الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: في الدروس الخاصة والعامة
وفيه مباحث
1-
تعصب بعض المدرسين:
يدرس كثير من العلماء للطلبة في المساجد. وهؤلاء المدرسون ندر من يكون منهم غير متعصب أو لا يوجد، ولذلك لا تخلو المساجد العامة التي يكثر مدرسوها من ثورات علمية تتناقلها الأفواه وما منشؤها إلا التعصب وهاك بيان ذلك:
ترى مدرس الفقه غير الحكيم يقرأ الفروع قراءة مشوبة بهضم المخالف لمذهبه وعدم رؤياه بشيء وعدم الاعتداد بمذهبه كليًّا إلا ظاهرًا فلا ينصرف تلامذته من درسه إلا وهم ممتلئون قوة بها يدافعون من خالفهم في تلك الفروع وقد يرون بطلان ما عليه غيرهم كما يعلمونه في كراهة الاقتداء بالمخالف مما يتبرأ منه هدي السلف والأئمة المتبوعين عليهم الرحمة والرضوان وكما يحاولون ويحاورون في تقوية دليل ضعيف في مقابلة قوي كمرسل في مقابلة مسند وإيثار ما رواه غير الشيخين على ما روياه مما يتبرأ منه الإنصاف الذي يطرح لديه كل اعتساف، فالواجب في تعليم الفقه لمن لم يكن له قوة النظر في الدليل أن يلقن تلك الفروع لتلامذته ويغرس في قلوبهم أولًا حب الأئمة وكل المجتهدين سواء المدونة فروعهم أو غيرهم، ثم يبين أن ما يدرسه الآن هو فروع مذهب الإمام الفلاني وأنه آثر قراءته لأنه على مذهبه نشأ مع اعتقاد
أن من خالفنا في المذهب على خير وهدى وتقوى وكلهم أتباع دين واحد وكتاب منزل واحد وأنّا ببركة الدين إخوان في اليقين وأن الاقتداء بالغير صحيح وتقليده جائز ما دمنا لا نقدر على الأخذ من الأصلين وأن البعثة النبوية إنما كانت لتأليف القلوب وجمعها لا لتناكرها وتنافرها وهكذا فيمتلئ فؤاد الطالب حبًّا للأئمة ولأتباعهم وللآخذين بأقوالهم فلا تراه بعدها يشن الغارة على مخالفه ولا يحط من كرامة غيره ولا يتخذ الفقه سلاحًا يقاتل به عن متبوعه، بل تراه فقيهًا تنبيهًا صالحًا كاملًا مجلًا للسلف ولكل من تقلد من أقوالهم أو رأى رأيهم عملًا بما قيل "وكلهم من رسول الله ملتمس" وكذلك مدرس الحديث يجب عليه أن تكون طريقته محو التعصب والقيام على تأليف القلوب ولطالما كان يشتكي العقلاء من قارئي كتب الحديث تعصبًا يفضي إلى ما هو شر من تعصب الفقيه وذلك لأن قارئه المتصدي لإسماعه إذا كان غير حكيم فقد يقرأ الحديث -وناهيك جلالته في القلوب- ويكون مما يستدل به على حكم مختلف فيه فتراه هناك إذا كان موافقًا لمذهبه يأخذ في شرحه وما يستفاد منه ويهش له وتبرق أسارير وجهه وقد يكون في مجلسه مقلد لم ير أمامه هذا الحديث دليلًا لما قام لديه والمقلد بعد لم يتنور فكره بالتبصر التام فتراه علته كآبة وربما أخذته رعدة تألمًا من أن يحتج على مذهبه أو يضعف دليله، وإذا كان في المجلس عدد وهم مختلفون في المذهب ومقلدون على ما شرحنا فلا تسمع إلا صيحات ومناقشات وتمحلات واعتسافات مدافعة عن المذهب، وقد يكون الشيخ مع أحد الفريقين، فترى الحديث المصان، كأنه أكره بين أيدي صبيان، مما تتفطر له أفئدة العقلاء. فالطريقة العليا في رفع هذا الخلاف، وجذب الأفئدة إلى الائتلاف هو أن يكون الشيخ متهيبًا في مجلسه، وقورًا في قراءته، حكيمًا في أسلوبه، فإذا ورد عليه حديث يعلم أن من الأئمة من تمسك بغيره وتوبع عليه أن يقول دل هذا الحديث على كذا وبه أخذ الإمام فلان عليه الرحمة وقد تمسك غيره بحديث آخر إما لأنه لم يبلغه أو بلغه ورأى غيره أقوى من هذا فإن أنظار الأئمة دقيقة وليس الأخذ بالصحيح بمجرد كونه
روي في الصحاج فقط بل لا بد للاحتجاج به من شروط أخرى معروفة في الأصول.
