المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ خروج الجمعة عن موضوعها بكثرة تعددها: - إصلاح المساجد من البدع والعوائد

[جمال الدين القاسمي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة الناشر

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌مقدمة الكتاب:

- ‌مقدمات:

- ‌الباب الأول: في بدع الصلاة في المساجد

- ‌الفصل الأول: في بدع صلاة الجمعة

- ‌المحدثات في خطبة الجمعة

- ‌ صلاة الظهر جماعة عقب صلاة الجمعة:

- ‌ خروج الجمعة عن موضوعها بكثرة تعددها:

- ‌ خصائص الجمعة في العهد النبوي وفي عهد الخلفاء الراشدين:

- ‌ أداء الجمعة في حجرة ورفض الصفوف:

- ‌ أدب الخطب والخطباء:

- ‌ دعاء المؤذن بين الخطبتين أثر جلوس الخطيب:

- ‌ الأحاديث المروية على المنابر في فضل رجب:

- ‌ التمسح بالخطيب إذا نزل من المنبر:

- ‌الفصل الثاني: في بدع محدثة في الصلاة

- ‌الجهر بالنية قبل تكبيرة الاحرام

- ‌ صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة:

- ‌ إساءة الصلاة:

- ‌ رفض الجماعة الأولى لانتظار الثانية:

- ‌ الإفتئات على الإمام الراتب:

- ‌ صلاة جماعتين فأكثر في محل واحد يشوش بعضهم على بعض:

- ‌ بدعة السجدتين بعد الصلاة بلا سبب مشروع:

- ‌ التأخر عن الصفوف في الرفوف:

- ‌ المسيئون صلاة التراويح:

- ‌ انفراد المصلين للوتر عن القدوة بإمام التراويح المخالف لمذهبهم:

- ‌الفصل الثالث: في آداب الإمام والقدوة

- ‌الباب الثاني: في البدع المادية

- ‌الفصل الأول

- ‌زخرفة المساجد

- ‌ كثرة المساجد في المحلة الواحدة ومزية المسجد العتيق:

- ‌الفصل الثاني: تنوير المساجد في الأشهر الثلاثة وغيرها

- ‌زيادة التنوير ليلة أول جمعة من رجب

- ‌ زيادة التنوير ليلة النصف من شعبان ونشر فضائلها وقراءة أدعية فيها:

- ‌ زيادة التنوير في رمضان:

- ‌ إبقاء المصابيح متقدة إلى الضحوة أيام العيد:

- ‌الفصل الثالث:

- ‌ المقاصير والدرابزين في المسجد:

- ‌ كرسي القارئ في المسجد والتشويش بالقراءة عليه وقصد الدنيا بالقرآن:

- ‌الباب الثالث: في الأدعية والأذكار والقصص في المساجد

- ‌الفصل الأول

- ‌السماع في المسجد

- ‌ الذاكرون المغيرون للفظ الجلالة:

- ‌ رفع الصوت في المسجد بذكر أو غيره:

- ‌ تحقيق وقت السحر، وما ينتقد على قارئي ورده في المسجد:

- ‌ الاحتراز عن البدع في الاحتفال بقراءة المولد النبوي:

- ‌ التحلق لحديث الدنيا في المسجد:

- ‌ كتابة آيات السلام ليلة آخر أربعاء من صفر الخير:

- ‌ القصاص في المساجد:

- ‌الفصل الثاني: في القراءة والقراء وغير ذلك

- ‌ اللغط وقت القراءة:

- ‌ التشويش بالقراءة على الناس:

- ‌ التشويش على القراء في المسجد:

- ‌ المعرضون عن مجالس العلم بالمسجد:

- ‌ المعرضون عن سماع خطبة العيد:

- ‌ المشتغلون بنوافل العبادة في المساجد مع الجهل وترك محل العلم:

- ‌ المسرعون بقراءة القرآن:

- ‌ اللاحنون بالقرآن في المسجد:

- ‌ دعاء ليلتي أول السنة وآخرها:

- ‌الفصل الثالث: في المؤذنين

- ‌ آداب الأذان والإقامة:

- ‌ فروع في الأذان:

- ‌ الأذان داخل المسجد في المغرب والعشاء مع الأذان في المنائر:

- ‌ الزيادة على الأذان المشروع وبدعة التنعيم:

- ‌ إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر في رمضان تعجيلًا للسحور:

- ‌ الموقتون في بعض المساجد:

- ‌ إقامة من يؤذن:

- ‌ زيادة لفظ "سيدنا" في ألفاظ إقامة الصلاة:

- ‌ الزعق بالتأمين عقب الصلوات "وترك الورد المأثور بالجهر بالصلاة الكمالية

- ‌ الإنشاد قبل خطبة الجمعة:

- ‌ تبليغ المؤذنين جماعة:

- ‌ التبليغ بالأنغام المعروفة:

- ‌ حكم التبليغ عند عدم الحاجة إليه:

- ‌ جهر المؤذنين بالورد المعلوم وبالأناشيد:

