الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع: في بدع شتى
1-
ما رتبه النساء من زيارة المقامات في المساجد:
للنساء عوائد استحكم جريهن عليها وصار عملهن بها عقيدة لا تتبدل وقد سرت منهن لبعض الرجال أو من هؤلاء لهن، وقد عد الإمام ابن الحاج في المدخل جملة من عوائدهن الرديئة فلينظر في الجزء الأول. ونحن نذكر ما رأيناه منهن في دمشق في بعض المساجد؛ لأن موضوع كتابنا في منكراتها. فمن ذلك قصدهن "الجامع الأموي" غلس السبت إلى الضحى لزيارة المقام اليحيوي فترى ثمة من ازدحامهن وتطوفهن وتناجيهن ما لا يوصف ومن خرافاتهن أن الدأب على هذا العمل أربعين سبتا لما نوي له.
ومن ذلك صرفهن يوم الجمعة لمزارات في الصالحية ويشاركهن في ذلك الرجال على طبقاتهم والجامع السليمي في الصالحية يغدو يوم الجمعة لذلك. موسمًا وعيدًا، ولا تفتر حركة الزيارة عنه من صبح ذلك اليوم إلى الليل وربما قضاها يوم السبت من فاتته قبل خوفا من أن يرمى بالتقصير في رواتبه، ويجتمع للزيارة ثمة الرجال والنساء، ولما عظم الخطب باختلاطهن على صغر المزار ولم يكن لأولئك الرجال بد من ولوجه المرتب اضطر أخيرًا إلى وضع ترابزين يحول بين الفريقين إلا أنه تبصر النساء وحركاتهن ووسوسة أسورتهن وكثير منهن يحسرن عن وجوههن أو بعضها، دع عنك عنك روائح طيبهن، وظهور
أطراف سواعدهن وفي مقابلتهن من الرجال عدد غير قليل ما بين تال وذاكر وداع ومبتهل ومن في قلبه مرض هذا فضلًا عن التمسح بالمزار وتقبيل عتبته وستائره.
وقد ذكر صاحب المدخل في الجزء الأول أن نحو ما ذكرنا كان السبب في عبادة الأصنام فوا أسفاه على السكوت على هذه المنكرات المجمع عليها التي أنست القلوب بها حتى جر الأمر إلى اعتيادها ونسبة أكثر العوام إياها إلى المشروع بسبب حضور من يقتدى بهم. ولا يخفى أن تكثير سواد أهل البدع منهي عنه وترك المنهي عنه واجب وفعل الواجب متعين.
وقال أيضًا: قد علم من أحوال النسوة في هذا الوقت أن المرأة لا تخرج من بيتها في الغالب حتى تلبس أحسن ثيابها وتتطيب وتتزين ثم تفرغ عليها من الحلي ما تجد السبيل إليه ولا يخلو أمرهن في الغالب من أن يكون بعض الرجال يستمعون وبعضهم ينظرون فتكثر الفتن وتفسد القلوب وتشوش، فمن كان من أهل الدين وطرأ عليه سماع شيء مما ذكر أو رؤيته التشويش من ذلك إذ إنه لو سلم باطنه من الفتنة المعهودة لوقع له من جهة ما يرى أو يسمع من مخالفة السنة، فإن كان التشويش الواقع في باطنه من جهة ما يجده البشر غالبًا فقد يؤول ذلك إلى أنه يتذكر شيئًا من ذلك في حال تعبده وهو أشد من الأول فيخاف أن يصيب من فتنة العقوبة إما عاجلًا وإما آجلًا لأجل فساد حاله مع ربه. وخروج المرأة لا يكون إلا لضرورة شرعية وخروجها لمثل هذه الزيارات ليس لضرورة شرعية بل للبدع والمناكير والمحرمات. ا. هـ.
2-
النذر للمساجد ولإسراج الضرائح والمآذن "ولقراءة مولد فيها":
قال الخطيب الشافعي في شرح الغاية: لو نذر زيتًا أو شمعًا لإسراج مسجد
أو غيره أو وقف ما يشتريان به من غلة صح كل من النذر والوقف إن كان يدخل المسجد أو غيره من ينتفع به من نحو مصل أو نائم، وإلا لم يصح لأنه إضاعة مال. ا. هـ. وفي شرح الروض: وإن قصد به وهو الغالب من العامة تعظيم البقعة والقبر والتقرب إلى من دفن فيها أو نسب إليه فهذا نذر باطل غير منعقد فإنهم يعتقدون إن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسهم ويرون أن النذر لها مما يندفع به البلاء أي وهو اعتقاد فاسد وإشراك به تعالى. وقال في شرح الإقناع: من نذر إسراج بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة أو نذر له أو لسكانه أو المضافين إلى ذلك المكان لم يجز ولا يجوز الوفاء به إجماعًا ويصرف في المصالح، وقال صاحب الإقناع: النذر للقبور أو لأهل القبور كالنذر لإبراهيم الخليل عليه السلام والشيخ فلان نذر معصية لا يجوز الوفاء به وإن تصدق بما نذره من ذلك على من يستحقه من الفقراء والصالحين كان خيرًا له عند الله وأنفع ثم قال: وأما من نذر للمساجد ما تنور به أو يصرف في مصالحها فهذا نذر بر فيوفي بنذره لأن تنويرها وتعميرها مطلوب. وقال العلائي في الدر في آخر باب الاعتكاف: واعلم أن النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء تقربًا إليهم فهو بالإجماع باطل وحرام ما لم يقصدوا صرفها لفقراء الأنام، وقد ابتلي الناس بذلك ولا سيما في هذه الأعصار، وقد بسطه العلامة قاسم في سرح درر البحار وفي حواشي الدر لابن عابدين الدمشقي عليه الرحمة قوله: باطل وحرام لوجوه منها أنه نذر لمخلوق والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك. ومنها أنه إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى واعتقد ذلك كفر إلخ. ثم قال: ولا بد أن يكون المنذور مما يصح به النذر كالصدقة بالدراهم ونحوها أما لو نذر زيتًا لإيقاد قنديل فوق ضريح الشيخ أو في المنارة كما يفعل النساء من نذر الزيت للسيد عبد القادر ويوقد في المنارة جهة المشرق فهو باطل وأقبح منه النذر
بقراءة المولد في المنائر ومع اشتماله على الغناء واللعب وإيهاب ثواب ذلك إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ بحروفه
3-
الموسوسون في أمر الطهارة "والمسرفون من ماء المساجد":
ما أكثر الموسوسين المذكورين والمسرفين المتجاوزين الحدود في شأن الطهارة المشروعة جهلًا بالسنة وغلوًّا في الدين وقد شنع الأئمة على هؤلاء الجاهلين والغالين. قال الإمام شمس الدين ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان" ومن كيده الذي بلغ به الجهال ما بلغ الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية حتى ألقاهم في الآصار والأغلال وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد والتعب الحاضر وبطلان الأجر أو تنقيصه. ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس، فأهله قط أطاعوا الشيطان ولبوا دعوته واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اغتسل كاغتساله لم يطهر ولم يرفع حدثه، ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد1 وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي ويغتسل بالصاع1 وهو نحو رطل وثلث والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه، وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ولم يزد على ثلاث، بل أخبر أن من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم2، فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 حديث صحيح، رواه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في "الإرواء""139".
2 حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره، وقد حققت القول فيه في "صحيح السنن""124".
فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به متعد فيه لحدوده. وصح عنه أنه كان يغتسل هو وعائشة1 رضي الله عنها من قصعة بينهما فيها أثر العجين ولو رأى المسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار وقال ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين كيف والعجين يحلله الماء فيغيره هذا والرشاش ينزل في الماء فينجسه عند بعضهم ويفسده عند آخرين فلا تصح به الطهارة، وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع غير عائشة مثل ميمونة وأم سلمة وهذا كله في الصحيح، وثبت أيضًا في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان الرجال والنساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضئون من إناء واحد. والآنية التي كان عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها كأنبوب الحمام ونحوه ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجري الماء من حافتها كما يراعيه جهال الناس ممن بلي بالوسواس في جرن الحمام. فهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته- جواز الاغتسال من الحياض والآنية وإن كانت ناقصة غير فائضة. ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده ولم يكن أحدًا أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع، مخالف للشريعة، قال شيخنا -ابن تيمية عليه الرحمة- ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع. ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء. ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان قال الإمام أحمد: من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء، وقال تلميذه المروزي: وضأت أبا عبد الله فسترته من الناس لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء لقلة صب الماء. وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه توضأ من إناء فادخل يده فيه ثم تمضمض واستنشق وكذلك كان في غسله يدخل يده في الإناء ويتناول الماء منه والموسوس لا يجوز ذلك ولعله أن يحكم بنجاسة الماء
1 كذا قال والصواب: ميمونة كذلك أخرجه النسائي وغيره كما خرجته في "الإرواء""26".