ومعلوم أن الأئمة قصدهم حماية الدين النبوي وحفظه والرغبة في التمسك به لا الحيادة عن سبيله حاشا فحينئذ من تمسك بما قرأناه الآن فهو على هدى وبينة ومن تمسك بغيره فهو على هدى وبينة. ثم يقول لهم: بقي أن التراجيح دقيقة فقد يرجح إمام ما لم يرجحه الآخر لاختلاف مشاربهم وحينئذ فلا ملام على إمام. نعم قد يؤسف لمن يرى قوة أحد المأخذين ويتعسف في التأويل لمجرد التقليد فحق العاقل الذي منح هذه المنحة العظمى منحة العقل، منحة نور الفهم والتمييز أن ينظر كما نظروا ويفحص كما فحصوا. فإذا تبين له قوة دليل اعتنقه لكونه الحق لا تحزبًا لفلان بل وقوفًا مع الأقوى فإن الرجال تعرف بالحق لا الحق بالرجال. وهكذا يرشدهم بلطف ويجمع قلبهم على الحب ويأخذ بأيديهم إلى النظر الصحيح، أما من يبقى على تعصبه وتحزبه بلا تأويل صحيح ولا إرشاد ولا رغبة في الصحيح والقوي أو اهتمام أعمال الفكر في ذلك فيحرم عليه قراءة الحديث حرمة لا يرتاب فيها أحد لأنه يكون عرض كلام الرسول صلوات الله عليه لتمزيق حواشيه والتلاعب فيه، ومثاله مثال من عرض سلعة على راغب عنها، ومعلوم ما في ذلك1.
بقي شيء آخر في مدرس الحديث وهو أن يكون ممن يقرأ الصحيحين ويكون روى في غيرهما رواية تخالف ما فيهما فتراه يأخذ في الجمع بينهما مع أن الرواية الأخرى ما هي على شرط الصحيح ولا يحتاج إلى النظر فيها
1 قلت: في هذا التحريم نظر بَيِّن عندي، وطرده يودي إلى تحريم تلاوة القرآن أيضًا على مثل هذا المتعصب، ولا يخفى ما فيه. والصواب، أن يؤمر بقراءة الحديث والتفقه فيه والعمل به، وينهى عن التعصب لمذهبه، وتكلف تأويل الحديث من أجله. "ناصر الدين".
فضلًا عن الجمع1 وقد تكون الأخرى ضعيفة أو منكرة لأمور يعلمها الراسخون فأي حاجة لذكرها والتقصي عنها، وقد يقال إن الشراح ذكروها ولا يخفى أن ليس كل ما يذكره الشراح بالواجب اتباعه والمشي عليه فالمتصدي إذ لم يضم إلى الفقه علومًا أخرى من تاريخ وطب وأصول وحكمة وذوق لسر التشريع وإلا فلا تراه إلا يخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء.
هذا تعصب مدرسي العلوم النقلية ولا يقل عنه تعصب مدرسي العلوم العقلية، فكثيرً ما ترى من يتعصب في النحو للبصريين ويرد ما رآه الكوفيون وإن وضحت شواهدهم مع أن هذا خلاف الانصاف فالحكيم هو المتبع للشاهد العربي والمتبرئ من تكلف تأويله وما ألطف ما قال أبو حيان: ما تعبدنا الله باتباع مذهب البصريين ولا الكوفيين ولكن بالدليل القوي. أو كلامًا هذا معناه. وهكذا قارئ الأصول فقد يتحزب لما في الكتاب مما صححه مؤلفه أو ضعفه بدون نظر وتأمل وكله خلاف الحكمة، فالواجب على المدرس النظر الصحيح والبحث بالعقل والحكمة من غير لوم أو حط من كرامة وتدريب صحبه على ذلك وغرس الود والحب في قلوبهم وتدعيم ذلك بتقوى الله تعالى والإنابة إليه والتوكل في كل حال عليه.
