المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمات: 1- بيان الميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور - إصلاح المساجد من البدع والعوائد

[جمال الدين القاسمي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة الناشر

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌مقدمة الكتاب:

- ‌مقدمات:

- ‌الباب الأول: في بدع الصلاة في المساجد

- ‌الفصل الأول: في بدع صلاة الجمعة

- ‌المحدثات في خطبة الجمعة

- ‌ صلاة الظهر جماعة عقب صلاة الجمعة:

- ‌ خروج الجمعة عن موضوعها بكثرة تعددها:

- ‌ خصائص الجمعة في العهد النبوي وفي عهد الخلفاء الراشدين:

- ‌ أداء الجمعة في حجرة ورفض الصفوف:

- ‌ أدب الخطب والخطباء:

- ‌ دعاء المؤذن بين الخطبتين أثر جلوس الخطيب:

- ‌ الأحاديث المروية على المنابر في فضل رجب:

- ‌ التمسح بالخطيب إذا نزل من المنبر:

- ‌الفصل الثاني: في بدع محدثة في الصلاة

- ‌الجهر بالنية قبل تكبيرة الاحرام

- ‌ صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة:

- ‌ إساءة الصلاة:

- ‌ رفض الجماعة الأولى لانتظار الثانية:

- ‌ الإفتئات على الإمام الراتب:

- ‌ صلاة جماعتين فأكثر في محل واحد يشوش بعضهم على بعض:

- ‌ بدعة السجدتين بعد الصلاة بلا سبب مشروع:

- ‌ التأخر عن الصفوف في الرفوف:

- ‌ المسيئون صلاة التراويح:

- ‌ انفراد المصلين للوتر عن القدوة بإمام التراويح المخالف لمذهبهم:

- ‌الفصل الثالث: في آداب الإمام والقدوة

- ‌الباب الثاني: في البدع المادية

- ‌الفصل الأول

- ‌زخرفة المساجد

- ‌ كثرة المساجد في المحلة الواحدة ومزية المسجد العتيق:

- ‌الفصل الثاني: تنوير المساجد في الأشهر الثلاثة وغيرها

- ‌زيادة التنوير ليلة أول جمعة من رجب

- ‌ زيادة التنوير ليلة النصف من شعبان ونشر فضائلها وقراءة أدعية فيها:

- ‌ زيادة التنوير في رمضان:

- ‌ إبقاء المصابيح متقدة إلى الضحوة أيام العيد:

- ‌الفصل الثالث:

- ‌ المقاصير والدرابزين في المسجد:

- ‌ كرسي القارئ في المسجد والتشويش بالقراءة عليه وقصد الدنيا بالقرآن:

- ‌الباب الثالث: في الأدعية والأذكار والقصص في المساجد

- ‌الفصل الأول

- ‌السماع في المسجد

- ‌ الذاكرون المغيرون للفظ الجلالة:

- ‌ رفع الصوت في المسجد بذكر أو غيره:

- ‌ تحقيق وقت السحر، وما ينتقد على قارئي ورده في المسجد:

- ‌ الاحتراز عن البدع في الاحتفال بقراءة المولد النبوي:

- ‌ التحلق لحديث الدنيا في المسجد:

- ‌ كتابة آيات السلام ليلة آخر أربعاء من صفر الخير:

- ‌ القصاص في المساجد:

- ‌الفصل الثاني: في القراءة والقراء وغير ذلك

- ‌ اللغط وقت القراءة:

- ‌ التشويش بالقراءة على الناس:

- ‌ التشويش على القراء في المسجد:

- ‌ المعرضون عن مجالس العلم بالمسجد:

- ‌ المعرضون عن سماع خطبة العيد:

- ‌ المشتغلون بنوافل العبادة في المساجد مع الجهل وترك محل العلم:

- ‌ المسرعون بقراءة القرآن:

- ‌ اللاحنون بالقرآن في المسجد:

- ‌ دعاء ليلتي أول السنة وآخرها:

- ‌الفصل الثالث: في المؤذنين

- ‌ آداب الأذان والإقامة:

- ‌ فروع في الأذان:

- ‌ الأذان داخل المسجد في المغرب والعشاء مع الأذان في المنائر:

- ‌ الزيادة على الأذان المشروع وبدعة التنعيم:

- ‌ إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر في رمضان تعجيلًا للسحور:

- ‌ الموقتون في بعض المساجد:

- ‌ إقامة من يؤذن:

- ‌ زيادة لفظ "سيدنا" في ألفاظ إقامة الصلاة:

- ‌ الزعق بالتأمين عقب الصلوات "وترك الورد المأثور بالجهر بالصلاة الكمالية

- ‌ الإنشاد قبل خطبة الجمعة:

- ‌ تبليغ المؤذنين جماعة:

- ‌ التبليغ بالأنغام المعروفة:

- ‌ حكم التبليغ عند عدم الحاجة إليه:

- ‌ جهر المؤذنين بالورد المعلوم وبالأناشيد:

- ‌ إنشاد الغزليات في المنارات:

- ‌ نشيد وداع رمضان:

- ‌ بيان أنه لا عبرة بوجود هذه البدع بالجامع الأموي "وسكوت الأقدمين عليه

- ‌الباب الرابع: في الدروس الخاصة والعامة

- ‌الباب الخامس

- ‌الفصل الأول: فيما يفعلونه للميت في المسجد من البدع والمحدثات وهو أمور

- ‌نعي الميت في المآذن والنداء للصلاة عليه

- ‌ رفع الأصوات أمام الميت بالأناشيد "حين دخول المسجد وقبله وبعده

- ‌ رثاء الميت في المسجد وقراءة نسبه وحسبه:

- ‌ تأخير الميت في المسجد:

- ‌ الجلوس للتعزية في المسجد:

- ‌ دفن الميت في المسجد أو بناء مسجد عليه:

- ‌ نعي الإمام الشهيد الحسين عليه السلام على المنبر "في جمعة عاشوراء

- ‌الفصل الثاني: في أمور ينبغي التنبه لها

- ‌ما ينويه الماكث في المسجد من النيات الحسنة "ليبلغ بها درجات المقربين

- ‌ الانقطاع في المسجد لحفظ النفس:

- ‌ القانعون بسكنى المساجد عن الكسب:

- ‌المعتزلون في المساجد والمدارس وآفات الاعتزال

- ‌ البصراء والمتعففون الذين يألفون المساجد:

- ‌ اتخاذ الجوامع خانقاهات:

- ‌اتخاذ المساجد مكاتب أو مخافر:

- ‌ التماوت وإطراق الرأس وإحناء الظهر في المسجد وغيره:

- ‌ جهل بعض أئمة القرى:

- ‌ تقصير أكابر القرى في عمارة مساجدهم:

- ‌ تنطع من يدخل حافيًا المسجد وهو يعمر:

- ‌ إيلاف مسجد لاعتقاد فضل فيه غير المساجد الثلاثة:

- ‌ المحافظون لنعال الناس في المسجد:

- ‌ إيواء القطط في المسجد:

- ‌ إيواء المجاذيب في بعض المساجد:

- ‌ دخول الصبيان المساجد:

- ‌ بيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وتخلل السؤال الصفوف "ونحوها في المسجد

- ‌ الإيطان في موضع من المسجد:

- ‌ واجبات نظار المساجد:

- ‌ الاجتماع في المسجد للدعاء برفع الوباء:

- ‌الباب السادس: في المشروع في المساجد الثلاثة المشرفة والمبتدع

- ‌الفصل الأول: في بيت المقدس

- ‌الفصل الثاني: في مسجد الخليل

- ‌الفصل الثالث: في مزارات ما حول المدينة المنورة

- ‌الفصل الرابع: في مزارات مكة المشرفة

- ‌الفصل الخامس: في الموازنة بين مذهب عمر وبقية الخلفاء والصحابة رضي الله عنهم

- ‌الباب السابع: في بدع شتى

- ‌الخاتمة:

- ‌فهرس:

الفصل: ‌ ‌مقدمات: 1- بيان الميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور

‌مقدمات:

1-

بيان الميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه:

قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونْ} وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو قصد السبيل، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة. لكن الجور قد يكون جورًا عظيمًا عن الصراط وقد يكون يسيرًا، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله.

فالميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله صلوات الله عليه وأصحابه عليه. والجائر عنه إما مفرط ظالم أو مجتهد أو متأول أو مقلد أو جاهل، فمنهم المستحق للعقوبة، ومنهم المغفور له، ومنهم المأجور أجرًا واحدًا، بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم

ص: 9

في طاعة الله تعالى ورسوله أو تفريطهم. وبالجملة فمن اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله أو فعله فهو على صراط الله المستقيم، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه. ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع، متبع لسبيل الشيطان، غير داخل فيمن وعد الله بالمحبة والمغفرة والإحسان.

"أفاده شمس الدين ابن القيم في الباب الثالث عشر في مكايد الشيطان من "إغاثة اللهفان".

2-

الترهيب من الابتداع:

لا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم حذروا قومهم من البدع ومحدثات الأمور، وامروهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور. وجاء في كتاب الله تعالى من الأمر بالاتباع بما لا يرتفع معه الترك، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الآية، وهذا نص فيما نحن فيه.

وقد روينا عن أبي الحجاج بن جبير المكي1 -وهو من كبار التابعين وإمام المفسرين- في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} قال: البدع والشبهات.

وقال عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} قال ميمون بن مهران -وهو من فقهاء التابعين- الرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله إذا قبض إلى سنته.

وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمة قبلي إلا كان له من

1 هو الإمام سعيد بن جبير.

ص: 10

أمته حواريون أصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره -وفي رواية: يهتدون بهديه، ويستنون بسنته- ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

وفيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" زاد البيهقي: "وكل ضلالة في النار"1.