أو يسلبه طهوريته بذلك.
وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يأتي بمثل ما أتى به أبدًا. وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفرق -قريبًا من خمسة أرطال بالدمشقي- يغمسان أيديهما فيه ويفرغان عليهما فالموسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذكر الله وحده. ا. هـ.
4-
مشي المستبرئين في جوانب المسجد:
يوجد في داخل بعض المساجد كالمدارس بيوت للطهارة فإذا فرغ الموسوسون من البول قاموا يدورون في جوانبها ويتمايلون في مشيتهم طلبا -على زعمهم- للاستبراء إلا أن ذلك الفعل الشنيع على مرأى من الناس والمارة لعمر الحق إنه منكر فظيع. وكم أفضى إلى كشف عورة وتنجيس حائط وتلويث غافل وإضاعة وقت وخلع أدب. وقد جود الكلام في ذلك الإمام شمس الدين ابن القيم عليه الرحمة في "إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان" وعبارته: -ومن كيد الشيطان- ما يفعله كثير من الموسوسون بعد البول وهو عشرة أشياء السلت والنتر والنحنحة والمشي والقفز والحبل والتفقد والوجور والحشو والعصابة والدرجة. أما السلت فيسلته من أصله إلى رأسه على أنه قد روي في حديث غريب لا يثبت ففي المسند وسنن ابن ماجة عن عيسى بن داود عن أبيه مرفوعًا "إذا بال أحدكم فليمسح ذكره ثلاث مرات"1 وقال جابر
1 يمكن أن يراد فليمسح ذكره على الحجر ثلاث مرات كما جاء في الحديث الآخر: "وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار" قال الشافعي: المراد ثلاث مسحات. فالروايتان بمعنى واحد ولا حاجة لصرف رواية المسح إلى إرادة السلت لأنه غير متبادر. وقول جابر المذكور إرشاد للتنظيف، لا تفسير للحديث. كذا ظهر لي وفيه قوة بحمده تعالى. ا. هـ منه.
يقول محمد ناصر الدين: لقد تصحف الحديث عن الشيخ أو على ناسخ كتاب "الإغاثة" فليراجع، فساغ أنه يتأوله بما ذكر، وإنما نصه:"فلينثر" هكذا رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما. على أن الحديث ضعيف كما ذكر ابن القيم نفسه فلا داعي للتأويل المذكور لو أمكن. وقد بينت ضعفه في "الضعيفة""1621". "ناصر الدين"
بن زيد: إذا بلت فامسح أسفل ذكرك فإنه ينقطع. رواه سعيد عنه. قالوا: ولانه بالسلت، والنتر يستخرج ما يخشى عوده بعد الاستنجاء قالوا: وإن احتاج إلى مشي خطوات لذلك ففعل فقد أحسن. والنحنحة تستخرج الفضلة، وكذلك القفز يرتفع عن الأرض شيئًا ثم يجلس بسرعة. والحبل يتخذ بعضهم حبلا يتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم ينخرط فيه حتى يقعد. والتفقد يمسك الذكر ثم ينظر في المخرج هل بقي فيه شيء أم لا. والوجور يمسكه ثم يفتح الثقب ويصب فيه الماء، والحشو يكون معه ميل وقطن يحشوه به كما يحشو الدمل بعد فتحها، والعصابة يعصب بخرقة، والدرجة يصعد في سلم قليلًا ثم ينزل بسرعة، والمشي يمشي خطوات ثم يعيد الاستجمار. قال شيخنا -يعني ابن تيمية عليه الرحمة الرضوان: وذلك كله وسواس وبدعة فراجعته في السلت والنتر فلم يره وقال: لم يصح الحديث. قال: والبول كاللبن في الضرع إن تركته قر وإن حلبته در. قال: ومن اعتاد ذلك ابتلي منه بما عوفي منه من لها عنه. قال: ولو كان هذا سنة لكان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد قال اليهود لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة فقال: أجل فقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك أو شيئًا منه1 بل على المستحاضة أن تتلجم وعلى قياسها من به سلس البول أن يتحفظ ويشيد عليه خرقه.
5-
اغتسال الرعاع في برك بعض المساجد:
اعتاد كثير من الرعاع والسفلة والصغار والشبان أيام الصيف أن يغتسلوا في
1 حديث صحيح أخرجه مسلم وغيره عن سلمان نحوه. وهو مخرج في "صحيح السنن""5".
برك بعض المساجد أو المدارس، ويا ليتهم يتخذون السروال أو القميص أو بعض الخرق سترًا، ولكنهم يغتسلون عراة الأجسام وهم فوج بعد فوج وزمرة بعد زمرة ويطول بينهم الخصام على بعض الأمور وأحيانًا يتلاكمون ويتضاربون فيجب على قيم الجامع أو المدرسة منع هؤلاء من هذه العادة القبيحة ولا يخفى أن اغتسالهم بهذه الكيفية من الأمور المسترذلة حتى في الأنهر التي جرت عادتهم بالذهاب إليها أيضًا لهذه الغاية ومع ذلك ففي فعلهم هذا من الأخطار ما لا تحصى وقائعه فكم سمع أن فلانًا الصغير فقده أهله ثم وجدوه في النهر ميتًا مختنقًا حيث إنه لا يحسن السباحة أو لا يقوى على مصادمة الماء فيجب على أولياء هؤلاء أن يضربوا على أيديهم ويقوموا على تأديبهم لئلا يجنوا منهم سم سوء الأخلاق.
6-
خطيئة البزاق في المساجد:
كثيرًا ما يتراءى للواقف على حافات البرك "البحرات" في المسجد بصاق أو مخاط في جوانبها من قبل جهلة المتوضئين مما تستقذره الأنفس، وهذه الخطيئة من السيئات التي لا تكفر إلا بإزالتها. روى الشيخان وغيرهما عن أنس رضى الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" وفي حديث أبي ذر عند مسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن" قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد بل به وبتركها غير مدفونة، وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزلة فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب على خطيئة الليلة. قال: فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها وعلة النهي ترشد إليه وهي تأذي المؤمن بها.
7-
وضع ستائر في نواحي المسجد وهي الأعلام والرايات:
يوجد في بعض المساجد ستائر موضوعة على زوايا المسجد أو على جانب حائط أو على عمود، فإذا سأل سائل عنها فقد يقال له إن هذا الستار لمقام فلان يعنون أنه كان يحضر حيًّا هنا فينبغي تقديس محله، أو إنه رؤي في النوم جالسًا هنا فيجب صيانته عن ابتذاله بالوطء بالإقدام، أو أنه حكي أنه دفن فيه، أو للإعلام بانتماء هذا المكان لفلان إلى غير ذلك من الأوهام السيئة. ومعلوم أن نتيجة ذلك تغرير العامة والبسطاء بأن ثمة مكانًا شريفًا أو وليًّا منيفًا فيقصدونه بالنذور والتعظيم والحلف دون المولى العظيم وينتهي الأمر بعبادته دون الله تعالى نعوذ بالله من الضلال.
