الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: في الموازنة بين مذهب عمر وبقية الخلفاء والصحابة رضي الله عنهم
"وبين رأي عبد الله رضي الله عنه"
"في الأمكنة التي نزلها النبي صلوات الله عليه في سفره"
"وبيان حقيقة المتابعة"
قال تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة في الكتاب المنوه به قبل1 وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في سفر فرأى قومًا ينتابون مكانًا للصلاة فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلة فليصل وإلا فليمض"2. وبلغه أن قومًا يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها فأمر بقطعها. وأرسل إليه أبو موسى يذكر له أنه ظهر بتستر قبر دانيال وعنده مصحف فيه أخبار ما سيكون وأنهم إذا جدبوا كشفوا عن القبر فمطروا، فأرسل إليه عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا ويدفنه بالليل في واحد منها لئلا يعرفه الناس لئلا يفتنوا به، وفي الصحيحين عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم في مرض موته:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا، فاتخاذ القبور مساجد مما حرمه الله ورسوله وإن
1 ص120 الطبعة الأولى.
2 إسناده صحيح كما في "تحذير المساجد""ص97".
لم يبن عليها مسجد كان بناء المساجد عليها أعظم وكذلك قال العلماء: يحرم بناء المساجد على القبور ويجب هدم كل مسجد بني على قبر، وإن كان الميت قد قبر في مسجد وقد طال مكثه سوِّي القبر حتى لا تظهر صورته فإن الشرك إنما يحصل إذا ظهرت صورته، ولهذا كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أولًا مقبرة للمشركين وفيها نخل وخرب فأمر بالقبور فنبشت وبالنخل فقطع وبالخرب فسويت فخرج عن أن يكون مقبرة فصار مسجدًا. ولما كان اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد عليها محرمًا لم يكن شيء من ذلك على عهد الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يكن يعرف قط مسجد على قبر.
ثم قال عليه الرحمة: والمقصود ههنا أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يبنوا قط على قبر نبي ولا رجل صالح مسجدًا ولا جعلوه مشهدًا ومزارًا ولا على شيء من آثار الأنبياء مثل مكان نزل فيه أو صلى فيه اتفاقًا بل كان أئمتهم كعمر بن الخطاب وغيره ينهى عن قصد الصلاة في مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقًا لا قصدًا، وإنما نقل عن ابن عمر خاصة أنه كان يتحرى أن يسير حيث سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وينزل حيث نزل ويصلي حيث صلى وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بتلك البقعة لذلك الفعل بل حصل اتفاقًا. وكان ابن عمر رضي الله عنهما رجلًا صالحًا شديد الاتباع فرأى هذا من الاتباع. وأما أبوه وسائر الصحابة من الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان وعلي وسائر العشرة وغيرهم مثل ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب فلم يكونوا يفعلون ما فعل ابن عمر. وقول الجمهور أصح وذلك أن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل، فإذا قصد الصلاة والعبادة في مكان معين كان قصد الصلاة والعبادة هو في مكان متابعة له، وأما إذا لم يقصد تلك البقعة فإن قصدها يكون مخالفة لا متابعة له. مثال الأول لما قصد الوقوف والذكر والدعاء بعرفة ومزدلفة وبين الجمرتين كان قصد تلك البقاع متابعة له، وكذلك لما طاف وصلى خلف المقام ركعتين كان فعل ذلك متابعة له، وكذلك لما صعد على الصفا والمروة للذكر والدعاء كان قصد ذلك متابعة له.
