الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن ذلك فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نقرة الغراب وأن يوطن الرجل في المكان بالمسجد كما يوطن البعير1، قال المجد ابن الأثير في النهاية: معناه يألف مكانًا معلومًا من المسجد مخصوصًا به يصلي فيه كالبعير لا يأوي من عطن إلا إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخا يقال: أوطنت الأرض ووطنها واستوطنتها أي اتخذتها وطنًا ومحلًّا ومنه الحديث: "نهى عن إيطان المساجد" أي اتخاذها وطنًا. وفي شرح الإقناع يكره لغير الإمام مداومة موضع منه لا يصلي إلا فيه. وفي فتح القدير نقلًا عن النهاية للحلواني أنه يكره أن يتخذ في المسجد مكانًا معينًا يصلي فيه؛ لأن العبادة تصير له طبعًا فيه وتثقل في غيره والعبادات إذا صارت طبعًا فسبيلها الترك ولذا كره صوم الأبد. ا. هـ كلامه.
1 حديث حسن، مخرج في "صحيح السنن""808" وغيره.
19-
واجبات نظار المساجد:
يعلم كل أحد أنه ما من مكان موقوف مسجدًا أو غيره إلا وشرط له نظار يتولون أمر أوقافه وجباية ريعها، ويرى قارئ وقفيات المساجد والمدارس وغيرها ما يشرطه الواقف على من يتولى نظارة وقفه من الشروط وما يحذره به من الزيغ عن المشروط وما يخوفه به من حلول غضب الله عليه ووصول أليم العقاب إليه، ترى الواقف المسكين بما يشرطه ويحذر وينذر كأنه يتفرس ما سيئول إليه أمر وقفه من أكل ريعه وخراب جداره وسقفه فيقف وقفة المتأسف والجزع المتلهف. اقرأ ما قاله الوزير سنان باشا في وقفيته على جامعه الكبير بدمشق في شرط الناظر: أن يكون متوليًا عاقلًا أمينًا كاملًا ذا رأي رصين وفكر صائب رزين، معروفًا بالأمانة والديانة موصوفًا بالاستكانة، والصيانة يجد في تعمير الأوقاف وتحصيل الغلات ولا يفوت دقيقة في جهة من الجهات ثم قال في خاتمتها: ولا يحل لأحد ممن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر من حاكم
أو قاض أو وارث غائب أو حاضر تغيير هذا الوقف بعدما تقرر من نسقه المسطور المقرر ومن تعرض لتحويله وتغييره وسعى في إبطاله بتزويره فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ومأواه جهنم فيسقى فيها من حميم وغسلين. وهكذا كل وقفية يصرح الواقف باللعن على من غير وبدل وأكل الريع واستأكل، أترى هل أفاد ما شرطه وما هدد به من عذاب الله ولعنته وما ذكر عن نصوص كتاب الله وموعظته؟ كلا فقد أكلت الأوقاف وتسلط عليها من لا يراقب الله ولا يخاف وتهدمت بالفعل أكثر المدارس وأضحى أكثر المساجد كالشبح الدارس.
هذه مدارس "الصالحية" يندهش المار بها حينما يراها صارت بساتين وبيوتًا وما بقي منها فرسم شاخص وهذه ثلة من مساجد البلدة لا وقف عليها دار، ولا ناظر بها بار حقًّا إن هذا لمصاب وأي مصاب وإنه ممن يدعي الإيمان لعجب عجاب. أين تقوى الله أين الخوف من العرض أين الوجل من الفزع الأكبر أين الغيرة على الحقوق أين السعي وراء تنمية الموقوفات وإصلاح المرمات. وا أسفاه وإنا لله ما الحيلة لا يرد الفائت النحيب ولا يعيد الحياة حذق الطبيب بيد أن للأمل مجالًا في تراجع الأنفس عن غيها ونشر الواجبات بعد طيها.
واجبات النظار في نظارتهم وآدابهم المطلوبة من قبلهم واجبات كثيرة وآداب غزيرة لأجلها كانت تخفق قلوب الأخيار عن أن يعد أحدهم في مصاف النظار أذكر لك نبذة منها وقس ما شابهها عليها:
على ناظر المسجد أن يكون همه إصلاح المسجد وتعميره وتثمير أوقافه وتنميتها بما تصل إليه يد الإمكان وأن يكون غيورًا على انتهاك شيء من موقوفاته كما يغار التقي على انتهاك حدود الله وحرماته وأن يكون أمينًا على دخله فلا يخلطه بماله ولا يتساهل في بارة من ريعه. إذا دعت كثرة ريعه إلى جاب يجبي له المال فيختر أمينًا مستقيمًا مجدًا في السعي وليراقبه في عمله كيلا يقر على زلله وخلله، أو إلى كاتب فلينظر إلى كتب ماهر بالكتابة والحساب يكتب القليل والكثير ويحسب الدخل والخرج بغاية التدقيق.