وفي "الصحيحين" و"سنن أبي داود" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية "من صنع أمرًا على غير أمرنا فهو رد"2 أي مردود على فاعله.

وأخرج "الدارمي" أن أبا موسى الأشعري قال لابن مسعود: إني رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء. ثم أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد. قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر. والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد؛ أو مفتتحو باب ضلالة! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد

1 وأخرجها النسائي أيضًا، وإسناده صحيح. انظر رسالتي "الأجوبة النافعة""ص47" و"الإرواء" 608 طبع المكتب الإسلامي.

2 متفق عليه من حديث عائشة باللفظ الأول، وهو مخرج في "تخريج الحلال والحرام" رقم 5.

ص: 11

للخير لن يصيبه

الحديث1.

وروى "الدارمي" أيضًا عن عبد الله قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم2.

وعنه قال: القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة.

وعنه قال: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله. ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع، وعليكم بالعتيق.

وعنه قال: أيها الناس، إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول.

وعن عمر قال: يهدم الإسلام زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين.

وعنه قال: سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تعالى.

وعن ابن عباس قال: عليك بتقوى الله تعالى والاستقامة. اتبع ولا تبتدع.

وعنه أن أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع، وأن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور3.

وفي سنن أبي داود عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالا. فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم4.

وفي كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أوصيكم بتقوى الله

1 وإسناده صحيح، كما حققته في "الرد على الشيخ الحبشي""ص45-47".

2 إسناده صحيح.

3 أغلب هذه الآثار، ضعيفة الأسانيد، والمؤلف رحمه الله نقلها عن أبي شامة عن "الدارمي" كما يأتي.

4 لم أره في "السنن"، وقد عزاه إليه غير المصنف أيضًا. وأظنه تابعًا لهم فيه. والله أعلم.

ص: 12

تعالى والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعد.

وعن محمد بن مسلم من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. قال أبو معشر: سألت إبراهيم بن موسى عن هذه الأهواء فقال: ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير، ما هي إلا نزعة من الشيطان، عليك بالأمر الأول.

وسأل عبد الملك بن مروان "غضيف بن الحارث" عن القصص ورفع الأيدي على المنابر فقال غضيف: إنهما لمن أمثل ما أحدثتم، وإني لا أجيبك إليهما لأني حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أمة تحدث في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها في السنة". والتمسك بالسنة أحب إلي من أن أحدث بدعة1.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة2.

أخرج هذه الآثار "الدارمي" في مسنده ونقلها عنه الإمام "أبو شامة" الدمشقي كتاب "الباعث عن إنكار البدع والحوادث".

3-

معنى البدعة:

أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احتذي ولا ألف مثله. ومنه قولهم: أبدع الله الخلق أي خلقهم ابتداء ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} وقوله: {قُلْ

1 ضعيف الإسناد.

2 صحيح الإسناد.

ص: 13

مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُل} أي لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض. وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح. ثم غلب لفظ "البدعة" على الحدث المكروه في الدين، ومثله لفظ المبتدع لا يكاد يستعمل إلا في الذم. وأما من حيث أصل الاشتقاق فإنه يقال ذلك في المدح والذم لأن المراد أنه شيء مخترع على غير مثال سبق. وقال الجوهري:"البديع المبتدع، والبدعة الحدث في الدين بعد الإكمال". ا. هـ.

وهو كل ما لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مما فعله أو أقر عليه أو عُلم من قواعد شريعته الإذن فيه وعدم النكير عليه. وفي معنى ذلك ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم، مما أجمعوا عليه قولًا أو فعلًا أو تقريرًا. وكذلك ما اختلفوا فيه فإن اختلافهم رحمة1 مهما كان للاجتهاد والتردد مساغ وليس لغيرهم إلا الاتباع دون الابتداع.

وما أحسن ما قاله إبراهيم النخعي رحمة الله عليه: "ما أعطاكم الله خيرًا أُخبئ عنهم، وهم أصحاب رسوله وخيرته من خلقه" فأشار بذلك إلى ترك الغلو في الدين وإلى الاقتداء بالسلف الصالح.

وقد قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} فكل من فعل أمرًا موهمًا أنه مشروع وليس كذلك فهو غالٍ في دينه، مبتدع فيه، قائل على الله غير الحق بلسان مقاله أو لسان حاله. وروي أن رجلا قال لمالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الرجل. فإن احرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في ازدياد

1 قلت: ما كان الاختلاف برحمة يومًا ما ولن يكون، وحسبه أن يكون مغفورًا إذا كان عن اجتهاد وإخلاص، وحديث "اختلاف أمتي رحمة" وما في معناه، لا يصح رواية ولا دراية، كما حققته في "الأحاديث الضعيفة""رقم 57-62".

ص: 14

الخير؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه} الآية، وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى من "الباعث لأبي شامة".

4-

انقسام البدعة إلى حسنة وسيئة:

تنقسم المحدثات إلى بدع مستحسنة وإلى بدع مستقبحة. قال حرملة: سمعت "الشافعي" يقول: "البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود. وما خالف السنة فهو مذموم" واحتج بقول عمر رضي الله عنه في التراويح: "نعمت البدعة"1. يعني أنها محدثة لم تكن وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى2، وإنما كان كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على قيام شهر رمضان، وفعله صلى الله عليه وسلم في المسجد، واقتدى به بعض

1 قلت: هذا الكلام ليس دقيقًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى التروايح جماعة كما يأتي من المؤلف، بل وحض عليها بقوله:"إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة" أخرجه أصحاب السنن وغيرهم بسند صحيح، وقد خرجته في رسالتي "صلاة التراويح""ص17"، فكيف توصف صلاة التراويح جماعة بأنها محدثة لم تكن! فاللهم غفرا، والحق أن عمر رضي الله عنه لم يعن بقوله:"نعمت البدعة هذه" البدعة الشرعية فإنها كلها ضلالة. وإنما أراد البدعة اللغوية، وهو الأمر الجديد الذي لم يكن، ولا شك أن الجماعة في صلاة التراويح وراء إمام واحد، لم يكن معروفًا في عهد عمر ولا في عهد أبي بكر رضي الله عنهما، فبهذا الاعتبار سماه بدعة، ووصفها بالحسن لقيام الدليل الشرعي على حسنها، هذه كلمة عاجلة، والمسألة تتطلب الإفاضة، والمجال ضيق، فمن شاء البسط فليراجع رسالتنا الآنفة للذكر، أو "الاعتصام" للإمام الشاطبي "ناصر الدين".

2 أخرجه البخاري في حديث إحياء عمر رضي الله عنه لسنة التجميع في صلاة التراويح. وقد سقته مخرجًا في رسالتي "صلاة التروايح""47، 48".

ص: 15

الصحابة ليلة بعد أخرى، ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك خشية أن يفرض عليهم. فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم أُمن ذلك فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على فعل قيام رمضان في المسجد جماعة لما فيه من إحياء ما أمر به الشارع وفعله وحث عليه ورغب فيه.

فالبدع الحسنة المتفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها هي كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء فيها ولا يلزم من فعله محذور شرعي، وذلك نحو بناء المنائر والمدارس وخانات السبل وغير ذلك من الأنواع التي لم تعهد في الصدر الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى "انتهى من الباعث".

5-

رد البدعة في الدين:

لا يخفى أن مدار العبادات إنما هو على المأثور في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة مع الإخلاص في القلب وصحة التوجه إلى الله تعالى. ولكل مسلم الحق في إنكار كل عبادة لم ترد في الكتاب والسنة في ذاتها أو صورتها، فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه بأنه أكمل لنا ديننا وأتم علينا به نعمته، فكل من يزيد فيه شيئًا فهو مردود عليه لأنه مخالف للآية الشريفة وللحديث الصحيح "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"1.

وكل البدع التي منها حسن ومنها سيئ فهي الاختراعات المتعلقة بأمور المعاش ووسائله ومقاصده وهي المراد بحديث "من سن سنة حسنة فله أجرها

1 صحيح قد مضى "ص9".

ص: 16

وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" ولولا ذلك لكان لنا أن نزيد في ركعات الصلاة أو سجداتها "حققه بعض الفضلاء" والله أعلم.

6-

بغض المبتدع:

اعلم أن كل من يحب في الله لا بد أن يبغض في الله فإنك إن أحببت إنسانًا لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله، ومن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده، وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطرد في الحب والبغض في العادات ولكن كل واحد من الحب والبغض داء دفين في القلب، وإنما يترشح عند الغلبة، ويترشح بظهور أفعال المحبين والمبغضين في المقاربة والمباعدة، وفي المخالفة والموافقة. فإذا ظهر في الفعل شيء سمي موالاة ومعاداة، ولذلك قال الله تعالى:"هل واليت في وليًّا وهل عاديت في عدوًّا"1 وأثر البغض إما في الإعراض والتباعد وقلة الالتفات، أو في الاستخفاف وتغليظ القول، أو في قطع المعونة والرفق والنصرة.

ومن الذين يُبغَضون في الله المبتدع، فإن كان يدعو إلى بدعته وهي ضلالة سبب لغواية الخلق فالاستحباب إظهار بغضه ومعاداته والانقطاع عنه وتحقيره والتشنيع عليه ببدعته وتنفير الناس عنه. وإن كان عاميا لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به فأمره أهون فالأولى أن لا يفاتح بالتغليظ والإهانة بل يتلطف به بالنصح، فإن قلوب العوام سريعة التقلب، فإن لم ينفع النصح وكان في الإعراض عنه تقبيح لبدعته في عينه تأكد الاستحباب في الإعراض، وإن علم أن ذلك لا يؤثر فيه لجمود طبعه ورسوخ عقده

1 حديث قدسي. قلت: لا أعرفه في شيء من كتب السنة المعتمدة.

