن حتى هي أيضاً الكبيرة قيدها المؤلف رحمه الله بأن لا يُشْتَهَى مثلها لكن نقول غالب الناس لا يشتهونها لكن رجل ينفرد بامرأة في بيت وهو شاب فإنه لا تؤمن الفتنة أبداً ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).

القارئ: ويكره استعارة والديه للخدمة لأنه يكره له استخدامهما فكره استعارتها لذلك.

السائل: ما هي صورة هذه المسألة الأخيرة؟

الشيخ: صورة المسألة إنسان كان أبواه مملوكين وهو حر فطلب من مالكهما أن يعريه إياهما.

السائل: قول المؤلف (ولا الصيد لمحرم) فهل كذلك لو أن رجلاً صاد لنفسه صيداً ثم أعاره للمحرم؟

ص: 332

الشيخ: لا يجوز لأن يد المحرم لا يمكن أن تكون على الصيد حتى لو كان هذا الصيد ملكاً لهذا الشخص ثم أحرم فإنه يجب عليه أن يتخلى عنه على المشهور من المذهب لكن يتخلى عنه في يده المُشَاهِدة أما الحُكْمِيَّة فلا بأس.

السائل: إذا وضع هذا المحرم الصيد في محل يحفظه له لكي يرجع إليه فيما بعد فما الحكم؟

الشيخ: إذا كانت لا تثبت عليه يده فلا بأس بذلك.

السائل: هل يصح إعارة النقد كأن يستعير مالاً نقداً لغرض ما ثم يعيده لصاحبه كما هو دون أن يتصرق فيه؟

الشيخ: يصح بشرط أن لا يكون المقصود به الخديعة فهذا الرجل يقول لصاحبه اعطني خمسمائة ريال أضعها في جيبي وجيبي رهيف تُرَىَ من وراءه الخمسمائة فيذهب ليخطب من الناس ابنتهم لكي يظنوا إذا رأوا المال أنه غني فهذا لا يصح، وعليه إذا كان في إعارة النقد منفعة فلا بأس وإلا فلا يصح.

فصل

القارئ: فإن قبض العين ضمنها لما روى صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعاً يوم حنين فقال أغصباً يا محمد قال (بل عارية مضمونة) وروي (مؤداة) رواه أبو داود ولأنه قبض مال غيره لنفع نفسه لا للوثيقة فضمنه كالمغصوب وعليه مؤونة ردها لذلك.

الشيخ: قوله (فضمنه كالمغصوب) هذا قياس مع الفارق فهذا رجل أعارني متاعه باختياره رجاء الثواب فكيف نقول إنه يشبه مَنْ غَصَبْتُهُ ماله!! فالقياس غير صحيح والصواب أن العارية الأصل فيها عدم الضمان لأنها عين قبضت من يد مالكها باختياره فيكون القابض أميناً والأمين لا ضمان عليه لأنه حصل المال برضا صاحبه لكن لو شُرِطَ عليه ضمنها بأن قال المعير لا بأس أنا أعيرك هذا لكن بشرط أن تضمنها إذا تلفت سواء تعديت أو لا، فالتزم بذلك، ضمن لأنه هو الذي ألزم نفسه بهذا فالصواب أن العارية غير مضمونة إلا إذا التزم المستعير بالضمان وأما قياسها على المغصوب فهو قياس مع الفارق.

ص: 333

القارئ: فإن شرط نفي الضمان لم ينتف لأن ما يضمن لا ينتفي بالشرط وقال أبو حفص العكبري يبرأ لأن الضمان حقه فسقط بإسقاط كالوديعة التي تعدى فيها فإن استخلق الثوب أو نقصت قيمتها لم يضمن لأنه مأذون فيه لدخوله فيما هو من ضرورته.

الشيخ: لو استعار منه رشا يعني الحبل الذي يستقى به ثم ضعف هذا الحبل بسبب الدلو فإنه لا يضمن لأنه إذا تلفت العارية فيما استعيرت له فلا ضمان، فالقول الراجح أنه لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط وهذا لا إشكال فيه لو شَرَطَ عليه صاحبها الضمان وقَبِلَ فلا بأس ويُضَمَّن، على أنه في هذا الحكم قلق لأنه حكم مخالف لعقود الأمانات فإن كل أمين لا ضمان عليه لكن يجاب عن هذا بأنه هو الذي رضي لنفسه أن يضمنها وعليه فالعارية تضمن بالتعدي أو بالتفريط أو باشتراط الضمان.