- ‌ إنشاد الغزليات في المنارات:

- ‌ نشيد وداع رمضان:

- ‌ بيان أنه لا عبرة بوجود هذه البدع بالجامع الأموي "وسكوت الأقدمين عليه

- ‌الباب الرابع: في الدروس الخاصة والعامة

- ‌الباب الخامس

- ‌الفصل الأول: فيما يفعلونه للميت في المسجد من البدع والمحدثات وهو أمور

- ‌نعي الميت في المآذن والنداء للصلاة عليه

- ‌ رفع الأصوات أمام الميت بالأناشيد "حين دخول المسجد وقبله وبعده

- ‌ رثاء الميت في المسجد وقراءة نسبه وحسبه:

- ‌ تأخير الميت في المسجد:

- ‌ الجلوس للتعزية في المسجد:

- ‌ دفن الميت في المسجد أو بناء مسجد عليه:

- ‌ نعي الإمام الشهيد الحسين عليه السلام على المنبر "في جمعة عاشوراء

- ‌الفصل الثاني: في أمور ينبغي التنبه لها

- ‌ما ينويه الماكث في المسجد من النيات الحسنة "ليبلغ بها درجات المقربين

- ‌ الانقطاع في المسجد لحفظ النفس:

- ‌ القانعون بسكنى المساجد عن الكسب:

- ‌المعتزلون في المساجد والمدارس وآفات الاعتزال

- ‌ البصراء والمتعففون الذين يألفون المساجد:

- ‌ اتخاذ الجوامع خانقاهات:

- ‌اتخاذ المساجد مكاتب أو مخافر:

- ‌ التماوت وإطراق الرأس وإحناء الظهر في المسجد وغيره:

- ‌ جهل بعض أئمة القرى:

- ‌ تقصير أكابر القرى في عمارة مساجدهم:

- ‌ تنطع من يدخل حافيًا المسجد وهو يعمر:

- ‌ إيلاف مسجد لاعتقاد فضل فيه غير المساجد الثلاثة:

- ‌ المحافظون لنعال الناس في المسجد:

- ‌ إيواء القطط في المسجد:

- ‌ إيواء المجاذيب في بعض المساجد:

- ‌ دخول الصبيان المساجد:

- ‌ بيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وتخلل السؤال الصفوف "ونحوها في المسجد

- ‌ الإيطان في موضع من المسجد:

- ‌ واجبات نظار المساجد:

- ‌ الاجتماع في المسجد للدعاء برفع الوباء:

- ‌الباب السادس: في المشروع في المساجد الثلاثة المشرفة والمبتدع

- ‌الفصل الأول: في بيت المقدس

- ‌الفصل الثاني: في مسجد الخليل

- ‌الفصل الثالث: في مزارات ما حول المدينة المنورة

- ‌الفصل الرابع: في مزارات مكة المشرفة

- ‌الفصل الخامس: في الموازنة بين مذهب عمر وبقية الخلفاء والصحابة رضي الله عنهم

- ‌الباب السابع: في بدع شتى

- ‌الخاتمة:

- ‌فهرس:

الفصل: ‌ خروج الجمعة عن موضوعها بكثرة تعددها:

3-

‌ خروج الجمعة عن موضوعها بكثرة تعددها:

هذا بحث مهم جدير بالعناية به والتأمل فيه واتباع أحسنه.

للعلماء في العدد المشترط في صحة الجمعة أقوال بلغت خمسة عشر كما في "فتح الباري". وقد تراءى لبعضهم تأييد قول أهل الظاهر منها في أنها تصح من اثنين قال: لأن بانضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما فقال: "الاثنان فما فوقهما جماعة"1. ثم قال: وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. ا. هـ.

وقد راق هذا الكلام طائفة فانتحلوه، وظنوه الحق الذي لا مرية فيه فاعتقدوه.

وأقول: إن للظاهرية في كثير من المسائل جمودًا جليًّا، وتهوسًا جدليًّا، وكثيرا ما يسفسطون ويشاغبون بقولهم لم يرد كذا ولم يأت أنه لا يصح إلا كذا وهل

1 حديث ضعيف من جميع طرقه، وبعضها أشد ضعفًا من بعض كما بينته في "إرواء الغليل""482".

ص: 51

من دليل على أنه لا يكون إلا كذا. يعنون أنه يلزم في التشريع أن يكون كله مما تفوه به الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسلوب الذي ألفوه، وهذا لعمر الحق غفلة كبرى عن مقاصد الشريعة في كثير من أبوابها، وما هو إلا كالوقوف مع القشر دون اللباب أو اللفظ دون المعنى والجسم دون الروح.

السنة المأمور بها في العبادات هي قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره اتفقت على ذلك كلمة الأصوليين.

هذه الجمعة أصل مشروعيتها مضاهاة أهل الكتابين بالتجميع في الأسبوع بيوم فيه، لما فيه من الفوائد العظمى.

روى الحافظان عبد بن حميد وعبد الرزاق عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة. قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل أسبوع، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يومًا نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره. فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموا يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه. قال الحافظ ابن حجر: حديث مرسل رجاله ثقات1.