2-
تساهل بعض المدرسين في الدروس العامة:
للتدريس العام أهمية عظمى في القيام على تثقيف العقول وتهذيب الأخلاف لذلك يحتاج المتصدي للقيام بواجبه أن يكون حكيمًا واسع الاطلاع وقافًا
1 قلت: هذا خلاف ما هو مقرر في "علم المصطلح" من وجوب الجمع بين الحديثين المتعارضين ما داما من قسم المقبول، وهو يشمل الصحيح والحسن كما بينه الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة"، لا سيما وبعض الأحاديث في السنن وغيرها قد تكون في الصحة مثل بعض ما في "الصحيحين" وتارة أعلى. فتأمل. "ناصر الدين".
على الفروع المختلف فيه ناهجًا منهج التيسير المعروف من الأصول الصحيحة وبقدر تمكنه من ذلك ووفور عقله بقدر أخذه بيد الناس إلى الصواب وهدايتهم إلى السنن القويم فمن أهم واجباته أن ينتقي من الكتب التي يقرؤها عليهم ما يجمع بين العبادات والمعاملات والأخلاق جمعًا مجردًا عن شوائب الواهيات والضعاف والخرافيات والمسائل الفرضيات والغرائب الفضوليات والتي بطلت ببطلان صفة الزمان أو المكان وذلك لأن رواية الأحاديث الضعيفة كما ذكره الإمام مسلم في مقدمة صحيحه محظورة وأن راويها غاش آثم، وفي محكم الكتاب وصحاح السنة كفاية عن تقحم أبواب الواهيات من الآثار والنقول على الرسول الأكرم صلوات الله عليه، وليس الدين في حاجة إليها لإكماله ولا للترغيب ولا للترهيب كما زعمه الوضاعون عليهم ما يستحقون، فإن أصل الكتاب الكريم لم يفرط فيه من شيء كما نطقت بذلك آيات ذكره الحكيم، وقد صرح أئمة المصطلح بأنه لا يجوز في الحديث الضعيف أن يقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الخرافيات وهي كل حكاية لا يقبلها العقل السليم وينبذها العلم الصحيح فلا يجوز قصها على العامة لا لترويح النفس ولا للإغراب فضلًا عن الاعتقاد بصحتها وربما يعتذر بعضهم بأنها مروية في كتاب كذا ولا يخفى عليك أنه ليس كل ما دون مما يسوغ ذكره وليس كل تأليف متمخضًا للصحيح من الأنباء فقد حشيت التفاسير وكتب السير وأسفار الوعظ والرقائق وكثير من الشروح والحواشي من الأقاصيص الموضوعة والحكايات الملفقة والمسائل المولدات ما لا يحصيه قلم كاتب. فالواجب إذن على المتصدي للتدريس أن يعرض عنها جانبًا ويهذب درسه للصحيح من الأصوال والمهم من الفروع وإلا فإنه يكون جنى على الدين جناية لا تغتفر1.
1 في كتاب "مختصر الفوائد المكية" للسيد علوي السقاف ذكر في خاتمتها التنبيه على بعض الكتب وأحاديث وحكايات لا ينبغي الاشتغال بها نقلًا عن "المشرع الروي": ويمنع=
وأما المسائل الفرضيات فالوقت أثمن من أن يصرف فيها ولا فائدة فيها عاجلة ولا آجلة وليس توليدها من سعة العلم كما يتوهمه الأغرار، بل هي شين في وجنة العلم إنما سعة العلم بالوقوف على أصول الدين وأسراره ودقائق ما تشير إليه الآيات القرآنية التي لا تنتهي فوائدها والتي ينبغي صرف العمر في اجتناء ثمراتها وإعمال الفكر في جواهرها ودررها.