القارئ: ولو تلفت ضمنها بقيمتها يوم تلفها لأن نقص قبل ذلك غير مضمون بدليل أنه لو ردها لم يضمنه فإن تلفت أجزاؤها بالاستعمال كخمل المنشفة ففيه وجهان أحدهما لا يضمنه لما ذكرنا والثاني يضمنه لأنه ما أجزائها فيضمنه كسائر أجزائها وإن تلف ولد العارية ففيه وجهان أحدهما يضمنه لأنه تابع لما يجب ضمانه فيجب ضمانه كولد المغصوب والثاني لا يضمن لأنه لم يدخل في العارية فلم يدخل في الضمان بخلاف المغصوبة فإن ولدها داخل في الغصب.

فصل

القارئ: والعارية عقد جائز لكل واحد منهما فسخها لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام وعليه ردها إلى المعير أو من جرت عادته أن يجري ذلك على يديه كرد الدابة إلى سائسها فإن ردها إلى غيرهما أو دار المالك أو اصطبله لم يبرأ من الضمان لأن ما وجب رده لم يبرأ رده إلى ذلك كالمغصوب.

ص: 334

الشيخ: لو قال المعير للمستعير إذا انتهى غرضك منها فضعها في بيتي فإنه لا يضمن فلو سرقت بعد أن وضعها فإنه لا يضمن لأنه فعل فعلاً مأذوناً فيه وكذلك لو جرت العادة المطردة بأن أصحاب العواري ترد عواريهم إلى محلاتها كرجل يعير السيارات وله كراج كبير ومن استعار وانتهى أتى بالسيارة وأدخلها بالكراج فإنه لا يضمن إذا سرقت من مكانها.

فصل

القارئ: ومن استعار شيئاً فله استيفاء نفعه بنفسه ووكيله لأنه نائب عنه وليس له أن يعيره لأنها إباحة فلا يملك بها إباحة غيره كإباحة الطعام.

الشيخ: وبهذا يعرف أن قول المؤلف فيما سبق أن العارية هي هبة المنافع غير سليم لأن الموهوب له أن يتصرف كما يشاء.

السائل: لو أن المستعير وضع العارية بإذن صاحبها في بيته لكنه لم يغلق الباب أو وضعها حيث يراها الناس فهل هو مفرط؟

الشيخ: هذا يكون بحسب العادة فإذا جرت العادة أن الكراج لا يغلق فيه الباب فهو غير مفرط.

السائل: لو استعار سيارة ليذهب بها إلي مكان بعيد ثم تعطلت السيارة فهل عليه أن يصلحها ويضمنها أم لا؟

الشيخ: المذهب عليه أن يصلحها ويردها سليمة كما أخذها والصحيح أنه لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط أو شُرِطَ عليه الضمان.

القارئ: فإن أعاره فتلف عند الثاني فللمالك تضمين أيهما شاء ويستقر الضمان على الثاني لأنه قبضه على أنه ضامن له فتلف في يده فاستقر الضمان عليه كالغاصب من الغاصب.

الشيخ: يقول المؤلف (للمالك تضمين أيهما شاء) هل يُضَمِّنُ المستعير الأول أو المستعير الثاني؟ الجواب يُضَمِّنُ مَنْ هو أقرب إلى الوفاء فإذا كان المستعير الأول فقيراً أو مماطلاً والثاني غني وَفِي فإنه سَيُضَمِّنُ الثاني ويقول له ارجع على صاحبك لأن القرار على الأول إذا لم يعلم الثاني، وإذا كان الأول هو الغني الوفي فَسَيُضَمِّنُ الأول وحينئذ لا يرجع الأول على الثاني لأن قرار الضمان عليه إلا إذا علم الثاني أنها معارة فيكون قرار الضمان عليه.