وأن يتعاهد على المدى حال المسجد كيلا يقصر خادمه في كنسه وتنظيفه وحفظ فرشه وحصيره ولا يتهاون مؤذنه في أذانه ولا إمامه في إمامته ولا الشعال في تنويره.
وأن يتفقد العقارات وما تحتاج إليه من المرمات.
وأن يلاحظ أمر بيوت الطهارة وما يعروها من الخلل وما يتهدم من مجاريها وأن ينظر لأملاكه وما يتحصل منها ومن غلاته نظر العاقل الحكيم ويوازن ما بين قيمتها الآن وموردها من قبل فيرفع من رواتب القائمين بوظائف المسجد على نسبة ما رفع من قيم الأملاك والعقارات أو يتحقق أن الرواتب القديمة إنما كانت على حسب مظهر الزمان وحال أهله فكان يكفي ما رتب أولًا، وأن الحالة الحديثة تقتضي في الصرف أضعاف ما كان يكفي قبل، فيزيد الناظر في أجور قوام المسجد كما زيدت موارده ولا يكون هذا مخالفًا لشرط الواقف؛ لأن الراتب الشهري القديم إنما كان بالنسبة إلى أجور العقارات ومغلاتها السالفة فيحسب مقداره بالنسبة إلى مورده الأول ويقاس عليه حالته الآن ضرورة.
وقد اهتمت بعض الحكومات الإسلامية1 في هذا الموضوع كما قرأته في بعض مجلاتها، ومما قرأته:
أوقاف المسلمين تزداد ريعًا ونموًّا وغالب المساجد في خراب حسي ومعنوي ورأيت الخطيب والإمام اليوم كما كان منذ قرن أو قرون إذ كان مالك الألف يعد غنيًّا كبيرًا، والألف لا تشبع في سنتنا الحمار شعيرا.
وأن مساعدة أهل العلم والدين على معايشهم من أفضل المبرات التي تنشأ لها الأوقاف الخيرية لهذا كان من الموضوع المهتم به -يعني في تلك الحكومة- أن يجعل للإمام والخطيب راتب يتراوح بين خمسمائة قرش وثمانمائة قرش وللمؤذن والخادم راتب يرتقي إلى ثلاثمائة قرش وذلك بعد انتقائهم بحسب الشروط التي تؤهلهم للقيام بعملهم على أكمل وجه بهذا الفكر المهتم به تصرف
1 يشير إلى مصر في زمانه.
أموال الأوقاف المكنوزة في أفضل مصارفها بهذا تقام صلاة الجماعة على وجهها. بهذا تكون الخطابة مؤدية للحكمة التي شرعت لأجلها. بهذا تكون بيوت الله نظيفة طاهرة كما يليق بها. بهذا ينمو علم الدين بما وجد لأهله من المعاش الطبيعي الذي يليق بكرامتهم بعد أن اقفلت في وجوه المنقطعين له أبواب الرزق واحتقرهم الناس ولو بغير حق. ا. هـ. وليقس على ما ذكرناه ناظر وقف المدارس والتكايا وما شرط عليه من ترتيب الطعام وإيتاء الأجور على التمام والتورع عن القليل مما يشتبه عليه فضلًا عن الكثير ومن تدعيم البناء وتحديده إذا اقتضى الحال مثل ما كان وأحسن منه إذا كان الأول لم يبن على القواعد الصحيحة المرعية.
والجامع لكل ذلك تقوى الله ومراقبته وتحقق أن المؤمنين إخوة وأنه لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن السعادة الحقيقية هي السعادة الأخروية ونيل رضوان الله تعالى وأن الدنيا دار ابتلاء للتسابق في إحسان العمل، وأن من خالف وصايا الله وأكل أموال الناس ظلمًا فلا يكون عاقبته إلا النار وغضب الجبار وينحط إلى دركات الفجار فالسعيد من وفر حظه من أخراه والشقي من باع عقباه بدنياه.
بقي هنا كلمة أقولها للنظار المقصرين عن القيام بواجباتهم في رعاية بعض المساجد والمدارس: لو تبصرتم فيما يأتيه بقية الطوائف في تشييد معابدهم وتحسينها والقيام على رعايتها وتوفير دخلها وتثمير وارداتها كما يراه القارئ في التقويم السنوي الذي يطبع وينشر في مجلاتها لعلمتم أنكم الأحق بهذا ولا أزيدكم تصريحًا وفي هذا القدر كفاية.