وأما الفضوليات أعني سوق مسألة من فن وضمها إلى فن لا مناسبة لها ولا يقتضيها المقام فكذلك مما ينبغي تهذيب الفن والدرس منها كي لا تختلط المواضيع، ولقد كان يشكو إلى كثير ممن يحضر ببعض دروس الحشوية ويراه يخوض في مسائل هندسية واقيسة منطقية وسرد عبارات فلسفية مما لا يعود على العامة بشيء ما بل ولا العلماء في محفل التدريس العام؛ لأنها من الأمور التي تحقق في الدروس الخاصة للطلبة في كتبها. نعم ربما كانت الفائدة أن يقال إن هذا المدرس واسع الحفظ يحكي علومًا غريبة أو "ما يغرق سامعه في بحره" كما تحكيه العامة وهذا هو الرياء المحيط للأعمال نسأله تعالى العافية.
وأما المسائل التي بطلت باختلاف الزمان والمكان فهي كثيرة تمر بقارئ كتب القرون المتقدمة مما كان حلية زمانهم أو مكانهم أو علاج عصرهم فكله مما لا يلزم ذكره، وإنما يمشي مع حالة الزمان والمكان إذ القصد الفائدة وأي فائدة في ذكر ما لا يعلم الآن أو يعلم ولا يعمل به أفليس من إضاعة الوقت سدى الخوض فيه. وليقس ما لم يذكر على ما ذكرناه. وإنا لنود لإخواننا المتصدين للإرشاد أن لا يكونوا مضغة في أفواه أبناء العصر النبهاء بما ينتقدون
= في المسجد ما ذكره المؤرخون من قصص الأنبياء كفتوح الشام للواقدي فإن غالبه موضوع أو مأخوذ ممن لا يوثق به "ثم قال السقاف" ومن ذلك تعلم حرمة قراءة نزهة المجالس ونحوها مما اختلط الباطل فيه بغيره حيث لا مميز لأن الإمام برهان الدين محدث دمشق شنع على قارئها خصوصًا في مجامع الناس وقدم جملة من أحاديثها لجلال السيوطي يستفتيه فيها فأجابه بأن فيها أحاديث واردة بعضها مقبول وبعضها فيه مقال وعدها أربعين حديثًا ثم قال وما عدا ذلك من الأحاديث المسئول عنها فمقطوع ببطلانه. ا. هـ.
عليهم مما ذكرناه ومن غيره وذلك حفظًا لشرف مظهرهم وما ألطف ما روي عن مال: "العالم البصير بزمانه" وفقنا المولى وإياهم.
3-
توسيد التدريس إلى غير أهله:
يعلم كل أحد أن الذي يناط به التدريس العام والخاص هو المأذون له في ذلك المشهود له المعروف فضله وأثره، فمثله يوسد إليه التدريس ليقوم على أخلاق الأمة بالتهذيب وينشر بينهم العلم الصحيح والهدي النبوي والفقة في الدين وتفسير التنزيل واستخراج الفوائد بالإفادة والتعليم، وهذا من البديهيات التي لا حاجة للتنبيه عليها لأنها من المغروزة في الفطر والجبلات، ولكن من الأسف أن ينكب الخلف عن طريقة السلف فكم تواتر النقل وشاهد الحس أفاضل كانوا نجومًا في العلم قادة للفضل تشرق بهم معاهدهم وتؤمهم من الأقاصي طلابهم، ثم إن خلفهم أهملوا هدي سلفهم ونكبوا على نهجهم وأضحوا يشار إليهم بالبنان في الجهل وسقم الفهم، بل ثم من الدعوى في العلم ما يقصر عنها مناط الثريا وإن كانت في أسفل دركات الثرى هذا بدلًا عن الاجتهاد في التحصيل وإحياء ربوع العلم الجليل والسعي وراء الاستفادة والتجافي عن المضاجع بالحفظ والإفادة نعم لهم سمر في شراب الشاي وسماع النشيد ونفخ الناي وإماتة الوقت باللغو وحكايات المساخر واللهو وما نال فلان من الرتب وما أخذ من النياشين وفلان زار الباشا فقعد في حجرة الخدم والبوابين وهكذا فواأسفاه على معاهد السلف العلمية التي أخذت بالإرث فغدت شبحًا بلا روح ولفظًا بلا معنى فصار يرث الابن أباه وإن كان أجهل الجاهلين وينصب للإرشاد وإن كان أفسق الفاسقين. وما السبب إلا سيطرة الجهلاء وتسنمهم مراتب الأمر والنهي على جهلهم الفاضح وعوارهم الواضح من ضرورة تقدم هؤلاء تقديمهم أمثالهم وبيعهم دينهم بدنياهم تغريرًا للناس وتمهيدًا
يسعون في الحط من كرامتهم وانتظار الفرص للإيقاع بهم فإنا لله ولا قوة إلا بالله.