ص: 17

في قلبه فالإعراض أولى؛ لأن البدعة إذا لم يبالغ في تقبيحها شاعت بين الخلق وعم فسادها "انتهى من الإحياء للإمام الغزالي".

7-

وعيد من سنَّ سُنَّة سيئة:

أخرج مسلم وغيره عن جرير رضي الله عنه في حديث وفد مصر والحث على إكرامهم قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".

8-

إنكار المنكرات المحظورة والمكروهة:

كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ينكرون أشد الإنكار على من أحدث أمرًا أو ابتدع رسمًا لم يعهدوه قل أو كثر، صغر ذلك أو كبر، كان ذلك في المعاملة أو في العبادة أو في الذكر.

والمنكرات تنقسم إلى مكروهة وإلى محظورة، فالمنكر المكروه يستحب المنع ويكره السكوت عليه ولا يحرم إلا إذا لم يعلم الفاعل أنه مكروه، فيجب ذكره له لأن الكراهة حكم في الشرع يجب تبليغه إلى من لا يعرفه، أما المنكر المحظور فالسكوت عليه مع القدرة محظور "انتهى من الإحياء للغزالي".

ص: 18

9-

مفاسد الإقرار على البدع:

من الغيرة لله ولرسوله ولدينه تعطيل ما ألصق بالدين وليس منه وهجره وإطراحه واستقباحه وتنفير الناس عنه. إذا يلزم من الموافقة عليه مفاسد:

الأولى: اعتماد العوام على صحته أو حسنه.

الثانية: إضلال الناس به وإعانة لهم على الباطل وإغراء به.

الثالثة: في فعل العالم ذلك تسبب إلى أن تكذب العامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: هذه سنة من السنن. والتسبب إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز لأنه يورط العامة في عهدة قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"1.

الرابعة: أن الرجل العالم المقتدى به والمرموق بعين الصلاح إذا فعلها كان موهمًا أنها من السنن فيكون كاذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان الحال، ولسان الحال قد يقوم مقام لسان المقال، وأكثر ما أُتي الناس في البدع بهذا السبب، يظن في شخص أنه من أهل العلم والتقوى وليس هو في نفس الأمر كذلك فيرمقون أقواله وأفعاله فيتبعونه في ذلك فتفسد أمورهم.

وفي الحديث عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أتخوف على أمتي أئمة مضلين" أخرجه ابن ماجه والترمذي وصححه. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخد الناس رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"2. قال الإمام الطرطوشي فتدبروا هذا الحديث

1 حديث صحيح متواتر. وللطبراني فيه جزء لطيف، جمع فيه طرقه، وهو محفوظ في مخطوطات ظاهرية دمشق.

2 أخرجه الشيخان، والمصنف ساقه بالمعنى، فإنه مغاير لسياقهما في بعض الألفاظ.

ص: 19

فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم وإنما يؤتون من قبل إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبلهم. قال: وقد صرف عمر رضي الله عنه هذا المعنى تصريفًا فقال: ما خان أمين قط، ولكنه ائتمن غير أمين فخان" قال ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من ليس بعالم فضل وأضل وكذلك فعل ربيعة قال مالك رحمه الله تعالى: بكى ربيعة يومًا بكاء شديدًا فقيل له: أمصيبة نزلت بك؟ قال: لا ولكن استفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم.

"انتهى من الباعث لأبي شامة".

10-

ما يجب على العالم فيما يرد عليه مما يأمن فيه من الابتداع:

لا يخفى أن السلف الصالح بلغوا إلينا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وشرحوا لنا سيرته وطريقته، وميزوا ما نقل عنه مما يجب الرجوع إليه من ذلك وما يطرح كما دون في كتب السنة. فالواجب على العالم فيما يرد عليه من الوقائع، وما يسأل عنه من الشرائع، الرجوع إلى ما دل عليه كتاب الله المنزل، وما صح عن نبيه المرسل، وما كان عليه الصحابة ومن بعدهم من الصدر الأول، فما وافق ذلك أذن فيه وأمر، وما خالفه نهى عنه وزجر، فيكون بذلك قد آمن واتبع، ولا يستحسن، فإن من استحسن فقد شرع. قال أبو العباس أحمد بن يحيى: كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذاكروا يومًا السنن فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبد الله:"أرأيت أن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام فهم الحجة على السنة" فقال ربيعة: أشهد أن هذا لكلام أبناء الأنبياء. "انتهى من الباعث لأبي شامة".

ص: 20

11-

اجتناب العالم ما يتورط بسببه العامة:

هذا باب من أبواب الدين موضوعة إصلاح المعتقدات في العبادات، وتنبيه العامة على حكم ما ألفوه من العادات. وقد سبق للعمل بهذا الباب علماء الصحابة وساسة الخلفاء الراشدين، ورأوه من المراشد الصالحة، والمناهج السامية؛ ثم نبه عليه حكماء العلماء.

قال الإمام أبو شامة في كتاب "الباعث": لا ينبغي للعالم أن يفعل ما يتورط العوام بسبب فعله في اعتقاد أمر على مخالفة الشرع. وقد امتنع جماعة من الصحابة من فعل أشياء إما واجبة وإما مؤكدة خوفا من ظن العامة خلاف ما هي عليه: قال الشافعي رحمة الله تعالى عليه: وقد بلغنا أن أبا بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يقتدى بهما فيظن من رآهما أنها واجبة. وعن ابن عباس أنه جلس مع أصحابه ثم أرسل بدرهمين فقال: اشتروا بهما لحمًا ثم قال: هذه أضحية ابن عباس. قال الشافعي: وقد كان قلما يمر به يوم إلا نحر فيه أو ذبح بمكة قال: وإنما أراد بذلك مثل الذي روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وعن أبي مسعود الأنصاري قال:"إني لأترك أن أضحي كراهية أن يرى جيراني وأهلي أنه علي حتم".

أخرجهن الحافظ البيهقي في "كتاب المعرفة"1.

قال أبو بكر الطرطوشي: انظروا رحمكم الله فإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية، أحدهما: سنة، والثاني: واجبة، ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة حذرًا من أن يضع الناس الأمر على غير وجهه فيعتقدوها فريضة.

1 قلت: وأخرجها أيضًا في "السنن الكبرى""9: 265"، وأسانيدها صحيحة عنهم، وقد صح الأمر بالأضحية في "الصحيحين" وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل ثبت عنه أنه قال:"من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا"، فلعلهم لم يبلغهم ذلك أو بلغهم، ولكنهم تأولوا الأمر على الاستحباب، ولكن الحديث الأخير لا يساعد على ذلك فتأمل.

ص: 21

قال: ومن ذلك قصة عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك أنه كان يسافر فيتم في السفر فيقال له: "أليس قصرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: "بلى. ولكني إمام الناس، فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون: هكذا فرضت"1 قال الطرطوشي رحمه الله تعالى: تأملوا رحمكم الله تعالى فإن في القصر قولين لأهل الإسلام، منهم من يقول: فريضة ومنهم من يقول: سنة، ثم اقتحم عثمان رضي الله عنه ترك الفرض أو السنة لما خاف من سوء العاقبة وأن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان.

قال: وكان عمر ينهى الإماء عن لبس الإزار وقال: "لا تشبهن بالحرائر"2 وقال لابنه عبد الله: "ألم أخبر أن جاريتك لبست الإزار لو لقيتها لأوجعتها ضربا" قال الطرطوشي: ومعلوم أن هذه سترة، ولكن فهموا أن مقصود الشرع المحافظة على حدوده، وأن لا يظن الناس أن الحرة والأمة في السترة سواء فتموت سنة وتحيي بدعة.

ثم قال "أبو شامة": ونظير ما حكي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الأضحية ما أخرجه "البيهقي في كتاب السنن"3 عن عبد الرحمن بن أبزى أن أبا بكر وعمر كانا يمشيان أمام الجنازة وكان علي يمشي خلفها، فقيل لعلي رضي الله عنه: كانا يمشيان أمامها فقال: "إنهما يعلمان أن المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذًّا ولكنهما يسهلان للناس".

1 قلت: لم يصح عن عثمان، وقد كان الأعراب يصلون وراء النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فكان إمامهم، ومع ذلك فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتم.

2 أخرجه البيهقي "2: 226" وفيه أحمد بن عبد الحميد، ولم أجد له ترجمة، لكن قال البيهقي عقبه:"والآثار عن عمر بن الخطاب في ذلك صحيحة" وراجع "المحلى" لابن حزم.

3 "ج4: 25" وفيه زائدة وهو ابن خراس، وقيل: ابن أوس بن خراس الكندي، كما قال البيهقي وسكت عنه، وكذا ابن أبي حاتم في "الجرح""1-2-612" فلم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً.

ص: 22

وقد أنكر عمر على طلحة رضي الله عنهما فعلا يغتر بظاهره الجهال فيحملونه على غير وجهه ففي الموطأ1 عن نافع أنه سمع أسلم يحدث أن عمر رأى على طلحة ثوبًا مصبوغًا وهو محرم فقال: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر2. فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم، فلو أن رجلًا جاهلًا رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة قد كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئًا من هذه الثياب المصبغة. ا. هـ.

وقال الإمام الغزالي في "الإحياء" في باب السماع: يمنع التشبه بأهل الفسق لأن من تشبه بقوم فهو منهم، وبهذه العلة نقول بترك السنة مهما صارت شعارًا لأهل البدعة خوفًا من التشبه بهم3 ثم قال: لهذا ينهى عن لبس القباء وترك الشعر على الرأس قزعًا في بلاد صار القباء من لبس أهل الفساد فيها.