وأخرج مسلم والنسائي عن حذيفة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة".

وأخرج الحافظ ابن عساكر عن عثمان بن عطاء قال: لما افتتح عمر بن الخطاب البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجدًا ويتخذ للقبائل مسجدًا فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة فشهدوا الجمعة2.

1 قلت والمرسل من أقسام الحديث الضعيف في علم المصطلح فتنبه.

2 قلت: فهم حكماء الإسلام من مثل هذا الأثر ومما يأتي وجوب اجتماع أهل=

ص: 52

وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك. وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك. وكتب إلى أمراء الأجناد أن لا يبدوا إلى القرى وأن ينزلوا المدائن وأن يتخذوا في كل مدينة مسجدًا واحدًا. وروى ابن أبي شيبة قال: كان عبد الله بن رواحة يأتي الجمعة ماشيا وإن شاء راكبًا وذلك من ميلين. وأخرج أيضًا أن أبا هريرة كان يأتي الجمعة من "ذي الحليفة".

= البلد في جامع واحد يوم الجمعة وبنوا على ذلك حكمة التعارف الذي به قوام العمران. وهاك ما قاله الحكيم الشهير ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق" في المقالة الخامسة في بحث المحبة: والسبب في هذه المحبة الأنس وذلك أن الإنسان آنس بالطبع وليس بوحشي ولا نفور ومنه اشتق اسم الإنسان. وليس كما قال الشاعر "سميت إنسانًا لكونك ناسي" ظنًّا منه أنه مشتق من النسيان فهو غلط منه. وينبغي أن يعلم أن هذا الأنس الطبيعي في الإنسان هو الذي ينبغي أن نحرص عليه ونكسبه مع أبناء جنسنا حتى لا يفوتنا بجهدنا واستطاعتنا فإنه مبدأ المحبات كلها. وإنما وضع للناس بالشريعة وبالعادة الجميلة اتخاذ الدعوات والاجتماع في المآدب ليحصل لهم هذا الأنس. ولعل الشريعة إنما أوجبت على الناس أن يجتمعوا في مساجدهم كل يوم خمس مرات وفضلت صلاة الجماعة على صلاة الآحاد ليحصل لهم هذا الأنس الطبيعي الذي هو فيهم بالقوة حتى يخرج إلى الفعل ثم تتأكد بالاعتقادات الصحيحة التي تجمعهم. وهذا الاجتماع في كل يوم ليس يتعذر على أهل كل محلة وسكة. والدليل على أن غرض صاحب الشريعة ما ذكرناه أنه أوجب على أهل المدينة بأسرهم أن يجتمعوا في كل أسبوع يومًا بعينه في مسجد يسعهم أيضًا شمل أهل المحال والسكك في كل أسبوع كما اجتمع شمل أهل الدور والمنازل في كل يوم، ثم أوجب أيضًا أن يجتمع أهل المدينة مع أهل القرى والرساتيق المتقاربين في كل سنة مرتين في مصلى بارزين مصحرين ليسعهم المكان ويتجدد الأنس بين كافتهم وتشملهم المحبة الناظمة لهم، ثم أوجب بعد ذلك أن يجتمعوا في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة ولم يعين من العمر على وقت مخصوص ليتسع لهم الزمان وليجتمع أهل المدن المتباعدة كما اجتمع أهل المدينة الواحدة ويصير حالهم في الأنس والمحبة وشمول الخير والسعادة كحال المجتمعين في كل سنة وفي كل أسبوع وفي كل يوم فيجتمع بذلك الأنس الطبيعي إلى الخيرات المشتركة وتتجدد بينهم محبة الشريعة وليكبروا الله على ما هداهم ويغتبطوا بالدين القويم الذي ألفهم على تقوى الله وطاعته. انتهى بحروفه.

ص: 53

وأخرج أيضًا أن سعدًا كان على رأس سبعة أميال أو ثمانية وكان أحيانًا يأتيها وأحيانًا لا يأتيها، وأخرج أيضًا أن أنسا شهد الجمعة من "الراوية" وهي على فرسخين من "البصرة". وعن أبي هريرة قال تؤتى الجمعة من فرسخين، قال ابن حجر في "التلخيص": قال الأثرم للإمام أحمد بن حنبل: اجمع جمعتان في مصر؟ قال: "لا أعلم أحدًا فعله". انتهى.

قلت: ولذلك ذكر الأئمة من السلف مسائل من زحمه الناس يوم الجمعة وصور زحامه فقد جاء في "المدونة لمالك رضي الله عنه" قوله: من أدرك الركعة يوم الجمعة فزحمه الناس بعدما ركع مع الإمام الأولى فلم يقدر على السجود حتى فرغ الإمام من صلاته "قال" يعيد الظهر أربعًا. وقال مالك أيضًا: إن زحمه الناس فلم يستطع السجود إلا على ظهر أخيه أعاد الصلاة ولو بعد الوقت في مسائل أخرى. وكل ذلك مصداق ما قاله الإمام أحمد من أنه لم يعهد التعدد أصلًا. وقال ابن المنذر: لم يختلف الناس أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي تعطيل الناس مساجدهم يوم الجمعة واجتماعهم في مسجد واحد أبين البيان بأن الجمعة خلاف سائر الصلوات وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد.

وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أن أول جمعة أحدثت في الإسلام في بلد مع قيام الجمعة القديمة في أيام المعتضد في دار الخلافة من غير بناء مسجد لإقامة الجمعة. وسبب ذلك خشية الخلفاء على أنفسهم في المسجد العام وذلك سنة "280". ثم بني في أيام المكتفي مسجد فجمعوا فيه.

وقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا قال بتعداد الجمعة غير عطاء، وقال الراقعي: لم تقم الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء الراشدين إلا في موضع الإقامة ولم يقيموا الجمعة إلا في موضع واحد، ولم يجمعوا إلا في المسجد الأعظم مع أنهم أقاموا العيد في الصحراء والبلد للضعفة وقبائل العرب كانوا مقيمين حول المدينة ما كانوا يصلون الجمعة ثمة ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، قال الحافظ ابن

ص: 54

حجر: كل هذه الأشياء المنفية مأخذها الاستقرار فلم يكن بالمدينة مكان يجتمع فيه إلا مسجد المدينة.

وروى الترمذي من طريق رجل من أهل قباء عن أبيه وكان من الصحابة قال أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشهد الجمعة من قباء1.

فأنت ترى من هذه الأحاديث والآثار وإطباق العصر الأول بداهة كون موضوع الجمعة الجماعة المتوافرة إذ شرعت لذلك وبه يضاهي ما يصنعه أهل الكتاب في يوميهم الذي هو سبب تشريعها فعجبًا لأهل الظاهر وغفلتهم عما نقلنا، وعن سر الاحتفال بها والأعجب منه تركهم التفطن لمعنى لفظة جمعة الذي لم يسمها الصحابة بذلك ونزل القرآن مصدقًا له إلا لما دل عليه مفهومها من كثرة الجمع وإليك البيان:

جاء في القاموس وشرحه: الجمعة بضم فسكون وبضمتين وكهمزة اليوم المعروف سميت بذلك لأنها تجمع الناس أي لاجتماعهم في يومها بالمسجد. والذين قالوا جمعة بضم ففتح ذهبوا بها إلى صفة اليوم أنه يجمع الناس كثيرًا كما يقال رجل همزة لمزة ضحكة. ا. هـ.

وأقول اتفق اللغويون على أن صيغتي فُعْلة بضم فسكون وفُعَله بضم ففتح للمبالغة، الأولى لمبالغة المفعول والثانية للفاعل، فمعنى الجمعة التكثير في المجموع أو في المجمعين، فهل لأحد أن يصرف هذه اللفظة عن مسماها اللغوي المؤيد بفعله عليه السلام والخلفاء من بعده برأيه من غير نص ولا إجماع؟ وإذا جاز مثل ذلك بطلت الحقائق ولم يصح تفاهم أبدًا إذ علمنا أن لفظة الجمعة لم تقع قط في اللغة التي بها نتفاهم إلا على الجمع الكثير ومن خالف بعد هذا فقد كابر.

بقي أن يقال أن صيغة جمعة للمبالغة كما برهن عليه فما أقل ما تحقق فيه

1 قلت: حديث ضعيف، حققه الترمذي نفسه بقوله عقبه "1، 100"، "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء". قلت: وعلته الرجل الذي لم يسم من أهل قباء، وأيضًا فإنه من رواية ثوير عنه. وقوله ضعيف كما قال الحافظ.

ص: 55

مصداقها من الكثرة في عهده صلوات الله عليه فالجواب أن ما تحقق فيه أربعون كما كان في أول جمعة وقعت بالمدينة فإنهم كانوا أربعين، وكان المجمع بهم مصعب بن عمير قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فهذا العدد هو أقل ما وقع اتفاقًا1 وبه علم أن صيغة المبالغة في "جمعة" المفيدة للكثرة تصدق على هذا المقدار قطعًا وأن الذي يراه غير مجزئ لا حجة معه لا من لغة ولا من نقل ومنه يعلم ملحظ الإمام الشافعي في اشتراطه أربعين كأنه لحظ أن الجمعة لا بد فيها من وفرة الجمع وكثرته لما تفيده مادتها، ثم رأى أن الصحابة اجتزءوا بهذا العدد وأقروا عليه وفي اجتزئاهم بذلك وعتباره تجميعًا فائدة كبرى لأنه لولا هذا البيان لكان في اللفظ إجمال يضطرب فيه الفكر سيما وقد يرى أن المقدار المذكور ينحط عن درجة الكفاية في التجميع لما تفهمه المبالغة. ولذا ذهب ذاهب إلى اشتراط ثمانين فباكتفاء الصحابة وإقرارهم على أربعين علم أن هذا العدد مما يصدق عليه اللفظ لغة وشرعًا. نعم قد يبقى النظر فيما انحط عن هذا المقدار هل يكفي لاحتمال صدق الصيغة عليه أو لا لأنه لم يؤثر إقامتها بأقل منه ولا أذن في عهده صلوات الله عليه وعهد خلفائه الراشدين لأهل القرى الصغيرة أن يجمعوا2. الأمر فيه