وقد تذكرت بهذا البحث ستارًا موضوعًا في جامع حسان ظاهر باب الجباية قريبًا من زقاق المكتبي -الذي فيه دار أسلافنا- هذا الستار مكتوب عليه. "هذه راية سيدنا حسان رضي الله عنه" ونحو هذا وضعه شخص على زاوية الجامع القبلية الغربية علمًا طويلًا منقوشًا مزركشًا. والسبب في وضعه أن شخصًا حكى أنه رأى حسان رضي الله عنه في تلك الزاوية فخطر لهذا العامي أن يسعى في عمل ستار لهذا الموضع احترامًا لهذه الرؤيا التي رؤيت عن شخص مجهول إما مغفل أو عامي أو مختلق لها فسترت تلك الزاوية وصار الداخل إليه يظن أن ثمة قبرًا أو مزارًا، والكثير من الجهلة يلمسها ويتمسح بها والحقيقة ما رأيت1. والأغرب زعم أن هذا المسجد ينسب لحسان بن ثابت رضي الله عنه الصحابي الشهير ومنه تخيل هذا الرائي ما تخيل حتى انتقش في ذهنه ما رآه في نومه -إن صحت الرؤيا- والحال أن هذا الجامع نسب إلى إمام له يسمى حسانًا ترجمه صاحب شذرات الذهب وذكر أن هذا الجامع ينسب إليه وذكرت ذلك في تاريخي لدمشق الشام فليتنبه لمثل هذه النصب
1 قد أزيل في هذا العهد ولله الحمد. ا. هـ. ضياء الدين القاسمي
"الرايات"، وليحذر مما تجلبه من التخيلات، أو الاعتقادات الفاسدات، وليجنب المسجد من مثلها من الزيادات المضرات.
وأذكرني أيضًا ما حكى لي قيم المقام الداودي في بيت المقدس أن هذا المقام لم يكن له أثر في العصر المتقدم ولكن أحد أجداده رأى رؤيا تشير إلى أن ههنا قبر داود عليه السلام فأصبح وطفق يهتم في تحجيره وساعده من كان يعتقد رأيه حتى خط مكان القبر الذي دلّ عليه في الرؤيا وبنى حوله مسجدًا صغيرًا وبقي كذلك إلى أن اشتهر وصارت لهذا المكان مرتبات سلطانية من بيت المال فهذا مجمل ما حكى لي "وليقس ما لم يقل".
8-
التمسح بالأعلام أو الحيطان في المسجد:
لا يتمسح بشيء إلا الحجر الأسود -كما في كتب الفروع وما عداه فلا يستحب التمسح به إذ لم يستحبه أحد من الأئمة قط. والتمسح الذي حدث في القرون الأخيرة أصله من أهل الكتاب كما بينه الغزالي في الإحياء فهو من التشبه بهم المنهي عنه. ومن أغرب الغريب في هذا الباب ما أخبرت به -وما كنت أظن وقوعه ولا أن عاقلًا يفعله- وذلك اتخاذ موسم وعيد لكسوة أحد مشايخ الطرق في القرن الماضي وجبته. وذلك الموسم ميعاده ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، يجتمع في دار أحد حفدة ذلك الشيخ أو حفدة خلفائه جمع كبير يدعون له كثيرًا من أهل الرسوم والمتعالمين والمتفقهة فيحضرون في تلك الدار وبعد أن يدار الذكر المعروف على طريقة ذلك الشيخ -والكل متحلقون حول صاحب الحفلة المتوج بطبزة كبيرة- وينتهي وقته يقوم المحتفل بهم ويأتي بجبة ذلك الشيخ المنتمي إليه وطبزته ويعرضها على الجالسين مرتبًا. فكل منهم ينزع عمامته ويضعها أمامه ويلبس تلك الطبزة من فوقها الجبة ويقرأ ما يقرأ مخمرًا بها وجهه ويتمسح بها ويدلك بها وجهه ويلصقها ببدنه ثم
يعطيها لمن بجانبه وهكذا إلى أن يتم الجمع وينفض المجلس وهم معتقدون أنهم حازوا تمام البركات والخيرات وأن تلك اللبسة من أسعد الحالات.
فانظر عافاك الله هذا الحال واعرضه على عصور السلف والخلفاء الراشدين عليهم الرضوان هل تجد في تاريخ ما، ولو في رواية موضوعة، أن أحدًا منهم جمع ناسًا على جبة تابعي أو صحابي أو أثر نبي أو شهيد؟ كلا ما السبب؟ لا يخفى أن السبب هو العلم أعني علم حقيقة الدين وذوق أصول اليقين والاعتماد على رب العالمين والقيام بمجاهدة النفس وإصلاح العلم والعمل حتى إذا لبس ثياب العلم من ليس منه، بل ولا يعرفه العلم ونسي العهد النبوي وتصدر كل دعي في الفضل أضحى يخترع لأتباعه البسطاء -والعامة أتباع كل ناعق- ما شاء وشاء الهوى حتى إذا ائتلفتها النفوس ومضت عليها السنون وشب عليها الصغير وشاب عليه الكبير ظن أنها من الأصول الصحيحة والطاعات الرجيحة ولا نبية يزجر ولا فقيه ينكر اللهم إلا بقية ربما كان الضعف يقعدهم وخوف سيطرت أهل الفخفخة يثبطهم لا تبلغ شكواهم ما وراء جدرانهم. هذا أصل الحال فانظر ما يتولد عن البدع وما يتفرغ عنها. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
9-
لجأ اليتامى والرجال والبؤساء إلى أواوين المساجد:
قل أن يدخل المرء مسجدًا شهيرًا في محلته إلا ويرى في إيوانه عند الصباح غلمانًا أو غلامًا رث اللباس مستنقع السحنة ويكون يتيمًا لا مأوى له يأوي إليه ولا سند يعتمد عليه. وقد يجد في فناء بعض المساجد من هؤلاء البؤساء اليتامى زمرة ينامون ليلًا في العراء على سطح الأرض وقد اتخذوا الحجارة مسندًا لرءوسهم والتحفوا السماء فمنهم من يضطجع على جنبه ويجمع رأسه إلى رجليه كما تفعل الكلاب أمام النار، ومنهم من ينضم إلى رفيقه تخفيفًا لألم البرد كما
تفعل الغنم، ومنهم من يعتنق كلبًا يستدفئ به، وكلهم لا مأوى لهم ولا لهم من يعولهم يقاسون من الشدة والبرحاء ما ينبئك هذا الوصف عن الشرح.
وحبذا لو أعار أهل اليسار نظرة الشفقة والمرحمة لهم فواسوهم بما آتاهم الله من فضله وتبصروا في إنقاذ هؤلاء من هذا العذاب "وما هؤلاء المساكين إلا بعض من كل" ولا ينسى المؤمن ما حث القرآن على إكرام اليتيم وحض على الإحسان إلى المسكين في آيات عدة، وكيف هدد المستأثرين بالمال أشد التهديد بقوله:{كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} وكيف آذان في سورة {أَرَأَيْت} بأن الذي يدع اليتيم أي يدفعه ويزجره هتكًا لحرمة حقه ولا يحض على طعام المسكين هو المكذب بالدين بصيغة الحصر "نعوذ بالله من غضبه" إيذانا والله تقشعر منه الذين يخشون ربهم لو تدبروا هذا الوعيد الشديد فإنا لله.
أذكر في رمضان سنة "1323" أن فقيرًا من أبناء السبيل مرض عند صاحب له من الفقراء فلما اشتد مرضه حاول إيواءه في المستشفى فدفع عنه أو لم يظفر بوساطة مطاع فأرجعه إلى جامع السنانية ووضع على التخت تحت سقف إيوانه الغربي والبرد قارس والهواء لاسع فقيض الله من الفقراء من صار يخدمه ويسعى في إطعامه وهو على التخت ملقى ووقف على علاجه طبيب مغربي غريب عن البلدة دخل اتفاقًا إلى الجامع فرآه فصار يتردد لعلاجه ومعه أدوية، ولم أر أحدًا من أغنياء المصلين على كثرتهم -لا سيما في العشر الأخير من رمضان- أعاره نظر الرحمة أو رأى أنه مطالب من الله بإيواء مثله وتفقده "فوا أسفاه وإنا لله" وأتذكر أنا طبخنا له في سدة الجامع وكنا معتكفين في الجامع طعامًا فشم بعض الأغنياء المطموس على بصيرتهم رائحته فأنكر أن تكون في المسجد فقال له شعال المسجد "من أنكر فليتفضل بإيواء هذا المريض وليكف الإمام مئونته" فبهت وكأنه القمه حجرًا ثم ما لبث ذاك المريض أن مات والله يشهد ما دخلنا من التحرق على هذا الحال.