وقال الشهاب ابن حجر في فتاويه الحديثية: ما يفعله كثير عند ذكر مولده صلى الله عليه وسلم ووضع أمه له من القيام بدعة لم يرد فيها شيء. قال: على أن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم. فالعوام معذورون بذلك بخلاف الخواص فلا ينبغي لهم فعله. ا. هـ.

وقال البدر العيني في "شرح البخاري" في باب المساجد التي على طريق المدينة. ينبغي للعالم إذا رأى الناس يلتزمون بالنوافل التزامًا شديدًا أن يترخص

1 وعنه أخرجه البيهقي "5-60"، وإسناده صحيح.

2 أي مصبوغ به وهو الطين العلك الذي لا يخالطه شيء من رمل.

3 قلت: ليس هذا من التشبه بهم في شيء، بل هو تشبه بمن سن السنة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذ بها بعض الفساق، فليس ذلك بالذي يمنع من استمرار الحكم السابق، وهو التشبه به صلى الله عليه وسلم، والتشبه الممنوع إنما هو التشبه بالفساق الكفار فيما هو من مميزاتهم، ألست ترى أنه صلى الله عليه وسلم لبس جبة رومية كما في "الصحيحين" من حديث المغيرة بن شعبة، فإذا كان هذا ليس تشبهًا بالروم، فبالأولى ليس تشبهًا بالفساق إذا لبسوا ما لبسه النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى. "ناصر الدين".

ص: 23

فيها في بعض المرات ويتركها ليعلم بفعله ذلك أنها غير واجبة، كما فعل ابن عباس في ترك الأضحية. ا. هـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في فتواه أن ليس للجمعة راتبة قبلية ما نصه: الأذان الذي على المنائر لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عثمان أمر به لما كثر الناس ولم يكن يبلغهم الأذان حين خروج الإمام وقعوده على المنبر. ويتوجه أن يقال هذا الأذان الثالث لما سنه عثمان واتفق عليه المسلمون صار أذانًا شرعيًّا وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة1 وليست سنة راتبة كالصلاة قبل المغرب. وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه ومن ترك ذلك لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال وكلام الإمام أحمد عليه. وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يعتقدون أن هذه سنة راتبة أو واجبة فتترك حتى يعرف الناس أنها ليست سنة راتبة ولا واجبة، لا سيما إذا داوم الناس عليها فينبغي تركها أحيانا حتى لا تشبه الفرض كما استحب أكثر العلماء "يعني المالكية والحنفية والحنابلة" أن لا يداوم على قراءة السجدة يوم الجمعة مع أنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها؛ فإذا كان يكره المداومة على ذلك فترك المداومة على ما لم يسنه صلى الله عليه وسلم أولى، وإن صلاها الرجل بين الأذانين أحيانا لأنها تطوع مطلق أو صلاة بين أذانين كما يصلى قبل العصر والعشاء لا لأنها سنة راتبة فهذا جائز، وإذا كان رجل مع قوم يصلونها فإن كان مطاعًا إذا تركها وبين لهم السنة لم ينكروا عليه بل عرفوا السنة فتركها حسن وإن لم يكن مطاعًا ورأى أن في صلاتها تأليفًا لقلوبهم إلى ما هو أنفع أو دفعًا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم وقبولهم له ونحو ذلك فهذا أيضًا حسن. فالعمل الواحد يكون مستحبًّا فعله تارة وتركه تارة باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحة، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء

1 قلت: فيه نظر بينته في رسالتي "الأجوبة النافعة" 21/ 33. "ناصر الدين".

ص: 24

البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة:"لولا أن قومك حديثو العهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه" والحديث في الصحيحين. فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم فكانت المفسدة راجحة على المصلحة ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل القنوت1 فضل بأن يسلم في الشفع ثم يصلي ركعة الوتر وهو يؤم قومًا لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن ينقلهم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه. وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل أو الجهر بها وكان المأمون على خلاف رأيه ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان هذا جائزًا حسنًا. وكذلك لو فعل خلاف الأفضل لأجل بيان السنة وتعليمها لمن لم يعلمها كان حسنًا مثل أن يجهر بالاستفتاح أو التعوذ أو البسملة ليعرف الناس أن فعل ذلك حسن مشروع في الصلاة كما ثبت في الصحيح2 "أن عمر بن الخطاب جهر بالاستفتاح فكان يكبر ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال الأسود بن يزيد: صليت خلف عمر أكثر من سبعين صلاة فكان يكبر ثم يقول ذلك. رواه مسلم في صحيحه3

1 كذا ولعل الأصل: الوتر.

2 يعني "صحيح مسلم"، وإسناده منقطع، لكن قد صح موصولا عند غيره كما حققته في "إرواء الغليل" رقم "340" يسر الله طبعه.

3 هذا العزو خطأ، تابعه عليه صاحب "منار السبيل"، فلم يخرجه مسلم من طريق الأسود بن يزيد، وإنما أخرجه "2: 12" عن عبدة أن عمر

وهذا منقطع كما تقدم، وإنما أخرجه عن الأسود ابن أبي شيبة وغيره نحوه. كما خرجته في المصدر السابق.

ص: 25

ولهذا شاع الاستفتاح حتى عمل به أكثر الناس. وكذلك ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يجهران بالاستعاذة، وكان غير واحد من الصحابة يجهر بالبسملة، وهذا عند الأئمة الجمهور الذين لا يرون الجهر بها سنة راتبة كان لتعليم الناس أن قراءتها في الصلاة سنة، كما ثبت في الصحيح:"أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرًا" وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس أنها سنة. وذلك أن الناس في صلاة الجنازة على قولين: منهم من لا يرى فيها قراءة بحال كما قاله كثير من السلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ومنهم من يرى القراءة فيها سنة كقول الشافعي وأحمد لحديث ابن عباس هذا وغيره. ثم من هؤلاء من يقول: القراءة فيها واجبة كالصلاة، ومنهم من يقول: بل هي سنة مستحبة ليست واجبة وهذا أعدل الأقوال الثلاثة1، فإن السلف فعلوا هذا وهذا وكان كلا الفعلين مشهورًا بينهم: كانوا يصلون على الجنازة بقراءة وبغير قراءة كما كانوا يصلون تارة بالبسملة وتارة بغير جهر، وتارة باستفتاح وتارة بغير استفتاح، وتارة برفع اليدين في المواطن الثلاثة وتارة بغير رفع، وتارة يسلمون تسليمتين وتارة تسليمة واحدة، وتارة يقرءون خلف الإمام بالسر وتارة لا يقرءون، وتارة يكبرون على الجنازة سبعًا وتارة خمسًا وتارة أربعًا كان فيهم من يفعل هذا وفيهم من يفعل هذا كل هذا ثابت عن الصحابة، كما ثبت عنهم أن فيهم من كان يرجع في الأذان وفيهم من لا يرجع فيه، وفيهم من يوتر الإقامة وفيهم من كان يشفعها، وكلاهما ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزًا، وقد يكون فعل المرجوح للمصلحة الراجحة كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانًا

1 قلت: في هذا نظر؛ لأن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" يشمل الصلاة على الجنازة، كما هو ظاهر. وكون السلف فعلوا هذا، وهذا، إنما يصح الاحتجاج به لو أنهم جميعًا فعلوا ذلك ورأوه مستحبًّا، أما وهم قد اختلفوا كما تقدم في كلامه، فلا يصح جعل اختلافهم دليلًا على الاستحباب كما لا يخفى، بل الواجب عند الاختلاف الرجوع إلى الدليل، وهو ما فعلنا. "ناصر الدين"

ص: 26

لمصلحة راجعة. وهذا وقع في عامة الأعمال، فإن العمل الذي هو في جنسه أفضل قد يكون في موطن غيره أفضل منه كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة وجنس القراءة أفضل الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء. ثم الصلاة بعد الفجر والعصر منهي عنها، والقراءة والدعاء والذكر أفضل منها في تلك الأوقات، وكذلك القراءة في الركوع والسجود منهي عنها، والذكر هناك أفضل منها، والدعاء في آخر الصلاة بعد التشهد أفضل من الذكر. وقد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المعين لكونه عاجزًا عن الأفضل، أو لكون محبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أكثر فيكون أفضل في حقه لما يقترن به من مزيد علمه وحبه وإرادته وانتفاعه كما أن المريض ينتفع بالدواء الذي يشتهيه ما لا ينتفع بما لا يشتهيه وإن كان جنس ذلك أفضل، ومن هذا الباب صار الذكر لبعض الناس في بعض الأوقات خيرًا من القراءة والقراءة لبعضهم في بعض الأوقات خيرًا من الصلاة وأمثال ذلك لكمال انتفاعه به لا لأنه في جنسه أفضل.