ص: 335

مسألة: توضيح للمسألة السابقة إذا استعار الشخص شيئاً فليس له أن يعيره غيره لكن لو فعل وأعار غيره وتلفت العارية عند الثاني فللأول وهو المالك أن يُضَمِّنَ أيهما شاء فهو بالخيار فإذا ضمن الثاني فإن الثاني يرجع على الأول إلا إذا علم أن الأول مستعير فهنا يكون الضمان عليه ولا يرجع على الأول، وإن ضَمَّنَ الأول فلا يرجع الأول على الثاني إلا إذا كان الثاني قد علم أن الأول مستعير فيكون قد شاركه في الإثم وقرار الضمان يكون على من تلفت في يده.

فصل

القارئ: وتجوز العارية مطلقة ومعينة لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام فإن أطلقها فله أن ينتفع بها في كل ما يصلح له فإن كانت أرضاً فله أن يبني ويغرس ويزرع لأنها تصلح لذلك كله وإن عين نفعاً فله أن يستوفيه ومثله ودونه وليس له استيفاء أكثر منه على ما ذكرنا في الإجارة.

فصل

ص: 336

القارئ: وتجوز مطلقة ومؤقتة وإن أعارها للغراس سنة لم يملك الغرس بعدها فإن غرس بعدها فحكمه حكم غرس الغاصب لأنه بغير إذن وإن رجع قبل السنة لم يملك الغرس بعد الرجوع لأن الإذن قد زال فأما ما غرسه بالإذن فإن كان قد شرط عليه قلعه لزمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) حديث حسن صحيح وإن شرط عليه تسوية الحفر لزمه للخبر وإلا لم يلزمه لأنه أذن في حفرها باشتراطه القلع ولم يشترط تسويتها وإن لم يتشرط عليه قلعه لكن لا تنقصه قيمته بقلعه لزم قلعه لأنه أمكن رد العارية فارغة من غير ضرر فوجب وإن نقصت قيمته بالقلع فاختاره المستعير فله ذلك لأنه ملكه فملك نقله وعليه تسوية الأرض لأن القلع باختياره لو امتنع منه لم يجبر عليه لأنه فعله لاستخلاص ملكه من ملك غيره فلزمته التسوية كالشفيع إذا أخذ غرسه وقال القاضي لا تلزمه التسوية لأن المعير دخل على هذا بإذنه في الغراس الذي لا يزول إلا بالحفر عليه وإن أبى قلعه فبذل المعير قيمته ليملكه أجبر على قبولها لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه الشفيع مع المشتري ولو بذل المستعير قيمة الأرض ليملكها مع غرسه لم يجبر المعير عليه لأن الغرس يتبع الأرض في الملك بخلاف الأرض فإنها لا تتبع الغرس فإن بذل المعير أرش النقص الحاصل بالقلع أجبر المستعير على قبوله لأنه رجوع في العارية من غير إضرار وإن لم يبذل القيمة ولا أرش النقص وامتنع المستعير من القلع لم يقلع لأنه أذن له فيما يتأبد فلم يملك الرجوع على وجه يضر به كما لو أذن له في وضع خشبه على حائطه ولم يذكر أصحابنا عليه أجرة لأن بقاء غرسه بحكم العارية وهي انتفاع بغير أجرة كالخشب على الحائط وذكروا في الزرع أن عليه الأجرة لمدة بقاء الزرع من حين الرجوع لأنه لا يملك الانتفاع بأرض بغيره بعد الرجوع بغير أجرة وهذا يقتضي وجوب الأجرة على صاحب الغراس بعد الرجوع وللمعير دخول أرضه كيف شاء لأن بياضها له لا حق للمستعير فيها

ص: 337

وللمستعير دخولها للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة لأن الإذن في الغراس إذن فيما يعود بصلاحه وأخذ ثمره وليس له دخولها للتفرج ونحوه ولا يمنع واحد منهما من بيع ملكه لمن شاء يكون بمنزلته لأنه ملكه على الخصوص فملك بيعه كالشقص المشفوع.