أفلا يجب على الأغنياء أن يتفكروا في إشادة ملاجئ عديدة لمثل هؤلاء
والاكتتاب فيها، أو تبرعهم بتمريض من يرونه كذلك في دورهم وأجرهم على الله تعالى. ولئن كان بني حديثًا في دمشق مستشفى وقبله دار صناعة للأيتام وكان لهما من الأيادي البيضاء على الفيحاء ما لا ينكر ولكن بلدة كهذه من أين يتسع مكانان فيها لسائر المرضى والأيتام أفلا يكون أهل اليسار والأكابر هم المكلفون بذلك، بلى والله ثم والله. فقههم المولى في الدين، وعلمهم التأويل، ليدركوا الواجبات التي من وراء تركها عذاب الجحيم.
ومن راجع كرم السالفين من أغنيائنا يقف مدهوشا من بذلهم كرائم الأموال للآثار النافعة كالمدارس والمستشفيات ولمواساة العجزة والأرامل واليتامى والمستضعفين ووقفهم عليها الأوقاف الدارة بالريع الكثير وغالبها الآن قد اندثر بسب نسيان فعل الخير والإهمال الذي استولى علينا وفقد الإحساس والشعور بالمنفعة العامة التي عليها مدار بقاء هذا النوع الإنساني من جهة وحياته وسعادته من جهة أخرى، بل شمل إحسانهم للحيوانات فإن السبلان التي في الطرقات أكثرها للرحمة بالدواب. تأمل الآن ترى بعض السبلان يتبرع جيرانها بعمل شباك من حديد لمنع الحيوانات من ورودها، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
فوا أسفاه على انقلاب الحال وأكل الأوقاف وبيع ما بقي. من أين فشا هذا في المسلمين ولم يكن معروفًا في سلفهم ولا نراه في مخاليفهم من الملل. نسينا ما كان لنا وتركناه، فأخذه غيرنا وآواه.
ولقد تذكرت فادحة ما سمع بمثلها في عصر من العصور: مدرسة في بيت المقدس موقوفة على الشافعية وقفها السلطان صلاح الدين اضمحل أمرها وخربت سقوفها وتركت مأوى لليوم فتفطن لها بعض مياسير النصارى -وناهيك ما يبذلون لإعلاء كلمتهم وترسيخ شأنهم- فبذلوا من الدنانير ما أرضى الوسائط والسعاة فمنحتها الحكومة لهم وصارت كنيسة والتاريخ الصلاحي على باب حرمها لم يزل. وقد ذهب بي إليها أيام رحلتي للقدس عام 1321 أحد الأصحاب وقال لي راهبها إن هذه أصلها كنيسة كما في تاريخ الأنس الجليل، يعني: فرجع الشيء إلى أصله. فسكت مدهوشًا من هذا الحال، وشؤم
هذا التقهقر والاضمحلال. مع أن السلطان صلاح الدين عليه الرحمة ما بنى تلك المدارس والزوايا حول المسجد الأقصى إلا ليقصي أولئك الأعداء عن جواره ولا يمكن لهم القرب من أطرافه، فاشترى رحمه الله من البيوت من جوانب المسجد الأقصى وجعلها مدارس لهذه الغاية علمًا بأن المدارس مهما تأخر الحال فإنها لا تباع، ولكن لم يخطر له أن يأتي دور وأي دور، وزمان وأي زمان تباع فيه المدارس بيع الكساد لأعداء الدين فإنا لله وإنا إليه راجعون.
10-
ضرر إقامة الراقي في حجر المساجد:
يوجد في بعض المساجد حجر يقطنها من يدعي معرفة الغيب ومستقبل الأحوال، فيقبل عليهم أصحاب الحاجات المفقودة والذين يريدون معرفة ما يكون لهم وعليهم في مستقبل الأيام، وينقدونهم الدراهم في مقابلة حصولهم على ما يبتغون منهم، ومنهم من يقصدهم لأمراض وهمية أو وسواسية فيظهر لهم أنه يرقي للأمراض والأرياح المتسببة من مس الشياطين ويوهم أن لا دواء له إلا تبييت الأثر أو الخط على الرمل أو الطرق بالحصا أو الحساب أو النظر في المياه، ويسمونه المندل، أو كتابة أسماء على سفل القدم أو بدم الحيض أو على بطن المرأة أو بمائها إلى غير ذلك من المنكرات المعروفة المشتهرة حكايتها أكثر من نوادر جحا، فنعوذ بالله من هذا الحال ووا أسفاه على فشو هذه المنكرات ووا مصيبتاه على الاعتقاد بها وظهورها بين المسلمين. ألم يعلموا ما ورد من الأحاديث من كفر اعتقد بمنجم وعدم قبول صلاته؟ ألم يعلموا أن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله على شيء من عنده من نبي وملك، فالواجب طرد هؤلاء من المساجد بل ومن غيرها والضرب على أيديهم وتعليم الرجال والنساء أن هؤلاء ضالون مضلون آكلون أموال الناس بالباطل
دجالون في أخبارهم وما يقترحون {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون} وقد أوردت جملة من أحوالهم في "تكملة كتاب الصناعات" للإمام الوالد عليه الرحمة والرضوان في باب الراء في الراقي فارجع إليه.
11-
إخراج السيارات من المساجد:
كان بدمشق كغيرها من البلاد عادة شهيرة وهي أن مشايخ الطرق يخرجون بمريديهم وخلفائهم في أيام الربيع بموكب حافل يمتطون ظهور الخيل وينشرون الأعلام والرايات ويدقون الطبول فيجتمعون في مسجد خارج البلد أو في أطرافها أولا ثم يترتبون ويسيرون وقد حوى موكبهم هذا من البدع ما حكى بعضه أحد الفضلاء بقوله: "لا تزال هذه الطوائف تبتدع أمورًا تضحك السفهاء وتبكي العقلاء وتحتال لمطامعها البهيمية بما جلب العار على الأمة وسلط علينا الأجنبي يهزأ بديننا ويقبح أعمالنا ظنا منه أن ما يجريه هؤلاء الجهلة من الدين. فهلا رجع هؤلاء الجهلة عن بدعهم والتزموا طرق أشياخهم الذين يدّعون أنهم على آثارهم وما هم إلا في أيدي الشياطين يلعبون بهم كيف يشاءون. أين تصفية الباطن التي هي مدار الطريق وأين الخمول مع هذا الظهور وأين التواضع مع ركوب الخيل والبغال يقدمها الطبل والمزمار وأين البعد عن الناس مع هذه المزاحمة الدنيوية وأين البعد عن الرياء مع الوقوف بين مئات الألوف يتمايل ويتلوى وأين الإرشاد مع هذه البدع وأين الأشياخ إذا أردنا السلوك؟ فلعمري لا نرى إلا رجالًا اتخذوا الطريق وسيلة معاشية. أما آن لهذه البدع أن تموت ولهؤلاء الجهلة أن يتنبهوا ويعلموا أنهم بين أمم ينظرون أعمالهم وينتقدون أحوالهم ويكتبون عنهم ما يكتب عن الهمج وسكان البوادي. إن الطريق المسلوك للقوم مبني على الإخلاص في العمل وحب الخلوة والبعد عن الناس والصمت عن اللغو وملازمة الذكر ومداومة السهر فيه وفي التهجد والزهد فيما في أيدي
الناس والتمسك بالسنة والإرشاد إلى الطريق المستقيم، وأين هذه الأصول الشريفة مما نراه الآن من الخروج عن الحدود واستبدال السنة بالبدعة وترك الشرع بهوى النفس. والطامة الكبرى دعوة بعض الأشياخ وانتحاله ما يضر بالعقيدة وإضلاله العامة بما ينقله إليهم عن الإنسان الكامل ونحوه من كتب الصوفية مدعيًا فهمه لإشارته من طريق الفتح أو الإلهام فقد كثرت النحل والبدع وسمعنا من أقوالهم ما ليس من ديننا ولا يقول به أهل دين آخر. وقد اتفق أن أحد معتبري الأجانب دخل إحدى الأماكن وقد اجتمع بها جماعة من أهل الأهواء فرآهم يرقصون ويصيحون صياح جنون فقال لترجمانه: ما هذه الغوغاء ونحن نعلم أن صلاة المسلمين في غاية الخشوع والآداب وهذه أمور ليست إلا هذيانًا. فقال له ترجمانه: "إن هذه أكبر صلاة عندهم" يريد تنفير من الدين الإسلامي ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالدين بريء من نسبة هذه البدع إليه، فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة محفوظة إذ لم يترك الحفاظ وكتاب السير شيئا من أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته إلا دونوه، وجاء الخلفاء الراشدون ومن عاصرهم على أثره صلى الله عليه وسلم وكذلك جاء الصوفية المتقدمون على هذا الأثر فلما تشيخ الجهلاء في الطريق التزموا البدع وجاء من لهم إلمام بكتب القوم فانتحلوا أقوالا لا يعرفون معناها وعلموها لجهلة لا يفقهون فضلوا وأضلوا، إنا لله وإنا إليه راجعون. ومن المصائب الفظيعة تركهم الذكر الشرعي وقولهم:"الام إلا الله""لوالوها إلا الله" و"أل" بلام مغلظة و"هه" ثم الرقص وأكل النار وضرب الدف أو الناي والنقارات والنقرزان ووضع الدبوس في الذراع والسيخ الحديد في الحنك والشيش وغيرها من المفتريات القبيحة فحق شيخ المشايخ منع هؤلاء الجهلاء من إعطاء العهود حتى يعرفوا العقيدة والآداب الشرعية والفروع الفقهية ففي ذلك خدمة الأمة والدين وتأييد لكلمة الحق المتين