وهذا الباب باب تفضيل بعض الأعمال على بعض إن لم يعرف فيه التفضيل، وأن ذلك يتنوع بتنوع الأحوال في كثير من الأعمال وإلا وقع فيه اضطراب كثير فإن من الناس من إذا اعتقد استحباب فعل ورجحانه يحافظ عليه ما لا يحافظ على الواجبات حتى يخرج به الأمر إلى الهوى والتعصب والحمية الجاهلية كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور فيراها شعارًا لمذهبه. ومنهم من إذا رأى ترك ذلك هو الأفضل يحافظ أيضًا على هذا الترك أعظم من محافظته على ترك المحرمات حتى يخرج به الأمر إلى اتباع الهوى والحمية الجاهلية كما تجده فيمن يرى الترك شعارًا لمذهبه وأمثال ذلك. وهذا كله خطأ والواجب أن يعطى كل ذي حق حقه، ويوسع ما وسع الله ورسوله، ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله، ويراعي في ذلك ما يحبه الله ورسوله من المصالح الشرعية والمقاصد الشرعية، ويعلم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله بعثه رحمة للعالمين، بعثه بسعادة الدنيا والآخرة في كل أمر من الأمور

ص: 27

وأن يكون مع الإنسان ما يحفظ به هذا الإجمال، وإلا فكثير من الناس يعتقد هذا مجملا وبدعه عند التفصيل إما جهلا، وإما ظلمًا، وإما ظنًا، وإما اتباعًا للهوى، فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

12-

فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

لا خفاء في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم شعائر الدين. وأهم المفترضات على المؤمنين. وقد أمر الله بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وحث عليه ورغب فيه فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأبرز القائمين في أجل مظهر يمكن أن تظهر فيه حال أمة فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فقدم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الإيمان في هذه الآية مع أن الإيمان هو الأصل الذي تقوم عليه أعمال البر والدوحة التي تتفرع عنها أفنان الخير؛ تشريفًا لتلك الفريضة، وإعلاء لمنزلتها بين الفرائض. بل تنبيهًا على أنها حفاظ الإيمان وملاك أمره. ثم شد بالإنكار على قوم أغفلوها. وأهل دين أهملوها فقال:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فقذف عليهم اللعنة وهي أشد ما عنون به على مقته وغضبه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان"1.

1 حديث صحيح، رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري، وهو مخرج في "مشكلة الفقر""66".

ص: 28

وقال عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس مروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم؛ وقبل أن تستغفروا فلا يغفر لكم. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقًا ولا يقرب أجلا وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء"1. وقال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" 2. وسئل صلوات الله عليه عن خير الناس فقال: "أتقاهم للرب وأوصلهم للرحم؛ وآمرهم بالمعروف. وأنهاهم عن المنكر"3.

فقد تبين واتضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا رخصة لأحد في تركهما عند القدرة والإمكان. وأن من أضاع ذلك وتساهل فيه فهو متهاون بحق الله، وغير معظم لحرماته كما ينبغي، وقد ضعف إيمانه، وقل من الله خوفه وحياؤه، فإن كان سكوته رغبة في الدنيا وطمعًا في الجاه والمال ويخشى أنه إذا أمر أو نهى سقطت منزلته وضعف جاهه عند من أمره أو نهاه من العصاة والظلمة فقد عظم أثمه وتعرض بسكوته لسخط ربه ومقته، فأما إذا سكت عن الأمر والنهي لعلمه أنه يحصل له إذا أمر أو نهي مكروه في نفسه أو ماله فقد يجوز له السكوت إذا تحقق ذلك وكان المكروه الذي يحصل له شديدًا وله وقع ظاهر؛ ولو أمر أو نهى مع ذلك كان له أجر عظيم وثواب جزيل وكان ذلك منه دليلا على محبة الله وإيثاره على نفسه وعلى نهاية الحرص على نصرته لدينه كما قال تعالى:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وما أحسن حال العبد إذا ضرب أو حبس أو شتم بسبب قيامه بحقوق ربه وأمره بطاعته ونهيه عن معصيته، ذلك دأب الأنبياء والصالحين والعلماء العاملين، كما هو منقول في أخبارهم، ومعروف من سيرهم وآثارهم. ولا خير في

1 إسناده ضعيف، كما بينته في "الضعيفة""2092".

2 حديث صحيح خرجته في "الصحيحة""487".

3 إسناده ضعيف كما في "الضعيفة""2093".

ص: 29

الجبن والضعف المانعين من نصرة الدين ومجاهدة الظالمين والفاسقين لردهم إلى طاعة الله رب العالمين، فإن الغضب لله والغيرة له عند ترك أوامره، وارتكاب نواهيه، وزواجره، شأن الأنبياء والصديقين، وبذلك وصفوا، واشتهروا وعرفوا، كما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يغضب لنفسه، فإذا انتهك شيء من حرمات الله تعالى لم يقم لغضبه شيء1 وكما قال عليه الصلاة والسلام في حق عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"تركه قوله الحق وما له في الناس من صديق"2 وقال تعالى في وصف أحبابه من المؤمنين: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} .

فتبين أن المؤمن الكامل لا يقدر أن يملك نفسه عند مشاهدة المنكرات يغيرها أو يحال بينه وبين ذلك بما لا طاقة له على دفعه. وأما المنافق ومن ضعف إيمانه جدًّا فإذا رأوا المنكرات تعللوا وعذروا أنفسهم بالأعذار الركيكة التي لا يقوم بها حجة عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتراهم إذا شتموا أو ظلموا بشيء من أموالهم يقومون أتم القيام ويغضبون أشد الغضب، ومن فعل معهم ذلك يخاصمونه ويصارمونه الزمان الطويل، ولا يفعلون شيئًا من ذلك مع المصرين على الظلم والمنكر المضيعين لحقوق الله، وأن المؤمنين الصادقين على العكس من ذلك يغضبون لله ولا يغضبون لأنفسهم ويقاطعون من عصى الله وترك أمره ويصارمونه إذا لم يقبل الحق ويصفحون ويتجاوزون عمن ظلمهم أو شتمهم. فانظروا الفرق ما بين الفريقين وكونوا مع أحسنهم فريقًا، وأقومهم طريقًا {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .

1 غريب بهذا اللفظ، والمعروف من حديث عائشة بلفظ: "

وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها". أخرجه مالك "2/ 902/ 2" وعنه البخاري "2: 394" ومسلم "7: 80" وأحمد "6: 114، 116، 262".

2 حديث ضعيف جدًّا، وقد استغربه الترمذي، واستنكره جمع، وبيانه في الضعيفة "2049".

ص: 30

ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية فحيث قام به البعض من المسلمين سقط الحرج بقيامهم عن الباقين، واختص الثواب بالقائمين فقط. وحيث قصروا كلهم عم الإثم والحرج كل عالم بالمنكر منهم يستطيع إزالته وتغييره بيد ولسان.

وأول ما يجب عند مشاهدة المنكرات التعريف والنهي بلطف ورفق وشفقة، فإن حصل بذلك المقصود وإلا انتقل منه إلى الوعظ والتخويف والغلظة في القول والتعنيف ثم إلى المنع والقهر باليد وغيرها ومباشرة تغيير المنكر بالفعل. أما الرتبتان الأوليان -التعريف باللطف والوعظ والتخويف- منهما فعامتان والغالب فيهما الاستطاعة ومدعي العجز عنهما متعلل ومتعذر في الأكثر بما لا يقوم به عذر، وأما الرتبة الثانية التي هي المنع بالقهر وتغيير المنكر فلا يستطيعه ويتمكن منه في الأكثر إلا من بذل نفسه لله تعالى، وجاهد بماله ونفسه في سبيل الله، وصار لا يخاف في الله لومة لائم، أو كان حاكمًا أو مأذونًا له من قبله.

والحاصل أن الإنسان يأتي من ذلك بما يستطيع ولا يقصر في نصرة دين الله ولا يعتذر في إسقاط ذلك بالأعذار التي لا تصح ولا يسقط بها ما وجب عليه من أمر الله.

واعلم أن الأخذ بالرفق واللطف، وإظهار الشفقة والرحمة، عليه مدار كبير عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعليك به ولا تعدل عنه ما دمت ترجو نفعه وحصول المقصود به وفي الحديث:"ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه" 1 وورد أيضًا "أنه لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه"2.

1 حديث صحيح، ومن حديث أنس وعائشة، وقد خرجته في التعليق على "المشكاة""4854".

2 حديث لا يعرف له أصل إنما هو من أحاديث الغزالي في "الإحياء""2: 292" وقال الحافظ العراقي: "لم أجده هكذا، والبيهقي في "الشعب" من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف". قلت: هذا التخريج يوهم أن إسناده إلى عمرو سالم من العلة، وليس كذلك، فإن دونه ثلاثة من الضعفاء على التسلسل كما بينته، في "الأحاديث الضعيفة" "2097".

ص: 31

وليحذر من المداهنة في الدين، ومعناها أن يسكت الإنسان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن قول الحق وكلمة العدل طمعًا في الناس وتوقعًا لما يحصل منهم من جاه أو مال أو حظ من حظوظ الدنيا. هذا ما جاء في كتاب النصائح الدينية للإمام "با علوي الحداد" قدس سره.

وقال بعض الفضلاء: قد يظن أن النهي عن المنكر من أصعب الأمور مع أن إزالة المنكر في الشرع تكون بالفعل، فإن لم يكن فبالقول، فإن لم يكن فبالقلب، وهذه الدرجة الثالثة هي الإعراض عن الخائن والفاسق والنفور منه وإبطان بغضه في الله، ومن علائم ذلك تجنب مجاملته ومعاملته. ولا شك أن إيفاء هذا الواجب الديني كاف للردع ولا يتصور العجز عنه، قال تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْض} .

13-

بيان من هو المستطيع لإزالة البدع في المساجد:

إن قلت: من المستطيع في هذه الإعصار لإزالة البدع والمنكرات في المساجد، الجريء عليها، النافذ الكلمة في شأنها، حتى يتوجه إليه تكليف السعي بإماطتها عن جادة الحق؟؟

قلت: لا إخال أنه يخفى معنى اللفظ النبوي والمراد منه وهو المستطيع المتحقق وجوده في كل عصر، فكل عالم يؤم قومًا في مسجد أو يدرس فيه أو يعظ يتعين عليه السعي في إزالتها إذا كان له نفوذ كلمة لدى الحكام،

ص: 32

وإلا فالأمر منوط برئيس العلماء ووجيههم عند الأمراء فإنه مسموع الكلمة مطاع الإشارة في ذلك مرهوب المقام بين العامة، فإذا أمر المبتدعين في المساجد بترك بدعتهم فإنهم يرضخون له رهبة منه. حتى إذا عانده أحد فإن له من الوجاهة ما يمكنه رفع ذلك، كأن يعلم والي البلدة أو حاكمها وهو ينفذ له مرامه، وذلك أن الحاكم يأمر رئيس الشرط أن يرسل من جنده من ينذر المبتدعين بأن من لم يقلع عن بدعته فإنه يودع في السجن، فإذا حضرت الشرط وأرهبت المبتدعين فلا تلبث البدعة أن تذهب كأمس الدابر وتصبح حديثًا من الأحاديث.