فصل

القارئ: وإن رجع في العارية وفي الأرض زرع مما يحصد قصيلاً حصده لأنه أمكن الرجوع من غير إضرار وإن لم يمكن لزم المعير تركه بالأجرة إلى وقت حصاده لأنه لا يملك الرجوع على وجه يضر بالمستعير وإن حمل السيل بذر رجل إلى أرض آخر فنبت فيها ففيه وجهان أحدهما حكمه حكم العارية لأنه بغير تفريط من ربه إلا أن عليه أجرة الأرض لأنه لا يجوز استيفاء نفع أرض إنسان بغير إذنه من غير أجرة فصار كزرع المستعير بعد رجوع المعير والثاني حكمه حكم الغصب لأنه حصل في ملكه بغير إذنه وقال القاضي ليس عليه أجرة لأنه حصل بغير تفريط أشبه مبيت بهيمته في دار غيره.

الشيخ: قول القاضي هو الصواب لأن السيل ليس باختياره وإنما حَمَلَ السيل البذر وظهر في الأرض فكيف نقول إن هذا حكمه حكم الغصب.

السائل: لماذا لا نقول إن صاحب الأرض الذي نزل الحب في أرضه بسبب السيل يدفع ثمن الحب لصاحبه؟

الشيخ: هذه مسألة ثانية، لكن نقول إنه ليس كالغاصب فيلزم بقلعه وإلا من المعلوم أنه لا بد أن يصطلحا على شيء ما.

فصل

ص: 338

القارئ: وإن أعاره حائطاً ليضع عليه أطراف خشبه لم يكن له الرجوع مادام الخشب على الحائط لأن هذا يراد للبقاء وليس له الإضرار بالمستعير فإن بذل المالك قيمة الخشب ليملكه لم يكن له لأن معظمه في ملك صاحبه فإن أزيل الخشب لتلفه أو سقوطه أو هدم الحائط لم يجز رده إلا بإذن مستأنف لأن الإذن تناول والوضع الأول فلم يتعد إلى غيره وإن وجدت أخشاب على حائط لا يعلم سببها ثم نقلت جاز إعادتها لأن الظاهر أنها بحق ثابت وإن استعار سفينة فحمل متاعه فيها لم يملك صاحبها الرجوع فيها حتى ترسي وإن أعاره أرضاً للدفن لم يملك الرجوع فيها ما لم يَبْل الميت لما ذكرنا.

السائل: قول المؤلف (وإن وجدت أخشاب على حائط لا يعلم سببها ثم نقلت جاز إعادتها) ما معنى هذا الكلام؟

الشيخ: صورة المسألة هذا رجل له جار وجاره قد وضع خشبه على جدار جاره ونحن لا نعلم هل هو اشترى الجدار أو اشترك معه في بنائه فتبقى الأخشاب لصاحبها لأن الأصل أنها وضعت بحق.

السائل: لو تلفت العارية وهو في سفر فإنه لا يضمن إلا إذا تعدى او فرط فلو كانت العارية سيارة وتلفت في السفر فهل يلزمه أن يسحبها ويرجعها لصاحبها؟

الشيخ: إذا كان يمكن أن تسحب وينتفع بها صاحبها فيجب عليه ذلك.

السائل: أجرة السحب تكون عليه أو على صاحبها؟

الشيخ: الأجرة عليه لأنه قبضها لمصلحته فعليه أن يردها إلى صحابها.

السائل: لو تلفت العارية عند الثاني وماطل الأول والثاني في الوفاء فما هو الحكم؟

الشيخ: يُرْجَعُ في ذلك للقاضي والحاكم.

السائل: هل للمستعير أن يعير غيره العارية لو علم أن صاحب العارية يرضى بذلك؟

الشيخ: لا بد أن يكون هناك إذن صريح فلو أن المستعير عرف أن صاحبه الذي أعاره يرضى أن يعيره فلاناً فإنه لا يعيره له، لكن يمكن أن يتسامح في الأمور اليسيرة.