4-
عدم جواز توسيد التدريس لغير الأهل وأنه لا تصح توليته ولا إعطاؤه الراتب المعلوم:
كتب بعضهم1 تحت عنوان "المدرسون وطلبة العلوم" جاء منها: فكم طرأت مسامعي شكوى عامة الناس من جهل الذين تصدروا للتدريس والوعظ. ولما كان تأخير الامتحان مما أخر العلم والدين جئت بهذه المقالة أنبه أفكار الناس وألفت أنظار اللجنة التي ستعين بحسب المادة "111" من القانون الأساسي فتخلص المدارس من أيدي غير الأكفاء، وبديهي أن المدرسين والوعاظ الذين حينما توفي آباؤهم استولوا على وظائف "معاش" التدريس من غير استحقاق وأضاعوا آمال الفقراء من الطلبة وجعلوهم يعتقدون أن العلم يزق زقًا مثل زق الحمام أو ينتقل بطريق الإرث بين المخلفات من متاع وعقار ولا يخفى على حملة العلم أن السلف الصالح وقف تلك الوظائف ترغيبًا لطلبة العلم والعلماء، فمن الأسف والعار العظيم أن نرى بعض الخائنين جعلوها كالملك يتوارثونها الأبناء بعد الآباء ويتقاسمونها بالقراريط فحرموا بعملهم هذا أولئك المساكين واضطروهم إلى ترك تحصيل العلوم والسعي وراء الرزق في طلب الحياة الدنيا.
فبلدة كدمشق خرج منها ابن عساكر وابن تيمية وابن عابدين وكثير من مشاهير العلماء الذين انتشرت علومهم في الآفاق أصبحت محرومة من العلم والعلماء بسبب تأخير الامتحان وحصر رواتب العلم في عائلات معلومة وقد فات أولئك الظالمين ومن نصب هؤلاء على منصات العلم أن الأمة ستفيق من
1 في جريدة "المقتبس" الدمشقية عدد 45.
رقادها وتطالب بحقوقها وترجع إلى أقوال الفقهاء المتقدمين فتجد خلاصًا من الذين حطوا بقدر الدين وكانوا عارًا على الإسلام والمسلمين.
فيا مدعي العلم زورًا وبهتانًا هل تنازلت عن عرش جهلك ونظرت إلى حاشية ابن عابدين وصادف نظرك الصحيفة "392" من الجزء الرابع فرأيت ما جاء بالحرف: "وفي الأشباه: إذا ولى السلطان مدرسًا ليس بأهل لم تصح توليته لأن فعله مقيد بالمصلحة ولا مصلحة في تولية غير الأهل وإذا عزل الأهل لم ينعزل. وقال وفي معيد النعم ومبيد النقم: المدرس إذا لم يكن صالحًا للتدريس لم يحل له تناول المعلوم ثم قال: وإنه إذا مات الإمام والمدرس لا يصلح توجيه وظيفته على ابنه الصغير. ا. هـ" وقد جوز بعضهم إبقاء أبناء الميت ولو كانوا صغارًا على وظائف آبائهم من إمامة وخطابة وغير ذلك عرفًا مرضيًا؛ لأن فيه إحياء خلف العلماء ومساعدتهم على بذل الجهد في الاشتغال بالعلم فقال ابن عابدين رحمه الله: "وقيدنا ذلك بما إذا اشتغل الابن بالعلم أما لو تركه وكبر وهو جاهل فإنه يعزل وتعطى الوظيفة للأهل لفوات العلة. ا. هـ"
أفبعد هذا نصبر على جهل الجاهلين ونتركهم في مناصب العلم يأخذون الرواتب ويدعون حماية الدين وقد هتكوا حرمة الدين ولذلك أرى أن عزل كل جاهل من منصبه ونصب أولي الفضل والعلم مكانهم أمر لازم وفرض عين على أننا لو نظرنا لما نقله ابن عابدين "إذا لم يكن صالحًا للتدريس لم يحل له تناول المعلوم" يجب علينا استرداد ما أخذه الجهال بطلًا وإرجاعه إلى وقف المدرسة أو الجامع ليصرف على المصلحة العامة.