1 قلت: هذه واقعة حال: ووقائع الأحوال لا يستدل بها بحال، وعدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه كما هو معلوم لدى الفقهاء فما يدرينا أن يكون هناك حوادث وقعت لم نعلم بها، وهل لأحد أن يدعي الإحاطة بها بعد الله تبارك وتعالى؟ أليس من الجائز أن يكون قد صلوا الجمعة في بعض القرى الصغيرة بأقل من هذا العدد. ثم لم ينقل إلينا، أو نقل ولم نطلع عليه؟ بلى. ومما يقرب ذلك أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى قاضيه في الجزيرة عدي بن عدي أيما أهل قرية ليسوا بأهل عمود ينتقلون فأمر عليهم أميرًا يجمع بهم. أخرجه ابن أبي شيبة في "باب من كان يرى الجمعة في القرى وغيرها" من "المصنف" "1: 204: 1، 2". "ناصر الدين".

2 قلت: هذا على ما أحاط به المؤلف رحمه الله أو من نقل عنه، وإلا لو اطلع على "مصنف ابن أبي شيبة" وما فيه من الآثار المنافية لذلك لما ادعى ذلك، فقد نقلت عنه آنفًا أمر عمر بن عبد العزيز كل قرية صغيرة أو كبيرة بلغ عددها الأربعين أو لم يبلغ أن يصلوا الجمعة. وسلفه في ذلك عمر بن الخطاب، فقد كتبوا إليه يسألونه عن الجمعة، فكتب جمعوا حيثما كنتم رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وأطلق ولم يقيد وهو يعلم أن في القرى الصغيرة والكبيرة، وما يبلغ العدد فيها الأربعين وما لا يبلغ، فهو نص من الخليفة الراشد على عدم صحة اشتراط الأربعين، وهو الذي رجحناه في رسالتنا "الأجوبة النافعة" "ص36-38" ولذلك قال مالك: كان أصحاب محمد في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمعون. "ناصر الدين".

ص: 56

احتمال يصعب البت بأحد الوجهين إلا أنهما إذا وضعا في التوازن رجح الثاني لما تقضيه الصيغة والحالة المأثورة وسر المشروعية. والله أعلم.

ولنرجع إلى المناقشة مع الظاهرية فنقول: قالوا: ورد أن الاثنين فما فوقهما جماعة وكأنهم ذهلوا أن الجماعة في العرف الشرعي غير الجمعة وإنما يتم لهم لو قيل: جمعة بدل جماعة على أن هذا الحديث في إسناده الربيع بن بدر وهو ضعيف كما في المقاصد الحسنة للسخاوي وما ورد معناه أن الاثنين إذا أدركتهما فريضة من الخمسة "غير الجمعة ضرورة" فأم أحدهما الآخر كانت صلاتهما جماعة أي مثابا عليها ثواب الجماعة، وقصد الشارع أن الاثنين ينبغي لهما التضام في أداء الفريضة معا إذا اجتمعا ويكونان جماعة ليرتفع ما يتوهم أن الجماعة لا تكون إلا بعدد وافر حضًّا على التكاتف في العبادة وتوحيد الكلمة.

قلنا غير الجمعة لأن تلك علم بالضرورة أنها لم تقم إلا بالجمع الوافر في مكان واحد فما فوق بقدر الحاجة إليه.

وقولهم إن الجمعة كغيرها1 من الصلوات لا تباينها إلا في اشتراط الجماعة هو من الغلو في الجمود أليس شروطها وسننها وآدابها وما ينبغي في يومها مما ترجم له أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد في أسفارهم واستغرق الأبواب الطويلة كافيا لمباينتها لغيرها. وقد عد ابن القيم في "زاد المعاد" لها خصائص

1 قلت: فيه ما لا يخفى من البعد عن نقطة البحث؛ لأن قولهم: "إن الجمعة كغيرها

" إنما يعنون في الشروط فقط، وليس في السنن والآداب. وأيضًا فهم يعنون ما لم يأت دليل.

فقد جاء الدليل بشرطية الجماعة كما يأتي، وجاء الدليل بأنها تصلى قبل الزوال كما ذكره المؤلف رحمه الله وشرحاه في الرسالة السابقة. "ناصر الدين".

ص: 57

نيفت عن الثلاثين، وقد ذهب الإمام أحمد إلى أن أول وقتها وقت صلاة العيد، وروى عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال ولم ينكروا. خرجه أبو داود في سننه عن ابن الزبير أيضًا، وهذا مما يبرهن أن شأنها غير ما يعهد من بقية المكتوبات مما أصل سره هو التجميع وأن الجمع إذا حضر من الضحوة فصاعدًا جاز أن تؤدى وقتئذ كالعيد.