12-
وعظ النساء في مسجد خاص:
كان يوجد في السنين الخالية من يعظ النساء في مسجد خاص ينتدب لذلك من كان تقيًّا غيورًا على تهذيبهن وتلقينهن واجبات الدين وأحكامه. أذكر منهم الشيخ عثمان الحوراني1 من رجال القرن العاشر كما قرأته في ترجمته فكان يعقد لهن مجلسًا في الأسبوع يحضرن فيه يبث فيه من المواعظ ما يلزمهن "رحمه الله ورضي عنه" وما أحوج النساء الآن إلى واعظ سيما وقد انتشرت فيهن البدع والمنكرات واعتقاد الخرافات والأضاليل ومخالفة الأزواج وما لا يحصى من المحذورات. يقول قائل: لو انتدب أحد لذلك لاتخذ هزوا من الجاهلين فيقال: قد اتخذ هزوا من هو أعظم قدرًا منه وكذلك كل قائم بالحق ناطق بالصدق، ولكن الصالحين لا يهمهم سخرية الغافلين أسوة بالدعاة إلى قويم الدين ومن الأسف أن ليس للنساء في البلاد من يعظهن ولا من يتفكر في عظتهن مع ما يعلم كل أحد من شدة الحاجة إلى تعليمهن والعناية بأمرهن أفليس يجب على الأمراء والوجهاء والمياسير أن يندبوا لذلك من يرونه كفئًا في الفضل والكمال ويشوقوه لذلك ويعينوا له مسجدًا يرشدهن فيه في يوم معلوم ويحرسوا المسجد بمن يقوم على بابه ليحفظه من دخول رجل إليه لعمر الحق أن هذا الاقتراح من أوجب الواجبات وآكد المرغوبات وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ النساء يوم العيد في المصلى ويتخلل صفوف الرجال إليهن ويأمرهن أن يحضرن ولو كانت حائضًا، وقال:"ليشهدن الخير ودعوة المصلين" وقد أدى تشديد الفقهاء في منع النساء من المساجد والمجامع والدرس إلى أن أصبحن في جهالة وأي جهالة وكله من شؤم مخالفة الأمر النبوي وما كان هديه معهن، وانظر ما رواه الإمام
1 ومنهم الشيخ أحمد الزاهد. قال الشعراني في طبقاته: وكان يعظ النساء في المساجد ويخصهن دون الرجال ويعلمهن أحكام دينهن وما عليهن من حقوق الزوجية والجيران. ا. هـ. ضياء الدين القاسمي.
مسلم في صحيحه عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم". فقال بلال: والله لنمنعهن. فقال له عبد الله: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت لنمنعهن. وفي رواية سالم عن أبيه قال: فاقبل عليه عبد الله فسبه سبًّا ما سمعت سبه مثله قط وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن. وعن مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد" فقال ابن لعبد الله بن عمر: فإنا نمنعهن فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا قال فما كلمة عبد الله حتى مات1. رواه الإمام أحمد نقله في مشكاة المصابيح وأما قول عائشة لو علم رسول الله ما أحدثن بعده لمنعهن. فتعني بهن المعطرات كما في حديث: "أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء"2. ولذا ترشد المرأة إلى ترك التعطر والتبرج وإلا فسد الباب لهن أبدًا فيه فتح لجهالة لا غاية لها وهن مأمورات بالعلم والتعلم لأنه فرض على كل مسلم ومسلمة وأنى يتأتى لهن العلم ودونهن سبعون حجابًا عنه وما الأغرب إلا أن لا يكون لهن حجاب إلا عن العلم والتعلم وهن مأذونات من أزواجهن فيما عداه للبيع والتزاور، بل وللسفر ولو وحدهن، فرحماك اللهم، وأضحكني مرة أن بعض الفقهاء المتعصبين لما بلغه أن بعض النساء يقتدين به في رمضان في العشاء والتراويح أرسل يقول لهن لينفرهن: إني لا أنوي الإمامة بكن. يعني أنه على مذهب الحنفية إذا لم ينو الإمامة بمن يأتم به لا تصح صلاة المؤتم. فانظر يا رعاك الله ماذا يجني التعصب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
1 وإسناده صحيح كما في تعليقي على "المشكاة""1084".
2 أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.
13-
الصادون عن تدفئة المساجد في الشتاء:
يعلم كل أحد شدة الحاجة إلى تدفئة المنازل والبيوت والمساكن في أيام الشتاء لا سيما في البلاد الباردة التي يقضي أهلها في مقاساة ألم البرد ولسع هواءه قريبًا من نصف عام، وقد يشتد قرس البرد في خلالها إلى درجة تسلب الراحة وتكدر العيش وتشوش الفكر وتضطر الأكثرين إلى ملازمة البيوت والفقراء إلى ضروري القوت، وترى من اضطر إلى الخروج من داره لحرفة أو تكسب في حالة يرثى لها من احديداب ظهره وتقوس قامته واعوجاج شقه وتخمير وجهه دع عنك رجف الفقير واقشعرار بدنه واصفرار وجهه وتقلص شدقه وسيلان أنفه، وقد وصف شيئًا من حال المسكين وعنائه في الشتاء الإمام الوالد عليه الرحمة والرضوان بقوله:
ذهب الربيع بوده وبلينه
…
وأتى الشتاء ببرده وبطينه
أما الفقير ففي الشتاء هلاكه
…
من همه في فحمه وعجينه
وبسقف بيت عياله من وكفه
…
وبرجفه من برده وأنينه
وما ألطف ما قاله العارف الشهير الشيخ عبد الغني النابلسي في هذا المعنى وهو:
حلف الشتاء بأنه لا يذهب
…
فهو المقيم إلى الربيع يشبب
والريح قد سلب الغصون ثيابها
…
وأقامها عريانة تتقلب
والبرد أسكت في الرياض طيورها
…
من بعد ما كانت تقوم فتخطب
والنار توقد في البيوت وأنها
…
تدعى بفاكهة الشتاء فتعذب
والناس قد لبسوا الفرا مع أنهم
…
يعيا عليهم حملهن ويتعب
والشمس قد غطى السحاب شعاعها
…
فالوجه منها بالسحاب منقب
بردت وقد لبست عليها فروة
…
مما يحيك لها السحاب المسهب
وتفوح أطعمة الشتا ببهارها
…
من كل نوع يستلذ فيطلب
ولهم حلاوات يشوقك أكلها
…
من كل ما تهوى النفوس وترغب
وضعوا ستائرهم على أبوابهم
…
حتى تراهم في البيوت تحجبوا
هذا صنيع الأغنياء لأنهم
…
يجدون حاجتهم إليهم تقرب
وخواصر الفقراء ترجف ما لهم
…
ثوب يقي بردًا وعزّ المهرب
وا حسرتاه وما لهم من مسعف
…
يحنو عليهم والمعيشة تتعب
والله حافظهم على ما هم به
…
والعجز ما نعهم بأن يتسببوا
ومسبب الأسباب رازقهم ولا
…
سبب يؤثر والمهيمن أقرب
والقصد أن المسكين لا يرد عنه عناءه في الشتاء إلا الدفاء ولا يداوي مرضه فيه إلا الاصطلاء. ولذلك تراه إذا رأى مصطلى هرول إليه وترامى بكليته عليه وكثير من العامة يمضي أواخر ليله في الحمامات ونهاره في القهوات "نعوذ بالله"، فرارًا من عواصف البرد اللاسعة ونسائمة السامة، فإذا حضر وقت الصلوات أقبل الجمهور على المساجد يؤدون فريضة الله ولا تسل عن حالهم حين يشمرون عن سواعدهم وأرجلهم ويتحلقون على برك المساجد للوضوء مما يبهج الناظر من تأثير الإيمان في النفوس وأخذه بمجامع القلوب ثم يؤدون الصلوات وينصرفون بعدها وقد يبقى العاجز والمتعبد في المسجد ولكن يعاني من بقائه فيه ألما لبرودته، بل ربما تألم البعض في بعض المساجد الكبيرة في حال أداء الصلاة فإن أكثر المساجد الكبيرة لا يطاق المكث فيها في الشتاء لولا ضرورة العبادة وما أظن أن المشاهد الأربعة التي في الجامع الأموي بنيت إلا لأن تكون مصلى في الشتاء لمن يأتي المسجد من أطرافه من جيرانه لصغرها، فالناس لا يستغنون في الشتاء عن المساجد ولا يتركونها مهما اشتد البرد وقرص الهواء إلا أن الناظر إليهم وإلى معتكفيهم يرثي لهم. وقد رأى بعض الموفقين أن يؤخذ من ريع وقف المسجد جانب يصرف في الشتاء لتدفئة المساجد بمداخن تدفئ هواءه وأن ذلك سهل على الموفقين من النظار، حسنة الفقراء وغيرهم، مدعاة لإقبال الناس على العبادة وأدائها بخشوع ولعمري أنه رأي يرضاه الله ورسوله وكل مؤمن.