ولقد شاهدنا في عصرنا وما قبله أن المدرسين في الجامع الأموي كانوا يصلون العشاء جماعات متعددة كل مدرس يؤم تلامذته عند حلقته، وهكذا في رمضان فلا تحصى جماعات التراويح. ولا تسل عن التسابق في حلبة الاستعجال وأيهم يفرغ قبل، مما يؤسف كل عاقل، وهكذا بعد صلاة الجمعة في جماعات الظهر. فتراءى لمفتي الشام أن ينهي عن هذه البدعة -بدعة تقسيم المصلين وتفريق كلمة المجمعين- فأمر الفقهاء والمدرسين في هذا الجامع بالكف عن هذا التفرق والتفريق، وأن ينضموا للإمام الراتب فقط، فرضخ الكثير منهم وهدوا إلى نبذ تلك العادة السيئة؛ وأبى البعض فاستعان المفتي على دحر عناده ومحو إصراره بالوالي، فأوعز إلى رئيس الشرط فأرسل من ينهاه على إصراره ويحذره عاقبة استكباره، فلما رأى ما ليس في الحسبان استخذى واستكان، فشكرت الألسنة هذه الحسنة وبالله التوفيق.

ولا يزال كثير من الدمشقيين يذكرون ما كان في عهد والي سورية رشدي باشا الشرواني فإنه أمر بترك كثير من العوائد المبتدعة من الصياح في المساجد والأناشيد فيها، والجهر بالأوراد المشوش على المصلين، وضجة المنشدين في الجنائز، وما شاكل ذلك مما حمده العقلاء وشكروا سعيه المبرور فيه. إلا أنه بعد عزله "عام 1282" ما لبثت تلك العوائد الموروثة أن عادت إلى شكلها الأول. ولا يخفى أن محوها متوقف على نظرة صادقة من الرؤساء وفقهم الله تعالى.

ص: 33

ثم قرأت في كتاب "الدارس للنعيمي" أن الملك الكامل كان أمر أئمة الأموي في عهده أن لا يصلي أحد منهم سوى الإمام الكبير، لما كان يقع من التشويش والخلاف بسبب اجتماعهم في وقت واحد. قال النعيمي -ولنعم ما فعل- قال: وقد فعل هذا في زماننا في صلاة التراويح، اجتمع الناس على قارئ واحد وهو الإمام الكبير في المحراب عند المنبر. ا. هـ.

وبالجملة فالواقف على هذا يعلم أن قد وجد في الأعصر الغابرة من تنبه لمثل هذه البدع من الأمراء فأزالها، وما أيسر الأمر عليهم وما أسهل على من يصحبهم من رؤساء العلم تبليغهم تلك المنكرات لو كانوا فاعلين.

14-

لزوم الصبر والتواصي به للداعي إلى الحق:

قال أستاذ إمام وحكيم همام1: الصبر في القرآن ذكر سبعين مرة، ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار. وهذا يدل على عظم أمره. وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونًا بالتواصي بالحق؛ إذ لا بد للداعي إلى الحق منه. والمراد بالصبر في هذه الآيات كلها ملكة الثبات والاحتمال التي تهون على صاحبها كل ما يلاقيه في سبيل تأييد الحق. ونصر الفضيلة فضيلة هي أم الفضائل التي تربي ملكات الخير في النفس، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليها، وإنما يظهر الصبر في ثبات الإنسان على عمل اختياري يقصد به إثبات حق أو إزالة باطل أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة أو إيجاد وسيلة إلى عمل عظيم لأن أمثال هذه الكليات التي تتعلق بالمصالح العامة هي التي تقابل من الناس بالمقاومة والمحادة التي يعوز فيها الصبر ويعز معها الثبات على احتمال المكارة ومصارعة الشداد فالثابت على العمل في مثل هذه الحال هو الصابر والصبار، وإن كان في أول

1 هو مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه "في تفسيره لصورة العصر".

ص: 34

الأمر متكلفًا، ومتى رسخت الملكة يسمى صاحبها صبورًا1.

وقال أيضًا: التواصي بالحق لا يكون إلا من متعدد فلا نجاة من الخسران إلا بأن يقوم الأفراد من الأمة مهما عظم عددهم بأن يوصي كل واحد منهم من يعرفه من الباقين بأن يطلب الحق ويلتزمه وأن يأخذ بالصبر في جميع شئونه فلو أن شخصًا واحدًا قام بذلك وأوصى غيره، ولكن الباقين لم يقوموا بمثل ما قام به لحل الخسر بالجميع في الدنيا لا محالة، فإن الأمة إذا غفل معظمها عن الحق والدعوة إليه ووهن الصبر في نفوسهم فلا محالة يستولي عليها الباطل وتضعف منها العزائم فيسوء حالها وترمي بنفسها في الهلكة {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} . وأما في الآخرة فالخسار إنما يحيق بمن لم يوص أو من لم يسمع الوصية ولم يقبلها فإن كان الموصي لم يحصل من وسائل التقريب ما يحتاج إليه وكان نفور صاحبه من طريقة نصحه ولو سلك غيرها لقبل منه كان الخسار في الآخرة عليه كذلك وأي نجاة لأمة يسكت أبناؤها على المنكر يفشو بينهم ولا تتحرك نفوسهم إلى التناهي عنه، والمنكر مفسدة الأفراد ومقراض الأمم.

التواصي بالحق والتواصي بالصبر يدخل فيهما الأمران؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن من أوصى بالحق ودعا إليه لا يتم له ذلك حتى ينهى عن الباطل ويصد عنه ومن أوصى بالصبر على مشاق الأعمال الصالحة لا يكمل له ذلك حتى يتبين مساوئ الأعمال الخبيثة وعواقب التفريط بترك تلك الصالحات. فقد أودع الله في هذين الركنين ركني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع الأعمال والأحوال وقرر لنا أن لا نجاة لقوم من الخسران في الدنيا والآخرة إلا بأن يقوم كل واحد منهم بما يجب عليه من ذلك في القدر الذي يمكنه وعلى الوجه الذي يمكنه.

1 انظر في كتاب "عدة الصابرين" المطبوع بمصر للصالح المصلح ابن قيم الجوزيه ففيه أبسط بيان في موضوع الصبر من جميع وجوهه.

ص: 35

فمن الواجب على كل أمة تريد أن تنجو من الخسران أن تقوم بهذا الفرض وهو التواصي بالخير والتناهي عن الشر أو التواصي بالحق والتواصي بالصبر فإذا طرأ على عوائد الأمة أو نزل بها من الحوادث ما بغض إليها التناصح أو حبب إليها التساهل في فريضة التواصي كان ذلك إنذارًا بحلول الخسار وتعرضًا في الدنيا للعار والدمار وفي الآخرة لعذاب النار.

ولا يجوز لأحد أن يتعلل بذلك التساهل إذا وقع من الأمة ويقنع نفسه بأنه عاجز عن النجاح في نصيحته، ولهذا يكفيه أن ينكر المنكر بقلبه وبذلك ينجو من الخسران الأخروي إن لم ينج من الخسران الدنيوي كما يتوهمه بعض المسلمين اليوم خصوصًا أولئك الذين عرفوا بينهم بالعلماء فقد أخطئوا الخطأ العظيم في زعمهم أن إعراض العامة عنهم ينجيهم من العقوبة الإلهية إذا لم يبذلوا النصح لهم ولم يبينوا لهم وجه الحق وإن أنكروه وصكوا وجه الداعي إليه فقد صدق الله وعده، وأكد خبره، ولا سبيل إلى التأويل في أمره، ولا إلى جحد ما يتلوه من أثره. ا. هـ.

15-

نقم المتعصبين على منكر البدع بغيًا وجهلًا:

قال بعضهم: مضت سنة الله تعالى في أهل البغي والشقاق أن يظهر تفرقهم وخلافهم بعد ظهور الحق {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} ، {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فعلى المؤمن أن يأخذ بالحق متى ظهر له ويرشد إليه متى عرفه لا يخاف فيه لومة لائم ولا خوض آثم. وإذا كان قد سبق له عمل بخلافه عن خطأ في الاجتهاد فهو مثاب على نيته وإن كان قد أمره بذلك عالم

ص: 36

فذلك العالم أيضًا مثاب إن كان قد تحرى الحق بقدر طاقته.

ثم قال فيمن يكبر مسألة ويعظمها لمخالفتها لحكم سلطان العادة: هذه سنة الله في الخلق يهتم الناس على قدر جهلهم بالأمور التي لا يترتب عليها نفع ولا ضر ويتركون عظائم الأمور لا يبالون بها. أرأيت أيها الأخ أيهتم قومك بالإنكار على تارك الصلاة أو مانع الزكاة كما يهتمون في تقديس ما ألفوا عليه آباءهم والقيام في وجه المحق انتصارًا للنفس وتعصبًا على المخالف واحتفاظًا بالعادة؟ كلا. فالواجب على المحق أن يبينه للناس غير مبال بلغط اللاغطين واختلاف الجاهلين والله ولي المتقين.