وعجبًا لهم أيضًا كيف اشترطوا لها الجماعة وهلا قالوا هي كغيرها مطلقا من الصلوات تتميمًا للجمود1 قيل: يمنعهم من ذلك الإجماع على اشتراط الجماعة. فقلت: هذا مما يقوي الاحتجاج عليهم فإن الأصوليين اتفقوا على أن الإجماع لا بد له من مستند كتاب أو سنة هي قوله صلوات الله عليه أو فعله ولا مستند للإجماع هنا إلا فعله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان هذا المستند بطل جوازها باثنين إذ لم يفعلها عليه السلام إلا بأهل المدينة قاطبة ولم يرخص لأهل العوالي ولا لغيرهم ممن حول المدينة أن يجمعوا لأنفسهم فما ذاك إلا لاشتراط وفرة الجمع وهو بديهي لولا الجمود2.

1 قلت: الوقوف عند الدليل ليس جمودًا بل هو واجب كل عالم، أن لا يقول على الله بغير علم، والعلم هو الدليل، وهو الذي منعهم من عدم القول بشرطية الجماعة، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا

" الحديث. انظر رسالتنا السالفة ص36، 38" وهو مستند الإجماع الذي حكاه المؤلف وغيره. "ناصر الدين".

2 قلت: قد عرفت أن اتباع الدليل ليس جمودًا، وسامح الله المؤلف فقد أكثر من نبذ أهل العلم والتحقيق بهذا الجمود بينما نراه متسامحًا في سائر مؤلفاته مع مخالفيه في مجادلتهم. وقد ذكرنا آنفًا أن مستند الإجماع المذكور إنما هو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق:"في جمعة"، ولا يصلح مستندًا له ما ذكره المؤلف من قبله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفعل وحده لا يدل=

ص: 58

ثم يقابل هذا القول مذهب من منع تعددها مطلقًا دعت الحاجة إليه أو لا استدلالًا بأنها لم تتعدد في عهده عليه الصلاة والسلام وعهد خلفائه فشق على الناس وضيق عليهم ما وسعته الحنيفية السمحة.

نعم لا ننكر أنها لم تتعدد، في ذلك العهد ولكن لداعي أن المسجد الأعظم في مدينته صلى الله عليه وسلم كان يسع المجمعين وعلى نسبتهم ولذلك وسع عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما المسجد النبوي لما رأياه ضاق بالمجمعين في عهديهما ليسعهم. فسبب عدم التعدد عدم الحاجة إليه لكفاية المسجد.

أما وقد ملأ المسلمون البلاد التي تناسلوا فيها وفات عديدهم الحصر في كل مصر فأنى يسعهم مسجد واحد؟ هذا ما لا يختلف فيه اثنان. فلا يقاس عدد الناس الآن بعددهم في الأعصر الغابرة بل لا نسبة بينهم الآن وبينهم قبل عشرين عامًا، فحينئذ سماحة الدين تقضي بتعدد الجمعة على نسبة الحاجة نسبة تطابق القصد وتوافق الحكمة، أعني بقاء هيكل التجميع متماسكًا متساندًا يمثل القوة ووحدة الكلمة من سائر مناحيه.

= على الشرطية المتنازع فيها، وإنما على السنية فقط، كما هو ظاهر، ألست ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على صلاة العيدين في المصلى، فهل دل ذلك على أن صلاتها في المصلى دون المسجد شرط لصحتها؟! كلا، وإنما يدل ذلك على السنة فقط، وإلا لكانت صلاة جماهير المسلمين اليوم كصلاة العيد في المساجد باطلة، وما أظن عالمًَا يقول به، وجملة القول أن المؤلف لم يأت بدليل صحيح صريح يثبت به شرطية عدد الأربعين، وكأن تحمسه لحمل المسلمين على الحرص على تكثير سواد المصلين في الجمعة حمله على المبالغة في تقييم العدد وكذلك عدم التعدد بأكثر مما يستحق. أقول هذا مع مشاركتي إياه في التحمس المشار إليه، دون أن أوافقه على القول بشرطية العدد المذكور المستلزم فقده بطلان صلاة الجمعة، ولم لا والمؤلف نفسه قد خالف كل ما سطره هنا بقوله فيما يأتي "ص64""إن الجمعة تؤدى بمن حضر قلوا أو كثروا، ولا تترك الجمعة لأن عددهم لم يبلغ الأربعين، ولا يلزمهم إعادتهم ظهرًا"! وهذا هو قولنا بالضبط وقول من وصمهم بالجمود، والنعمة لله وحده، وهو المستعان، وراجع رسالتنا "الأجوبة النافعة""ص39، 40". "ناصر الدين".

ص: 59

وكذلك أهل الكتاب لهم في الأمصار الواسعة عدة معابد بنسبة الحاجة إليها يؤمونها في أيامهم المعروفة فقول الأنصار رضي الله عنهم فيما تقدم "أن لأهل الكتاب يومًا يجتمعون فيه

إلخ" يتنزل على ما هو المعروف والمألوف.