ولقد هم بعض الناس في بعض الجوامع به فقام يدفع في وجهه بعض الحمقى ويقول: إن المساجد لا تكون بيوت نار وقد حدثت أخيرًا أن في بعض البلاد الباردة غير السورية مدافئ كما طلبنا في مساجدها، والله ما يفعل الجهل بأهله والتقول في الدين من المتصولحين وعسى أن يتنبه لهذا الخير أهله ويجعلون المواقد في جهة المسجد الشمالية لتكون خلف المصلين1 والله الموفق والمعين.
14-
شقاء خدمة المسجد بالتهاون بالجماعات:
يوجد في أغلب المساجد تهاون من قوامة في أداء الصلوات بالجماعة الأولى فترى المنور "الشّعّال" يشعل المصابيح وصلاة المغرب تقام ورأيت في بيت المقدس أيام رحلتي إليها "عام 1321" من يشعل القناديل مع أذان الفجر ويبقى إلى ما بعده بحصة طويلة.
ومنهم من يشغل نفسه بكناسته ولم قمامته قبيل أذان الظهر بحيث يدخل المصلون ويرون الحرم ملآن من غبار الكناسة وذلك لكي يقال إن كناسه غير مقصر في خدمته وهذه آثاره.
ومنهم من ينادي بالصلاة خارج باب المسجد ويبقى خارجه ويكمل تدخين سيجارته أو يذهب بشئونه.
ومنهم من إذا فرغ من أذانه انعطف على باب المسجد وذهب يغتسل من جنابته في الحمام أو إلى دكانه ومتجره. ومنهم ومنهم. إلخ
وبالجملة فمثل هؤلاء ما راعوا أدب المسجد حق رعايته ولا عرفوا مقام
1 قلت: هذا اقتراح هام، والأخذ به واجب، ولكن الناس لم يأخذوا به مع الأسف بل إنهم ليضعونها بين يدي المصلين، وكثيرًا ما توضع في الصف فتكون سببًا لقطعه. وما يأتي هذا في الغالب إلا من الجهل بالسنة التي ثبت فيها النهي عن الصف بين السواري "العضاضات" والناس عن هذا غافلون. والله المستعان.
التعبد حق معرفته ظنوا أن القصد أداء هذه الوظيفة في المسجد فحسب تعيشًا منها وإن هذا هو المطلوب منهم وما وراءه من عبادة الله وخشيته والأدب في بيته لا يعلمونه ولا يريدون أن يعلموه سيما وأكثرهم من الجهل على ما رأيت مع تعاسة الحال تحت ألم الفقر المدقع والجهل المركب فإنا لله. فما أحراهم أن يتنبهوا ويتعلموا ويتفقهوا في الدين ويخرجوا من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة أرشدهم الله وأصلح حالهم.
15-
الرغبة عن إيقاد زيت الغاز إلى الزيت البلدي:
يعلم كل ذي بصر وبصيرة ما لهذا الزيت الغاز المعروف المجلوب من البلاد الأجنبية من قوة الضوء وزيادة النور في المكان بحيث إذا أراد المرء أن يقابل بينه وبين ضوء الزيت البلدي أو الشمع يجد بونًا ظاهرًا. ولما نشأ أبناء هذا العصر على زيت الغار وشبوا عليه وشابوا أصبحوا يكرهون أن يوجد مكان ينار بالزيت البلدي لقلة ضوئه المتعب للبصر والمظلم لزوايا المكان والمغم للقلب أمر بديهي لا ينكر. رأيت أيام رحلتي للقدس أن منير قناديله يتعانى في إنارتها زمنًا طويلًا ولا يفيد نورها الضياء المطلوب في مثله والذي جرت به العادة في غيره من البلاد، فسألته لما لا تنيرون بزيت الغاز فقال إنه رخيص الثمن والمسجد الأقصى غني بأوقافه والزيت البلدي أغلى ثمنًا فلا يعدلون عنه إلى الغاز. فقلت: أليس لنظاره نظر صحيح حتى يجدوا التفاوت بينه وبين الزيت البلدي، ألا ترى ظلمة المسجد في زواياه وأطرافه وقلة ضياء قناديله والعناء في إيقادها في حصة طويلة، أو لا يعلمون أن هذا العصر غير العصر السالف، وكلاما نحو هذا. فقال: هكذا يأمروني. فعجبت وعلمت أن التقاليد القديمة والأفكار المنحرفة سائرة في معظم الجهات ولو أنير هذا المسجد بالغاز ووفر ما يبقى من موازنته مع الزيت البلدي ورد إلى تحسينه لكان أولى. نبههم الله وهداهم إليه.
16-
استنكار من ليس بمعتم أن يؤم الصلاة أو الإنكار عليه:
"ومثله من ليس له جبة"
يتفق أحيانًا في المساجد أن لا يحضر إمامها الراتب في وقت ما لعذر لديه، فإذا حضر المصلون وحان وقت إقامة الصلاة يضطر المقيم أن ينظر في الحاضرين ليختار من يقدمه إمامًا، فقد يتفق أن يرى في القوم من يليق أن يؤم بالحاضرين ولكنه غير معتم بعمامة فربما يشير عليه أن يتقدم ويؤم فيتباعد ويستنكر أن تصح إمامته بلا عمامة أو يليق لها وهو غير معتم فإما أن يتجافى عنها متصاغرًا دونها أو متورعًا وإما أن يخرج من جيبه منديلًا فيعصب به رأسه تشبهًا بالمعتمين.
وقد يتفق أن يتقدم بحالته من غير عمامة، فيراه متعصب فيقع فيه، ويأكل لحم أخيه. أو يحوقل ويسترجع. وقد يكون قحا لا يميز بين صحيح الحديث وموضعه ويكون طرق سمعه من بعض الحشوية أحاديث العمامة في الصلاة وفضلها والثواب عليها فيأخذ في إيرادها ليحتج بها على قحته غافلًا عن أنه لم يصح في ذلك حديث أصلًا وأن ما روي في ذلك فكله موضوع لا يحتج بمثله في الأصول والفروع. كما بينه السخاوي في المقاصد وغيره1. إذا علمت ذلك تبين لك أن من الجهل إلزام أحد بعمامة في الصلاة أو التزامها وتكلف التعمم وأن الأزياء لا دخل لها في العبادات أصلًا ولا حاجة بنا إلى الإسهاب في تأييد هذا المقام فإنه من البديهيات الأوليات لكل من فهم حقيقة الدين نعم لا بأس أن نورد ها هنا لمتعصب ما يحجه من مشربه وإن كان المقلد لا يفيده الدليل كما قال ابن سهل "فما أضيع البرهان عند المقلد" فنقول روى الروياني وابن عساكر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يلبس القلانس تحت العمائم وبغير العمائم ويلبس العمائم بغير القلانس وكان ربما نزع قلنسوته فجعلها سترة بين يديه وهو يصلي"2
1 انظر بعض هذه الأحاديث في كتابنا "سلسلة الأحاديث الضعيفة""رقم127 و129 وج5: 28""ناصر الدين".