16-

عدوى البدع من شؤم المخالطة:

قال الإمام ابن الحاج عليه الرحمة والرضوان في كتابه "المدخل" في فقه حديث معاذ رضي الله عنه: نهى عن السجود للبشر وأمرنا بالمصافحة1. وحديثه لما حكى للنبي صلى الله عليه وسلم سجود النصارى لبطارقتهم وهمَّ رضي الله عنه بالسجود له صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تفعل" يؤخذ منه التحرز عن مخالطة أهل الكتاب إذ إن النفوس تميل غالبًا إلى ما يكثر ترداده عليها. ومن ههنا والله أعلم كثر التخليط على بعض الناس في هذا الزمان "يعني زمنه في مصر" لمجاورتهم ومخالطتهم لقبط النصارى مع قلة العلم والتعلم فأنست نفوسهم بعوائد من خالطوه فنشأ من ذلك الفساد وهو أنهم وضعوا تلك العوائد التي أنست بها نفوسهم موضع السنن حتى إنك إذا قلت لبعضهم اليوم "السنة كذا" يكون جوابه لذلك على الفور: عادة الناس

1 حديث معاذ في النهي عن السجود للبشر، صحيح، ولكن ليس فيه الأمر بالمصافحة، وهو مخرج في "إرواء الغليل""2058"، وإنما جاء الأمر بها في حديث ضعيف مخرج في "الضعيفة""1766".

ص: 37

كذا، وطريقة المشايخ كذا. فإن طالبته بالدليل الشرعي لم يقدر على ذلك إلا أنه يقول نشأت على هذا، وكان والدي وجدي وشيخي وكل من أعرفه على هذا المنهاج، ولا يمكن في حقهم أن يرتكبوا الباطل أو يخالفوا السنة. فيشنع على من يأمره بالسنة ويقول له: ما أنت أعرف بالسنة ممن أدركتهم من هذا الجم الغفير وقد أنكر بعض العلماء على الإمام مالك رحمه الله في أخذه بعمل علماء المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فكيف يحتج هذا المسكين بعمل أهل القرن السابع "عصر صاحب المدخل" مع مخالطتهم لغير جنس المسلمين من القبط والأعاجم وغيرهما نعوذ بالله من الضلال. انتهى كلامه.

وفي الحديث الصحيح "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"1.

17-

ما يجب على العالم إذا خالط العامة:

ينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة حال مجالستهم في بيان الواجبات والمحرمات ونوافل الطاعات وذكر الثواب والعقاب على الإحسان والإساءة ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها ويزيد بيانًا للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها ولا يسكت حتى يسأل عن شيء من العلم وهو يعلم أنهم محتاجون إليه ومضطرون له فإن علمه بذلك سؤال منهم بلسان الحال، والعامة قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين علما وعملا فلا ينبغي للعلماء

1 حديث صحيح، مخرج في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدري، وله شاهد قوي من حديث أبي هريرة مرفوعًا نحوه. أخرجه ابن ماجه "3994" وأحمد "2: 450: 527" بإسناد حسن، وصححه الحاكم "1: 37" على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وله في "المسند" "2: 327" طريق أخرى عن أبي هريرة وإسناده صحيح على شرط مسلم.

ص: 38

أن يساعدوهم على ذلك بالسكوت عن تعليمهم وإرشادهم فيعم الهلاك ويعظم البلاء وقلما تختبر عاميًّا -وأكثر الناس عامة- إلا وجدته جاهلا بالواجبات والمحرمات وبأمور الدين التي لا يجوز ولا يسوغ الجهل بشيء منها وإن لم يوجد جاهلا بالكل وجد جاهلا بالبعض وإن علم شيئًا من ذلك وجدت علمه به علمًا مسموعًا من ألسنة الناس لو أردت أن تقلبه له جهلا فعلت ذلك بأيسر مئونة لعدم الأصل والصحة فيما يعلمه.

وينبغي أيضًا للعلماء وخصوصًا منهم ولاة الأحكام أن يعظو عامة المسلمين عند الاختصام إليهم ويخوفوهم بما ورد عن الله وعن رسوله من التشديدات والتهديدات في الدعاوي الكاذبة وشهادة الزور والأيمان الفاجرة والمعاملات الفاسدة مثل الربا وغيره ويذكرون لهم ما ورد من تحريم هذه الأمور وشدة العقاب فيها وذلك لغلبة الجهل وشدة الحرص وقلة المبالاة بأمر الدين وكم من عامي سمع تحريم الكذب في الدعاوي والشهادات والأيمان فرجع عن شيء قد عزم عليه من ذلك لجهله وقلة علمه، وعلى الجملة فيتأكد على العلماء أن يجالسوا الناس بالعلم ويحدثوهم به ويبثوه لهم ويكون كلام العالم معهم في بيان الأمر الذي جاءوا إليه من أجله مثل ما إذا جاءوا لعقد نكاح يكون كلامه معهم فيما يتعلق بحقوق النساء من الصداق والنفقة والمعاشرة بالمعروف وما يجري هذا المجري، ومثل ما إذا جاءوا لعقد بيع يكون كلامه معهم في الشهادات وفي صحيح البيوع وفاسدها ونحو ذلك، وهذا خير وأولى في هذه المجالس من الخوض في فضول الكلام وما لا تعلق له بالأمر الذي من أجله جاءوا ولا بالدين رأسًا. ولا ينبغي للعالم أن يخوض مع الخائضين ولا يصرف شيئًا من أوقاته في غير إقامة الدين، وهذا الذي ذكرناه من أنه ينبغي للعالم ويتأكد عليه أن يجعل مجالسته ومخالطته مع عامة المسلمين مغمورة ومستغرقة بتعليمهم وتنبيههم وتذكيرهم قد صار في هذا الزمان بالخصوص من أهم المهمات على أهل العلم لاستيلاء الغفلة والجهل والإعراض عن العلم والعمل على عامة الناس فإن ساعدهم أهل العلم على ذلك بالسكوت عن التعليم والتذكير غلب الفساد وعم الضرر، وذلك مشاهد لإهمال العامة أمر

ص: 39

الدين وسكوت العلماء عن تعليمهم وتعريفهم ولا حول ولا قوة إلا بالله "هذا ما في النصائح الدينية للإمام باعلوي الحداد".

18-

السعي بإزالة البدع من المساجد:

قال الإمام ابن الحاج رحمه الله تعالى في "المدخل" في ترجمة بيان الأمر بتغير البدع التي أحدثت في المساجد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"1 ولا شك أن المسجد وما يفعل فيه من رعية الإمام والمؤذن والقيم إلى غير ذلك ممن له التصرف. ألا ترى إلى فعله عليه الصلاة والسلام حين رأى نخامة في القبلة فحكها بيده ورؤي كراهيته لذلك وشدته عليه2. فإذا تقرر أن المسجد من رعية الإمام فيحتاج إلى أن يتفقده فما كان فيه على منهاج السلف الماضين أبقاه وما كان من غير ذلك أزاله برفق وتلطف إن قدر على ذلك كما تقدم من فعله عليه الصلاة والسلام في النخامة. ا. هـ. وقد سبق قبل في بيان من هو المستطيع لإزالة البدع في المساجد زيادة فتذكره.

19-

حكم المسجد في أرض مغصوبة أو من مال مغصوب:

قال الإمام الغزالي عليه الرحمة والرضوان: المواضع التي بناها الظلمة

1 أخرجاه في "الصحيحين" من حديث ابن عمر مرفوعًا، وهو مخرج في "تخريج الحلال والحرام" رقم "267".

2 حديث صحيح، ورد عن جمع من الصحابة منهم ابن عمر وأبو سعيد وجابر وغيرهم، وأحاديثهم مخرجة في "صحيح سنن أبي داود""498/ 500".

ص: 40

كالقناطر والرباطات والمساجد والسقايات ينبغي أن يحتاط فيها وينظر: أما القنطرة فيجوز العبور عليها للحاجة، والورع والاحتراز ما أمكن، وإن وجد عنه معدلا تأكد الورع. وإنما جوزنا العبور وإن وجد معدلا لأنه إذا لم يعرف لتلك الأعيان مالكا كان حكمه أن يرصد للخيرات وهذا خير، فأما إذا عرف أن الآجر والحجر قد نقلا من دار معلومة أو مقبرة أو مسجد معين فهذا لا يحل العبور عليها أصلا إلا بضرورة يحل بها مثل ذلك من مال الغير، ثم يجب عليه الاستحلال من المالك الذي يعرفه. وأما المسجد فإن بني في أرض مغصوبة أو بخشب مغصوب من مسجد آخر أو من ملك معين فلا يجوز دخوله أصلا ولا للجمعة وإن كان من مال لا يعرف مالكه فالورع العدول إلى مسجد آخر إن وجد فإن لم يجد غيره فلا يترك الجمعة والجماعة لأنه يحتمل أن يكون من ملك الذي بناه ولو على بعد، وإن لم يكن له مالك معين فهو لمصالح المسلمين. وأما الخلوق والتجصيص فلا يمنع من الدخول لأنه غير منتفع به وإنما هو زينة والأولى أنه لا ينظر إليه. انتهى كلام الغزالي.