أما في هذه الأزمنة فقد أفرط في تعدد الجمعة إفراطًا كادت تخرج به الجمعة عن موضوعها ففي مثل دمشق أوشك أن لا يبقى مسجد ولو في حارة إلا ويقام فيه جمعة وكثير من المساجد الصغيرة في أيامنا جدد لها منابر بتمويه الحاجة إليها مما يقسم الأمة تقسيمًا يرثى له، ولا حاجة في كثير منها. وقد يؤذن المؤذن في بعضها أذان المنارة ولم يكمل صف من المصلين، وأعرف مسجدًا صغيرًا جدًّا أحدثت له جمعة وبني له منبر كالكرسي لا يتسع ما أمامه إلا لصف واحد، ووراء هذا الصف ممر لبركة ماء وبيت خلاء متلاصقين عن يسار المنبر رغب في إحداث التجميع فيه بعض المثرين لمأرب ظاهره ذلك وباطنه إنقاذ ابنه من الخدمة العسكرية بإخراج براءة له فيه.

مثل هذه المساجد الصغيرة كانت معدة لغير الجمعة لعاجز أو مريض أو تاجر أو صانع ممن لا يقدر أن يتجاوز محلته فأصبح كثير من المتصولحين الذين غاب عنهم محذورات تقطيع الجمعة والجماعات يتبرعون بتشييد منابر لها على ضيقها وربما نقبوا مأذنة من الحائط على الجادة ورتبوا مؤذنًا إلحاقا لهذا الصغير بالجوامع الكبيرة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ولا يتذكرون ما نجم عن ذلك من اشتماله على عدة بدع:

1-

إحداث ما لم يحدثه الواقف.

2-

مضادة الواقف إذ أوقفه لمعنى حميد فصرف لوجه آخر.

3-

أخذ فراغ مصلي أو أكثر بواسطة المنبر المحدث.

4-

إعداد ما لم يوضع للجمعة لصغره لها.

5-

تفريق المؤمنين بصرفهم عن الجوامع الكبيرة والسعي إليها ليتعارفوا من الأطراف.

6-

أداء عبادة مختلف في صحتها.

7-

سن سنة مبتدعة ليحتذى على مثالها ويتسع الخرق كما وقع، إلى مفاسد أخرى. قال السبكي في فتاويه: إن هذه المفاسد كان المقتضى لها حدوث جوامع.

ص: 60

قال: وهذا إنما حصل في الشام ومصر من مدة قريبة ولم يكن في القاهرة إلا خطبة واحدة حتى حصلت الثانية في زمن الملك الظاهر مع امتناع قاضي القضاة تاج الدين من إحداثها وأكثر ما في الشام من التعدد حادث.

ثم قال السبكي: إن دمشق -سلمها الله- من فتوح عمر إلى اليوم "وهو شهر رمضان سنة 756" لم يكن في داخل سورها إلا جمعة واحدة. ا. هـ. وقد اقيمت في عهده رحمه الله خارج السور في ثلاث جوامع جامع خيلخان خارج الباب الشرقي وكان يخطب فيه شمس الدين ابن القيم والآن درس هذا الجامع ولم يبق منه إلا بابه ونافذتان مسدودتان وفي جامع يلبغا وجامع تنكز "المعروف الآن المكتب الإعدادي العسكري" وقد اعتبر محلاتها كقرى لأن كل واحد منفصل عن الآخر.

وقد اعتمد السبكي في عدة تآليف له بأنه إذا كان في مصر أو قرية جامع يسع أهلها ثم أريد إحداث جمعة ثانية في بعض المساجد أن ذلك لا يجوز.. في فتوى له مطولة.

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون؟ قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزئ ذلك عنهم. قال ابن جريج: وأنكر الناس أن يجمعوا إلا في المسجد الأكبر وكذلك قال ابن عمر: لا جمعة إلا في المسجد الأكبر. وتابع السبكي في ذلك الزركشي والعراقي وابن حجر العسقلاني وعليه قال العبادي: إذا استحال اتساع محل لهم هل تسقط عمن لم يجد له محلا ولم يمكنه ربط بمحل آخر. ا. هـ.

أقول: الأمر على ما قاله هؤلاء إذا كان الأكبر يسعهم. وإلا فالشأن كما قال عطاء دفعًا للحرج.

قال السبكي عليه الرحمة: لا يحمل كلام من جوز التعدد بحسب الحاجة على إجازة تعددها مطلقًا في كل المساجد فتصير كالصلوات الخمس حتى لا يبقى للجمعة خصوصية فإن هذا معلوم بطلانه بالضرورة لاستمرار عمل الناس

ص: 61

عليه من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم. ا. هـ. يعني أيامه عليه الرحمة.