2 قلت: سنده ضعيف كما في "الدعامة""ص36".
وكذا يقال فيمن ليس له جبة أو لا يتزيا بها فترى بعض العامة يأمر من يخلع جبته لتعطى لمن أراد أن يؤم قومًا بلا جبة أو يأمر قومًا بلا جبة أو يأمر بنزع زنارة من وسطه ليشبه ثوبه الجبة كأنها مما لا بد منه حقيقة أو صورة وكل هذا من عدم الفقه في الدين. وقد عقد البخاري في أوائل كتاب الصلاة بابًا للصلاة في الثواب الواحد أسند فيه عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى النبي.
يصلي في ثوب واحد، وأسند أيضًا عن أبي هريرة أن سائلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أو لكلكم ثوبان" وقد استحب صاحب "التجنيس" من الحنفية عليهم الرحمة والرضوان أن يصلي المرء مكشوف الرأس للتذلل والتضرع. ويرحم الله الملك الأمجد لقوله:
له نظرات كرر الحقد شزرها
…
لما ضمنته نفسه من سخائم
فما الفضل في أهل الشرابيش سبة
…
ولا العلم مخصوصًا بأهل العمائم
والآخر القائل:
وإني لأربا بالعمائم أن ترى
…
على أرؤس أولى بهن المقانع1
17-
واجبات بواب المسجد والمدرسة وبيان ضرر غلق أبوابهما:
قال التاج السبكي في معيد النعم: من حقه المبيت بقرب الباب بحيث يسمع من يطرقه عليه والفتح لساكن في المكان أو قاصد مقصدًا دينيًّا من صلاة أو اشتغال أي وقت جاء من أوقات الليل. وما يفعله بعض البوابين من غلق الباب في وقت معلوم من الليل إما بعد العشاء الآخرة أو في وقت آخر بحيث إذا جاء أحد السكان أو المريدين للصلاة لا يفتح له غير جائز إلا أن تكون مدرسة شرط
1 جمع مقنع بالكسر كمقنعة: ما تقنع به المرأة رأسها. والقناع بالكسر أوسع منه. ا. هـ قاموس.
واقفها أن لا يفتح بابها إلا في وقت معلوم. وفي صحة مثل هذا الشرط نظر واحتمال: أما لو شرطه في مسجد أو جامع فواضح أنه لا يصح. هذا كلام السبكي بحروفه، وانظر كلامه الرهيب رحمة الله على من يفعل من البوابين ليلا ما ذكره وتأمل ما يفعل في بعض المدارس الآن من غلقها نهارًا مع الحاجة الزائدة إلى مائها واخليتها فبعضها يفتح بابها وقت الصلاة فقط إذا كانت تقام بها الجماعة وما لا تقام بها تغلق أبوابها في أغلب الأوقات طول النهار فترى من يقصدها من المارة لوضوء أو قضاء حاجة في بيوت أخليتها أو لغير ذلك يأوب بخيبة وبعض قاطنيها إما نائم أو متوسد لا يبالي أو في عشرة وشراب الشاي أو لا يوجد فيها أحد. ومن خطأ بعض المتصولحين القاطنين في بعض المدارس المطروقة أن لا يفتحوها إلا وقت الصلاة، وقد سئلوا عن غلقها في النهار فأجابوا حتى لا يدخل إلى أخليتها بعض الكفرة المجاورين. فانظر إلى هذا الاستنباط العجيب وتأمل هذا الفقه الغريب فإنا لله.
أفلا يعجب المرء لكرم من أوقف من السلف، واحتكار وبخل من قطن من الخلف. أو لا يعلمون أن أهل الذمة لهم ما لنا وعليهم ما علينا1. أو لا يدرون "إن كل معروف صدقة". أو لا يسمعون حديث البغيّة التي غفر لها بسقي كلب وإغاثته2. فما بالك برحمة إنسان ورد لهفته. ما عهد في عصر ما إن تمنع بيوت الأخلية من وارديها على طبقاتهم ومللهم ونحلهم. إذا ضن هذا المتصولح ببيت خلاء ما بناه ولا أشاده وسيطر عليه كيف يرجى منه سخاء أو معروف أو نجده لسواه. أفٍّ لهذا التصولح الذي الجهل بعقل خير منه، ويرضى الله
1 قلت: لم يرد هذا الإطلاق في السنة، وإن كان ذكر في بعض كتب الفقه أن قوله:"لهم ما لنا وعليهم ما علينا" حديث مرفوع، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الذمة وشاع هذا في العصر الحاضر بين الكتاب والمحاضرين، وليس له أصل في كتب الحديث، بل فيها ما ينافيه وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال هذه الكلمة: "لهم ما لنا
…
" فيمن أسلم من أهل الكتاب! وراجع "الضعيفة" "2175".
2 انظره في "الصحيحة""30". "ناصر الدين".
عن الإمام علي حيث يقول: "قصم ظهري اثنان: عالم متهتك وجاهل متنسك" فإنا لله والمستعان بالله.
والقصد أن غلق أبواب المساجد والمدارس في النهار لا يجوز إجماعًا إلا لضرورة. والضرورة تقدر بقدرها. وأما في الليل فيجوز إغلاقها إذا كان فيها ما يخشى عليه من سارق. ويجب على بوابها أن يبيت خلف بابها لأنه قدّر له مرتبه لذلك "وكل مرتب من جهة الوقف لأمر فلا يحل تناوله إلا برعاية وذلك الأمر وأدائه والقيام به" وإلا فتناوله سحت وآكله إنما يأكل في بطنه نارا.
وكم جر تساهل البوابين على المساجد والمدارس والجيران من السرقان ما لا يحصى: فكم سجادة سرقت من مسجد ومدرسة، وكم حجرة نهبت وكم من حائط نقب منها وتوصل منه إلى دكان تاجر فسرق ما فيها. ولو كان لبواب المسجد وهو خادمه عين لا تنام كالحارس لما وقع شيء من ذلك، فوا أسفاه على شروط الواقفين الضائعة وعلى التهام أموال الوقف بأنفس طامعة ضارة غير نافعة.
18-
تخلف الكثيرين من الجماعات ولهوهم عنها:
كان يقول بعض اللطفاء "وجود الفقراء والبؤساء من النعم الكبرى لإقامة شعائر الدين إذ لو كان الناس طبقة واحدة في الثروة والجاه لما رأيت للاحتفالات الدينية شعارًا إلا نادرًا" وقصده التأسف على تخلف كثير من الأعيان والأكابر والأمراء عن إقامة الجماعات في الصلوات الخمس. والحق له. وذلك لأن القائم بالشعار الديني في المساجد في الحقيقة هم الفقراء والمتوسطون من التجار وأرباب الحرف، وأما الأكابر فلا يحضرون المساجد إلا في الجمعة والعيدين ونادرًا في غيرهما نعم يأتون المساجد ليالي المآتم لتعزية وجيه، فالبصير بحالة الاحتفالات في العبادات والمعتبر بالقائلين بها يأسف أن لا يرى للأعيان
يذكر. نعم لا ننكر أن الأمراء والموظفين قد يشغلون عن الحضور في أوقات الجماعات بما لديهم أداء الوظائف1 ولكن القصد أن يدعموا رابطة الاحتفال بهذه العبادة ولو في بعض أيام الأسبوع أو في الأوقات التي يفرغون بها من أشغالهم كالعشاء. أما الصبح فهذا من المأيوس حضور الأكابر فيها بأجمعهم وكذا حضور أغلب وأكثر المتوسطين إذ لا يقام شعارها إلا في الشتاء لطول الليل وتألم الجنب من الاضطجاع. والغالب في مقيمها البؤساء جدًّا. نعم قد يحضرها بعض الموفقين من التجار، وهم لا يتجاوزون عدد الأنامل. ووصول الحال إلى هذا الإهمال يرثى له، فإن حق الشعائر الدينية أن تقوم بها الأمة على طبقاتها سيما وشكر المنعم جل شأنه على الأكابر وجوبه مضاعف لما غمرهم به سبحانه من فضله وزرقه وإحسانه وأمدهم به من جميل أفضاله. ومعلوم أن إيتاء هذه النعم ابتلاء منه تعالى واختبار لمقدار قيامهم بالشكر كما قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَه} فالأجدر بهؤلاء المترفين أن يكونوا في طليعة المتعبدين. حذرًا من أن يصدق عليهم الطغيان بالغنى فيكونوا ممن نزل فيهم {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} والعاقل يحذر العواقب ويخشى مولاه حذرًا من ضياع عقباه ويكون ممن نزل فيهم: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} ولا يتوهم أنا نقول بوجوب الجماعة في سائر الصلوات وإن قاله به بعض الأئمة فإن الحرج مرفوع من هذه الأمة في العبادات والمعاملات2. ولكن ما انتفت الأعذار فيلزم لأداء الصلوات في
1 قلت: وهل يمكن أن نعتبر ذلك عذرًا لهم، وهم يسمعون منادي الله ينادي: "حي على الصلاة
…
حي على الفلاح" مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر الأعمى، بل أوجب عليه أن يجيب الداعي ما دام أنه يسمع النداء؟! "ناصر الدين".