وفي كتاب "كنوز الصحة ويواقيت المنحة" في الكلام على المارستان الكبير قال: وتورع طائفة من أهل الدين عن الصلاة بالمدرسة المنصورية والقبة وعابوا المارستان لكثر عسف الناس في عمله، وذلك أنه لما وقع اختيار الملك المنصور قلاوون الصالحي سنة 682 على عمل الدار القطبية مارستانًا وقبة ومدرسة ندب الطواشي حسام الدين بلال المغيثي للكلام في شرائها فساس الأمر في ذلك حتى أنعمت مؤنسة خاتون ببيعها على أن تعوض عنها بدار تلمها وعيالها وبمال وافر يحمل إليها، ووقع البيع على هذا فندب قلاوون الأمير سنجر الشجاعي للعمارة فأخرج النساء عن الدار القطبية من غير مهلة وأخذ ثلاثمائة أسير وجمع صناع القاهرة ومصر وتقدم إليهم بأن يعملوا بأجمعهم ومنعهم أن يعملوا لأحد في المدينتين شغلا وشدد في ذلك وكان مهابًا فلازمه العملة ونقل من قلعة الروضة ما يحتاج إليه من العمد والصوان والرخام والقواعد والأعتاب والرخام البديع وغير ذلك، وصار يركب إليها كل يوم وينقل الأنقاض المذكوره

ص: 41

على العجل إلى المارستان ويعود إليه فيقف مع الصناع حتى لا يتوانوا في عملهم وأوقف مماليكه بين القصرين فكان إذا مر أحد ولو جليلا ألزموه إن يرفع حجرًا ويلقيه في موضع العمارة فينزل الجندي والرئيس عن فرسه حتى ينقل ذلك فترك أكثر الناس المرور من هناك ورأوا بعد الفراغ من العمارة وترتيب الوقف فتيا صورتها:

"ما تقول أئمة الدين في موضع أخرج أهله منه كرها وعمر بمستحثين يعسفون الصناع وأخرب ما عمره غيره ونقل إليه ما كان فيه فعمر به هل تجوز الصلاة فيه أم لا؟ ".

فكتب عليها جماعة من الفقهاء: "لا تجوز فيه الصلاة".

فما زال المجد بن الخشاب حتى أوقف الشجاعي على ذلك فشق عليه وجمع القضاة ومشايخ العلم بالمدرسة المنصورية وأعلمهم بالفتيا فلم يجبه أحد منهم بشيء سوى الشيخ محمد المرجاني فإنه قال: "أنا أفتيت بمنع الصلاة فيها وأقول الآن أنه يكره الدخول من بابها" ونهض فانفض الناس.

واتفق أن الشجاعي ما زال بالشيخ محمد المرجاني يلح عليه ويسأله أن يعمل ميعاد وعظ في المدرسة المنصورية حتى أجاب بعد تمنع شديد فحضر الشجاعي والقضاة وأخذ المرجاني في ذكر ولاة الأمور من الملوك والأمراء والقضاة وذم من يأخذ الأراضي غصبًا ويستحث العمال في عمائره وينقص من أجورهم وختم بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} وقام فسأله الشجاعي الدعاء له فقال: يا علم الدين إن أدع لك فقد دعا عليك من هو خير مني وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق به فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه" 1 وانصرف فصار الشجاعي من ذلك في قلق عظيم وطلب الشيخ تقي الدين محمد

1 حديث صحيح، أخرجه مسلم "6/ 7" وأحمد 6/ 93، 257، 258" من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. وله في "المسند" "6: 62، 260" طريق أخرى عنها، وبإسناده على شرط مسلم.

ص: 42

ابن دقيق العيد وكان له فيه اعتقاد حسن وفاوضه في حديث الناس في منع الصلاة في المدرسة وذكر له أن السلطان قلاوون إنما أراد محاكاة نور الدين الشهيد والاقتداء به في عمل الخير فوقع البأس في القدح في قلاوون ولم يقدحوا في نور الدين. فقال له: إن نور الدين أسر بعض ملوك الفرنج وقصد قتله ففدى نفسه بتسليم خمس قلاع وخمسمائة ألف حتى أطلقه فمات في طريقه قبل وصوله إلى مملكته وعمر نور الدين بذلك المال مارستانه بدمشق من غير مستحث فمن أين يا علم الدين نجد مالا مثل هذا المال وسلطانًا مثل نور الدين غير أن السلطان له نيته وأرجو له هذا الخير بعمارة هذا الموضع، وأنت إن كان وقوفك في عمله بنية نفع الناس فلك الأجر وإن كان ليعلم أستاذك علو همتك فما حصلت على شيء فقال الشجاعي:"الله المطلع على النيات" وقرر ابن دقيق العيد في تدريس القبة. انتهى بحروفه.

أقول: صرح الحنابلة في فروعهم بعدم صحة الصلاة في المكان المغصوب. قال في "الإقناع وشرحه": إن تصرفات الغاصب الحكمية كالصلاة بثوب مغصوب وفي مكان مغصوب والوضوء من ماء مغصوب ونحوها تحرم ولا تصح لحديث "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 1 أي مردود. ا. هـ.

20-

إيثار للمسجد الذي تقل فيه البدع:

قال الإمام ابن الحاج في "المدخل": ينبغي للمحافظ على إظهار معالم الشرع والنهوض إليها أن يبادر إلى الصلوات الخمس في المسجد في جماعة فإن لم يكن في المسجد شيء يتخوف منه -أعني من البدع- فلينظر أيهما أفضل له هل المقام في المسجد أو الرجوع إلى بيته بحسب الأعمال التي تنوبه في المسجد أو

1 مضي برقم "4"، وفي الاستدلال به على ما ذكر نظر لا يخفى على اللبيب، ألست ترى أن الصلاة في ثوب حرير للرجل حرام، ومع ذلك فهي لا تبطل به!

ص: 43

في بيته فأيهما كان أفضل وأكثر نفعًا بادر إلى فعله سيما إذا كان النفع متعديًا وإن كان يتخوف من شيء فيه فالرجوع إلى بيته أفضل. ثم قال: فلا يترك الصلاة في جماعة في المسجد لأجل ما حدث من البدع إذ إن الصلوات الخمس من معالم الدين ومن أعظم شعائر الإسلام وهي أول ما ابتدئ به من عبادة الأبدان وليس من شرط صلاته أن تكون في المسجد الجامع بل حيثما قلت البدع من المسجد كانت الصلاة فيه أولى وأفضل من غيره فإن لم يجد مسجدًا سالما مما ذكر -وقلما يقع ذلك- فلينظر إلى أقل المساجد بدعًا فليصل فيه مع أنه قد تكون بدعة واحدة أشد من بدع جملة فيحذر من هذا وأشباهه وليصل فيما عداه وإذا صلى مع ذلك فليحذر جهده ويغير ما استطاع بشرطه. وقد تقدم أن التغيير بالقلب أدنى مراتب التغيير فإن كانت ليلة تزيد فيها البدع وتكثر فترك الصلاة في جماعة في تلك الليلة أولى وأفضل إذ إن الصلاة في جماعة مندوب إليها1، ولكن تكثير سواد أهل البدع منهي عنه وترك المنهي عنه واجب وفعل الواجب متعين فيترك المندوب له وهو الصلاة في جماعة في المسجد في تلك الليلة، ولأنه يخاف بسبب ذلك أن يكون مشاركًا للحاضرين في أماكن البدع في الإثم وهذا وجه.

الوجه الثاني أنه قد يأنس قلبه بتلك البدع فيؤول إلى ترك التغيير وقد تقدم أنه أدنى رتب التغيير لما ورد: "وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان" 2

1 قلت: الراجح من حيث الدليل وجوب صلاة الجماعة، ولا صارف للأدلة القاضية بذلك. وليس هذا موضع التفصيل فلتراجع المطولات، مثل رسالة:"الصلاة وما يلزم فيها" للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى. "ناصر الدين".

2 حديث صحيح، وهو قطعة من حديث ابن مسعود مرفوعًا "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تختلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". رواه مسلم "1: 50، 51" وأحمد "1: 458، 461" شطره الأول والطبراني "3: 49: 1".

ص: 44

الوجه الثالث وهو أشد من الثاني وهو أنه يخاف عليه أن يستحسن شيئًا مما يراه أو يسمع به وهذا فيه من القبح ما فيه لأنه يستحسن ما كرهه ونهي عنه وهو الأحداث في الدين قال عليه الصلاة والسلام: "من أحداث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 1 يعني مردود عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يقبل عمل أمرء حتى يتقنه" قالوا يا رسول الله: وما إتقانه؟، قال:"يخلصه من الرياء والبدعة"2. مع أن هذا الذي ذكر قل أن يقع أعني أن تعم في تلك البدع جميع مساجد البلد وإذا كان ذلك كذلك فالكمال والحمد لله حاصل له أعني الصلاة في الجماعة في المسجد السالم من تلك البدع أو من أكثرها ولو امتنع بعض من يقتدى بهم من حضور المساجد التي فيها البدع لانحسمت المادة وزالت البدع كلها أو أكثرها أو بعضها فإنا لله وإنا إليه راجعون على التسامح في هذا الباب حتى جر الأمر إلى اعتياد البدع وينسبها أكثر العوام إلى الشرع بسبب حضور من يقتدى بهم فظن أكثر العوام أن ذلك من المشروع وهذا أعظم خطرًا مما تقدم ذكره لأنهم يدخلون إذ ذاك في عموم قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} .

فإن لم يكن في المسجد السالم من البدع من يصلي فيه فتتأكد الصلاة فيه لأنه يحصل له وحده إحياء بيت من بيوت الله تعالى وهذا فيه من الغنيمة والسعادة ما فيه ألا ترى إلى ما روى أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"الصلاة في جماعة تعدل خمسًا وعشرين صلاة

1 صحيح وقد مضى برقم "4".

2 غريب بهذه الزيادة: "وما اتقانه

". وقد روي الحديث عن عائشة، وكليب بن شهاب وأم عبد الرحمن بن حسان، وليس في شيء منها هذه الزيادة فهي منكرة، وأصل الحديث حسن عندي كما بينته في "الصحيحة" "1113".

ص: 45

فإذا صلاها1 في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين"2.

الشروع:

لقد جعلت هذا الكتاب أبوابًا وفصولا ليكون سهل التناول جامعًا لأشتات ما تفرق. وليكون الإنسان على بصيرة من نفسه بما اعتراه بل وبما أحاطه بمحيطه من البدع. ولنبدأ بما قصدنا فنقول:

1 الأصل: "صلى صلاة" والتصويب من "أبي داود". "ناصر الدين".

2 قلت: إسناده صحيح، وهو مخرج في "صحيح سنن أبي داود""569".

ص: 46