وقد كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة قال: لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها1 فلما رآه يقصد تلك البقعة لأجل الصلاة كان ذلك القصد للصلاة متابعة. وكذلك لما أراد عتبان بن مالك أن يبني مسجدًا لما عمي رسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إني أحب أن تأتيني تصلي في منزلي فاتخذه مصلى فجاءه صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين في ناحية من البيت2 فهذا المكان مكان قصد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه ليكون مسجدًا. فصار قصد الصلاة فيه متابعة له بخلاف ما اتفق أنه صلى فيه بغير قصد، وكذلك قصد يوم الاثنين والخميس بالصوم متابعة لأنه قصد صوم هذين اليومين، وكذلك قصد إتيان مسجد قباء متابعة له فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا وذلك لأن الله أنزل فيه:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} مع تناوله كل مسجد أسس على التقوى بخلاف مساجد الضرار ولهذا كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه ذلك ويرون العتيق أفضل من الجديد؛ لأن العتيق أبعد أن يكون بني ضرارًا من الجديد الذي يخاف ذلك فيه. وعتق المسجد مما يحمد به ولهذا قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق} وقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} فإن قدمه يقتضي كثرة العبادة فيه أيضًا وذلك يقتضي زيادة فضله.
ثم قال عليه الرحمة: والمقصود هنا ذكر متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه يعتبر فيه متابعته في قصده فإذا قصد مكانًا للعبادة فيه كان قصده لتلك العبادة سنة، ولهذا لم يكن جمهور الصحابة يقصدون مشابهته في ذلك وابن عمر رضي الله عنهما مع أنه كان يحب مشابهته في ظاهر الفعل لم يكن يقصد الصلاة إلا في الموضع الذي صلى فيه لا في كل موضع نزل به.
ولهذا رخص أحمد بن حنبل في ذلك إذا كان شيئًا يسيرًا كما فعله ابن عمر ونهى عنه رضي الله عنه إذا كثر؛ لأنه يفضي إلى المفسدة وهي اتخاذ آثار الأنبياء مساجد وهي التي تسمى مشاهد، وما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على
1 صحيح، أخرجه الشيخان وأحمد "4: 48" عن سلمة بن الأكوع، وإسناد أحمد ثلاثي.
2 أخرجه الشيخان.
القبور والآثار فهي من البدع المحدثة في الإسلام من فعل من لم يعرف شريعة الإسلام وما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد وإخلاص الدين لله وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبني آدم ولهذا يوجد من كان أبعد عن التوحيد وإخلاص الدين لله ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيمًا لمواضع الشرك، فالعارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتوحيد وإخلاص الدين لله وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشرك والبدع، ولهذا يوجد ذلك في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم؛ لأنهم أجهل من غيرهم وأكثر شركًا وبدعًا ولهذا يعظمون المشاهد أعظم من غيرهم حتى قد يرون أن زيارتها أولى من حج بيت الله الحرام ويسمونها الحج الأكبر وصنف ابن المفيد منهم كتابًا سماه مناسك حج المشاهد وذكر فيه من الأكاذيب ما لا يوجد في سائر الطوائف وإن كان في غيرهم أيضًا نوع من الشرك والكذب والبدع لكن هو فيهم أكثر، وكلما كان الرجل أتبع لمحمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم توحيدًا لله وإخلاصًا له في الدين وإذا بعد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك. ثم أهل المشاهد كثير من مشاهدهم وأكثرها كذب فإن الشرك مقرون بالكذب في كتاب الله كثيرًا قال تعالى:{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله"1 قالها ثلاثًا وذلك كالمشهد الذي بني بالقاهرة على رأس الحسين هو كذب باتفاق أهل العلم ورأس الحسين لم يحمل إلى هناك أصلًا وأصله في عسقلان، وقد قيل إنه رأس راهب ورأس الحسين لم يكن بعسقلان، وإنما أحدث هذا في أواخر دولة الملاحدة بني عبيد وكذلك مشهد علي رضي الله عنه، إنما حدث في دولة بني بويه. وقال محمد بن عبد الله وغيره: إنما هو قبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه إنما دفن في قصر الإمارة بالكوفة ودفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر خوفًا عليهم إذا دفنوا في المقابر البارزة أن ينبشهم الخوارج المارقون. انتهى كلام تقي الدين بحروفه.
1 حديث ضعيف أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي وضعفه الترمذي، وبينت علته في "تخريج الترغيب" "3: 166".