فصل

ص: 339

القارئ: وإن استعار شيئاً يرهنه مدة معلومة على دين معلوم صح لأنه نوع انتفاع فإن أطلق الإذن من غير تعيين صح لأن العارية لا يشترط في صحتها تعيين النفع فإن عين فخالفه فالرهن باطل لأنه رهنه بغير إذن مالكه وإن أذن له في رهنه بمائة فرهنه بأقل منها صح لأن من أذن في شيء فقد أذن في بعضه وإن رهنه بأكثر منها بطل في الكل في أحد الوجهين لأنه مخالف أشبه ما لو خالف في الجنس وفي الآخر يصح في المأذون ويبطل في الزائد كتفريق الصفقة.

الشيخ: القول الراجح أنه إذا أعاره على شيء معلوم من الدين فرهنه بأكثر فإنه يبطل ما زاد فقط لأن المخالفة حصلت في الزائد وإلا فأصل الإعارة للرهن ثابت.

القارئ: وللمعير مطالبة الراهن بفكاكه في الحال سواء أجله أو أطلق لأن العارية لا تلزم.

الشيخ: قوله رحمه الله (وللمعير مطالبة الراهن) في هذا نظر لأنه إذا أذن له أن يرهنه فإنه يتعلق به حق شخص ثالث وهو المرتهن فكيف يقال للمعير أن يطالبه بفك الرهن! بل نقول إنه لا يجوز لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وقوله تعالى (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).

القارئ: وإن حل الدين قبل فكاكه بيع واستوفي الدين من ثمنه لأن هذا مقتضى الرهن ويرجع المعير على المستعير بقيمته أو مثله إن كان مثليا لأن العارية مضمونة بذلك ولا يرجع بما بيع به إن كان أقل من القيمة لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها وإن بيع بأكثر من قيمته رجع به لأن ثمن العين ملك لصحابها وقيل لا يرجع بالزيادة وإن تلف في يد المرتهن رجع المعير على المستعير ويرجع المستعير على المرتهن إن كان تعدى وإلا فلا فإن قضى المعير الدين وفك الرهن بإذن الراهن رجع عليه وإن كان بغير إذنه متبرعاً لم يرجع وإن قضاه محتسباً بالرجوع ففيه روايتان بناءً على قضاء دينه بغير إذنه.

ص: 340

الشيخ: سبق لنا أن القول الراجح أنه إذا قضى الدين بنية الرجوع فله أن يرجع سواء أذن المدين أم لم يأذن لأن المدين حصلت له الفائدة وهي إنفكاك ذمته من الدين والصورة التي ذكرها المؤلف في هذا الفصل ينبغي أن نعلمها نظرياً أما عملياً فلا، لأنه قد يحصل فيها تلاعب خصوصاً إذا قلنا إن للمعير أن يرجع في عاريته قبل وفاء الدين فقد يأتي إنسان ويستعير من شخص سيارة ويقول له أعرني إياها أرهنها بدين آخُذُهُ من فلان، فيأتي لفلان ويقول له هذه السيارة رهن. فيحصل بذلك تدليس وغش، وعليه نقول هذه المسألة نظرياً لا بأس أن نفهمها.

فصل

القارئ: إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال اعرتنيها فقال بل أجرتكها عقيب العقد والدابة قائمة فالقول قول الراكب لأن الأصل عدم الإجارة وبراءة ذمته من الأجرة وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة فالقول قول المالك لأنهما اختلفا في صفة نقل ملكه إلى غيره فأشبه ما لو اختلفا في العين فقال وهبتنيها وقال بل بعتكها فيحلف المالك ويجب له المسمى في أحد الوجهين لأنه ادعاه وحلف عليه والآخر تجب أجرة المثل لأنهما لو اتفقا على الإجارة واختلفا في قدر الأجرة لم يجب أكثر من أجرة المثل فمع الاختلاف أولى.

الشيخ: إذا اختلفا عقب العقد وذلك بأن قال له أعرتك أو أجرتك واختلفا فقال صاحب الدابة إني أجرتك وقال الآخر بل بل أعرتني فالقول قول المستعير لأنه لم يمض مدة لها أجرة والأصل براءته من الأجرة أما إذا مضى مدة لها أجرة كنصف اليوم وما أشبه ذلك فإن القول قول المالك لأن الأصل أن ملكه لا يخرج عنه إلا ببينة.

ص: 341