وقال ابنه التاج في "معيد النعم": ولقد رأينا منهم -يعني من المسيطرين- من يعمر الجوامع ظانًّا أن ذلك من أعظم القرب فينبغي أن يفهم مثل هذا المسيطر أن إقامة جمعتين في بلد لا يجوز إلا لضرورة عند الشافعي وأكثر العلماء، فإن قال: قد جوزها قوم قلنا له: إذا فعلت ما هو واجب عليك عند الكل فذاك الوقت افعل الجائز عند البعض، وأما إنك ترتكب ما نهى الله عنه وتترك ما أمر به ثم تريد أن تعمر الجوامع بأموال غيرك ليقال هذا جامع فلان فالله لا يتقبله وأن الله تعالى لا يقبل إلا طيبًا. ا. هـ.

وبالجملة فيوجد في دمشق الآن من المساجد التي لم تبن للجمعة وتقام الآن فيها ما لا يحصى، وكل هذه المساجد الصغار يستغنى عنها بكبار ما جاورا إذا سعي إليها، ولكن هو الكسل والذهول عن أصل السنة. وقد رأيت خطر التعدد بلا حاجة، فالذي أراه في الخروج من عهدة هذه الحالة أن يترك التجميع في كل مسجد صغير -سواء كان بين البيوت أو في الشوارع- وفي كل مسجد كبير أيضًا يستغنى عنه بغيره وأن ينضم كل أهل محلة كبرى إلى جامعها الأكبر، ولتفرض كل محلة كبرى كقرية على حدة فيستغنى بذلك على كثير من زوائد المساجد ويظهر الشعار في تلك الجوامع الجامعة في أبدع حال فيخرج من عهدة التعدد. وهذا هو حقيقة ما رآه قدماء الشافعية وسر ما يرمي إليه من وافقهم والله الموفق1.

1 قال المؤلف: ثم بعد كتابتي لما تقدم بأكثر من عام كنت أطالع في الإقناع -من كتب الحنابلة- في فروع الجمعة فرايت فيه موافقة لما ذهبت إليه وعبارته: "ويجوز إقامتها في أكثر من موضع من البلد لحاجة" كضيق مسجد البلد عن أهله "وخوف فتنة" بأن يكون بين أهل البلد عداوة فيخشى إثارة الفتنة باجتماعهم في مسجد واحد، "وبعد" للجامع عن طائفة من البلد. "ونحوه" كسعة البلد وتباعد أقطاره "فتصح" الجمعة "السابقة واللاحقة" لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في مواضع من غير نكير فكان إجماعًا قال الطحاوي وهو الصحيح من مذهبنا. وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يقمها هو ولا أحد من الصحابة في أكثر من موضع فلعدم الحاجة إليه ولأن الصحابة كانوا يؤثرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم لأنه المبلغ عن الله تعالى "وكذا العيد" تجوز إقامتها في أكثر من موضع من البلد للحاجة لما سبق "فإن حصل الغنى بجمعتين اثنتين لم تجز" الجمعة "الثالثة" لعدم الحاجة إليها "وكذا ما زاد. ويحرم" إقامة الجمعة بأكثر من موضع من البلد "لغير حاجة" قال في "المبدع" لا نعلم فيه خلافًا إلا من عطاء. ا. هـ.

ص: 62

"لطيفة" ذكر بعض المؤرخين في حوادث سنة "131" أن أول من اتخذ منابر في الجوامع عبد الملك1 بن مروان أمير مصر من قبل الخليفة مروان بن محمد وكان آخر والٍ على مصر من قبل الأمويين، قالوا: ولم يكن قبل ذلك منبر وكانت ولاة مصر تخطب على العصي إلى جانب القبلة وفي حوادث عام "161" أن الخليفة محمد المهدي الذي زاد في المسجد الحرام والمسجد النبوي قصر المنابر وصيرها على مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعمر الحق لقد أصاب. إذ كم من منبر كبير هائل أخذ فراغًا عظيمًا من الجوامع فإنا لله2.

1 كذا الأصل. والمعروف أن آخر ولاة مروان بن محمد على مصر "المغيرة بن عبيد الله"، المطبعة.

2 قلت: وصار سببًا لقطع الصفوف، وربما أدى إلى إبطال صلاة البعض كما وقع ذلك لي، ولا بأس من أن أقص ذلك باختصار للعبرة. فقد صليت مرة بالناس إمامًا في صبح الجمعة، في إحدى قرى الزبداني، فقرأت بعد الفاتحة ما تيسر من أول "الكهف"؛ لأني لا أتقن حفظ "السجدة". فلما كبرت للركوع هوى المصلون كلهم إلى السجود! توهمًا منهم أنني كبرت لسجدة التلاوة! لكن الذين كانوا من خلفي مباشرة انتبهوا إلى أنني في الركوع، فنهضوا وشاركوني فيه. وأما الذين كانوا خلف المنبر لا يرونني، فقد استمروا ساجدين حتى سمعوا قولي سمع الله لمن حمده! فقطعوا الصلاة وأحدثوا ضجة! وبعد أن سلمت من صلاتي وعظتهم وذكرتهم بما يجب عليهم من الخشوع في الصلاة والانتباه لما يتلى عليهم من آيات الله، وأن لا يذهب فكرهم فيها إلى الزرع والضرع! "ناصر الدين"

ص: 63