الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
البصراء والمتعففون الذين يألفون المساجد:
كثير من البصراء الحافظون لكتاب الله تعالى يأوون إلى المساجد ويتحلقون بها ليذكروا الناس بمرآهم ومحضرهم تفقدهم والإحسان إليهم، ولكن أكثر الناس عنهم غافلون؛ إذ لا يدعونهم إلا في المآتم والمواسم وتلك أوقاتها قليلة لا يكفي ما يعطونه فيها لسد ضرورتهم وحاجاتهم وفيهم من له عيال وأولاد وحاجات مهمة لا تخفى من كراء بيت وما يستتبعه. فهم أحق الناس بالعناية بهم وبرهم ويعلم الله أني كلما رأيت بصيرًا منهم يكاد قلبي يتفطر أسفًا على حاله لا سيما إذا رأيته يستجدي بالتلاوة فحسبنا الله ونعم الوكيل. فأين المياسير وأين أهل الخير وأين الذين يذكرون قوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون} فوا رحمتاه للبؤساء ولا سيما البصراء، ألم ينظروا إلى البلاد التي يقال بأن عنايتهم تجاوزت إلى البصراء فشادوا لهم ملاجئ لتعليمهم الكتابة والقراءة والصناعة فأين نحن عن اللحاق بهذه الفضائل ومتى نرى روح الخير والبر دبت في عروق الذين لا يهمهم إلا أن يجمعوا ويمنعوا ويتقاطعوا ولا يتواصلوا، وبالجملة فالبصير الحافظ للقرآن الكريم أحق بالإحسان من غيره لجمعه بين المسكنة والتعفف وفضيلة الحفظ، وهكذا يقال عن خدمة المسجد ومؤذنيه والمنقطعين إليه، ومثلهم المتعففون الذين يأوون إلى المساجد أو الزوايا من ذوي الحسب أو النسب أو من هم من ذرية صوفية وصالحين ممن قعد بهم الحظ وأضعفهم العجز عن الكسب والتكسب فهؤلاء من أجدر الناس بالإحسان إليهم والتصدق عليهم وإن كان عليهم لباس الغنى فإن ذا الفراسة الإيمانية يعلم أن لباسهم هذا ينطوي على حاجة ومسكنة إلا أن التعفف والحياء سترها، وقد قال تعالى في مثل هؤلاء:{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يتفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس"1. رواه مالك والإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة. وما ألطف قول حافظ إبراهيم أديب مصر:
1 حديث صحيح، مخرج في "تخريج مشكلة الفقر""77".
أيها المصلحون ضاق بنا العيـ
…
ـش ولم تحسنوا عليه القياما
عزت السلعة الذليلة حتى
…
بات مسح الحذاء خطبًا جساما
وغدا القوت في يد الناس كاليا
…
قوت حتى نوى الفقير الصياما
يقطع اليوم طاويًا ولديه
…
دون ريح القتار ريح الخزامى
ويخال الرغيف في البعد بدرًا
…
ويظن اللحوم صيدًا حرامًا
إن أصاب الرغيف من بعد كد
…
صاح من لي بأن أصيب الأداما
أيها المصلحون أصلحتم الأر
…
ض وبتم عن النفوس نياما
أصلحوا أنفسًا أضر بها الفقر
…
وأحيا بموتها الآثاما
ليس في طوقها الرحيل ولا الجد
…
ولا أن تواصل الإقداما
إلى أن قال:
أيها المصلحون رفقًا بقوم
…
قيد العجز شيخهم والغلاما
وأغيثوا من الغلاء نفوسًا
…
قد تمنت مع الغلاء الحماما
ومنها:
قد شقينا ونحن كرمنا الله
…
بعصر يكرم الأنعاما
وأذكر أني مرة سألني سلفي عما يعمله بعض الفقهاء عن كفارة الصلاة وإيهاب صرة الدراهم المهيأة لأجلها1 للفقير ثم استيهابها منه ثم إعطاؤه بعد تكرير ذلك ما تيسر من الدراهم فهل ذلك مأثور وإذا كان غير مأثور أفليس الأولى تركه تحرزًا من الابتداع؟ فأجبته بأن هذه الحالة التي تعمل الآن غير مأثورة قطعًا، وإنما أجازها بعض الأئمة قياسًا على كفارة الصيام والإيمان والنذور وحيث جرت نفعًا للفقراء والصدقة مندوب إليها كان عملها لا بأس به2 إلا أن
1 كذا الأصل.
2 قلت: هذا رأي المؤلف رحمه الله تعالى، ولسنا نراه صوابًا ما دام أنها غير مأثورة عن السلف والخير كله في اتباعهم، فالأولى تركه كما قال ذلك السلفي، بل ذلك هو الواجب لأن التقرب إلى الله بما لم يشرعه الله تبارك وتعالى ضلالة كبرى، واستحسان ذلك لمجرد كونها تجر إلى الفقير نفعًا من أغرب ما يصدر من سلفي كالمؤلف عفا الله عنا عنه فإن مثله لا يخفى عليه أن الغاية لا تبرر الوسيلة ويبدو لي أن رأفة المؤلف رحمة الله تعالى على الفقراء سيطرت عليه، فحالت بينه وبين تبين خطأ رأيه هذا وهو مأجور على كل حال. والله المستعان. "ناصر الدين".
احتيال الأغنياء بدلالة بعض الفقهاء على إيهاب الصرة المليئة ثم استردادها فيه تحيل على إسقاط حق للفقراء كبير وتلاعب بأصل المسألة وقياسها وجلي أن كل حيلة أدت إلى إسقاط واجب فلا تخلص فاعلها عند الله تعالى كما بينه الفقهاء وبسطه الإمام ابن القيم في إغاثة اللفهان. ثم قلت: ومع ما هي عليه الآن من التحيل والحيف على الفقير فإني لا أكرهها ولا أقبحها خيفة أن يسد على الفقراء نوع من الصدقة وحاجتهم تضطرهم إلى تقبل الصدقة بأي سبب كان مشروعًا أو غيره ولا حول ولا قوة إلا بالله. نعم الملام على الأغنياء من استئثارهم بالأموال الطائلة كأنها خلقت لهم خاصة ولم يوجب الله عليهم فيها حقوقًا وعلى الفقهاء الذين يعلمون الأغنياء تلك الحيل لإسقاط ما وجب عليهم بزعمهم وعلى قادة الأمة وسادتها الذين لا يفتكرون فيما يخفف بؤس هؤلاء وفاقتهم فإذا عملوا جميعًا على الإصلاح وعم العلم وانتشر في كل الطبقات فلا تلبث تلك البدع أو الأمور التي في النفس منها حزازات أن تنقشع غيومها عن البصائر فإن الجهل لا يثبت امام العلم والحق يدفع الباطل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} .