5-
تنازل كثير من الأخيار عن وظائفهم بالتوكيل أو الاستقالة:
لا يحصى ما يمر بقارئ تراجم الأخيار في أسفار التاريخ من توكيل كثير من الموظفين للتدريس أو للإمامة أو تنازلهم عن ذلك لمن هو أكفأ أو أمثل
حتى في باب القضاء بل الملك ولا أقدر الآن أن أسبر أسماءهم لأن ذلك يحوج إلى كتاب على حدة إلا أني أذكر نموذجًا مما أثر عن وجهاء الشاميين وأعيانهم من هذه المكارم في القرن الماضي لأن الحاجة إلى تعريف إخواننا الشاميين مكارم سلفهم أمس بالمقام لأن الكتاب مؤلف لهم أولًا وبالذات ولغيرهم ثانيًا وبالعرض فأقول من ذلك تنازل أحد المفتين من بني المرادي في أوائل القرن الماضي عن تدريس "كتاب الهداية" في الفقه الحنفي في التكية السليمانية كل خميس من شهري رجب وشعبان للشيخ المحدث الشهير الشيخ أحمد العطار واستعاضة المذكور عن الهداية بقراءة صحيح البخاري لكون المذكور شافعيًّا، وقد عد صنيع المفتي هذا من عقله وحكمته لكون المذكور كان منقطعًا للقراءة والإقراء.
ومن ذلك تنازل السيد محمد العطار -أحد أجداد بني الحسيبي- عن تدريس صحيح البخاري تحت قبة النسر لما سعى في توجيهه عليه إلى الشيخ يوسف الشهير بابن شمس وقراءة المذكور عنه بالوكالة إلى وفاته.
ومن ذلك نزول الوجيه أحمد أفندي المنيني عن تدريس الحديث تحت قبة النسر بعد صلاة الجمعة إلى العلامة الشيخ سعيد الحلبي وقراءة المذكور عنه إلى وفاته ثم قراءة ابنه الشيخ عبد الله الحلبي بالوكالة عن ابن صاحب الوظيفة إلى أن نفي في حادثة الشام سنة 1276 المعروفة.
وذلك من نزول أبي السعود أفندي المرادي عن وظيفة الفتوى بدمشق لما وجهت عليه بعد وفاة أبيه حسني أفندي المرادي ورغبته من والي دمشق اختيار مفت وإصراره على ذلك وإباؤه أشد الإباء إلى أن اختير طاهر أفندي الآمدي وعين مفتيًا للشام.
هذا ما نحفظه ونأثره عن أشياخنا وكله مما يشف عن عقل وفضل بل وإراحة نفس من عناء ما قد لا يتفرغ له أو يكون الساخط عليه فيه أكثر من الراضي. أين هذا من التكالب والتماوت على نقل ما كان لسلفهم إليهم
والسعي وراءه وإن كانوا ليسوا له بأهل وكم من منصب بيع لصغير وجاهل لنقده فيه من الأصفر الرنان ما أبكم من أولئك كل لسان. إلا أن التاريخ بالمرصاد فهو لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فرحم الله من عرف قدره، ولم يتعد طوره.