2 قلت: الأدلة ترجح قول من أوجب الجماعة من الأئمة، وقد أشرت إلى بعضها آنفًا، ولا ينافي هذا أن الحرج مرفوع؛ لأن البحث هل الأصل الوجوب أم لا، فإذا اخترنا الوجوب وجب العمل به، إلا للحرج العارض، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى. "ناصر الدين".
الجماعة في أوقاتها البدار إحياء للهدي النبوي وسنة الخلفاء الراشدين وتدعيما لشعائر الدين.
19-
احتكار الكتب الموقوفة في بعض المساجد:
يوجد في بعض المساجد الكبيرة كتب موقوفة على طلبة العلم مشروط نظر القيام عليها إلى إمامة أو مدرسه فتراه مقفلًا عليها في خزانة الكتب أو في حجرة الجامع ولا أحد يدري بها وإن درى فلا يكون من السهل الوصول إلى استعارتها وإذا سمح بإعارتها لأهلها فتراه يخرج الكتاب بتأفف وتضجر ويتبع المستعير بصره وقد يموت الناظر عليها ويرث مفتاح الخزانة أو الحجرة طفل له أو جاهل وهناك لا من مفتش ولا سائل فترى الكتب تموت تلفًا ويأكلها العث مما يأسف له كل عاقل. أعرف من هذا الشيء خزانة في جامع لا يدري أحد ما فيها من الموقوفات إلا ناظرها ولا يجسر أحد أن يسأله عما ضمته لكبر سنه وشحه، وأعرف حجرة في أحد الجوامع الكبيرة ملأى من الكتب الموقوفة ما كان يعرفها أحد من العلماء في حياة ناظرها إلا أولاد الواقف وبعد موته ورثها من أولاده صغار في العلم والسن فوا أسفاه على عدم تفقدها وتعريضها للهواء "على الأقل" وعندي أن الذي يريد وقف كتب في هذه الأزمنة عليه أن يجعل مقرها عند عالم نبيه مجدّ في العالم ساهر عليه يعلم قدر الكتب ومبلغ حاجة أهل النباهة إلى كتبه ثم من بعده فعلى المكتبة العمومية في البلد كمكتبة المدرسة الظاهرية بدمشق مثلا ليعم النفع بها من بعده ويصل إليها كل مستفيد، بل أعرف من الكتب الموقوفة في بعض البيوت القديمة ما يهم الوقوف عليها لو أمكن الوصول إليها، وأنى بالوصول ومناط الثريا دونه، لوجوه لا تخفى، وفي الإشارة ما يغني عن الكلم.
20-
الإيصاء بالمصاحف والربعات والسجادات في مساجد لا تحتاج إليها:
"من أمارات طمس البصيرة جهل مصرف المال وحسبان كل أمر في محله"
أكثر الأغنياء لا يصرف بعقل ولا يبذل بعقل وكذا أكثر الوصايا يرى العاقل أمورًا جديرة بالإيصاء بها وهي مفقودة من الوصية وأمورًا لا ينبغي الوصية بها أو من السفه وتقليد الآباء ذكرها وهي مثبتة في صدر الوصية، أتعجب من ذكر ذلك وايم الحق لفن الإيصاء فن يجب دراسته على كل عالم كامل وحكيم خبير، أتدري ما السبب؟ السبب أن المال عزيز على الأنفس لا يوصل إليه إلا بشقها وقد حرّم تبذيره كما حرم أكله أفليس من الأسف صرفه في غير مصرفه وقد ركب في جمعه صاحبه كل صعب وذلول، ويزعم أنه مؤمن بالله والرسول، وا أسفاه على مال جمع كذلك أن يبذل في سبيل لا يحمد فاعله عليه، ولكن ما العمل والوراثة الآبائية مستحكمة فينا استحكام المكروبات في صاحب الدق. أذكر من ذلك أن كثيرًا من المياسير يوصي بمصاحف عدة أو بمصحف أو بربعة أو بسجادة إلى جامع غني عنها من الإيصاء الذاهب سدى، فإن الجوامع الآن امتلأت بالمصاحف المخطوطة والمطبوعات والربعات ولا من قارئ إلا ما ندر كرمضان وساعات من بعض الأيام يقرأ فيها في المصاحف من عشر الموجود فيها ترى مع هذا الحال من يوصي بها إلى الجوامع وكذلك السجادات، وقد رأيت في بعض الجوامع سجادة حضرت من وصية والجامع غني عنها فخيطت فوق سجادة وكل ذلك من جهل الموصي والكاتب إذ يرغبون في كتابة وصية كيفما اتفق، وكثيرًا ما يكتبها جاهل يمشي مع رأي الموصي حذو النعل بالنعل
ولو استشير عالم حكيم لأشار بالنافع والصالح في توزيع هذا المال على السبيل ولكن لا يستشار ولو استشير فلا تقبل إشارته. قال لي مرة بعض جيراني أريد أن أوصي بسجادة إلى الجامع الفلاني والجامع غير محتاج إليها فقلت تفقد جامعًا فقيرًا من جوامع أطراف البلدة فقال لي: "تلك الجوامع قليل مصلوها وأريد جامعًا إذا بسطت فيه كثر عليها المصلون فيعظم الثواب" تأمل هذا الفقه وهذا الاستنباط.
وقد علمت من أحوالهم أنهم لا يبتغون وجه الله وإنما يقصدون الرياء والسمعة لأن الجوامع الكبيرة كثير طارقوها فإذا هلك وحضرت سجادته سيما في وقت اجتماع الناس وتحلقوا عليها وتساءلوا عن القادمين بها وقيل هذه سجادة من وصية فلان فهناك اللذة الكبرى على زعمه والشهرة العظمى، لذة الرياء والشهرة يحرص عليها ولو جيف وصارت عظامه نخرة. فإنا لله، ألهمنا المولى رشدنا ووفقنا لتعلم العلم والفقه في الدين.
21-
غرس الأشجار في المساجد:
جاء في حواشي الدر أن العلامة ابن أمير حاج الحنفي ألف رسالة رد فيها على من جوز غرس الشجر في المسجد قال لأن فيه شغل ما أعد للصلاة ونحوها، وإن كان المسجد واسعًا أو كان في الغرس نفع بثمرته، والإلزم إيجار قطعة منه ولا يجوز إبقاؤه أيضًا لقوله عليه الصلاة والسلام:"ليس لعرق ظالم حق" 1 لأن الظلم وضع الشيء في غير محله وهذا كذلك. ا. هـ. ووافقه على ذلك المحقق ابن أبي شريف الشافعي وفي الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة: يحرم غرس شجر في مسجد لأن منفعته مستحقة للصلاة فتعطيلها عدوان فإن فعل قلعت الشجرة فإن لم تقلع فثمرها لمساكين المسجد وغيرهم. ا. هـ.
1 حديث صحيح، وهو مخرج في "الإرواء""1518".
22-
إملال القراء بإطالة القراءة وكذا غيرهم:
من القواعد المقررة في كثير من أبواب الفقه في العبادات التخفيف في أدائها في صور شتى كتخفيف إمام مسجد جامع يؤم قومًا غير محصورين، وتخفيف المصلي إذا كان ثمة من ينتظره أو جالس إليه، تخفيف الإمام إذا سمع الصبي يبكي وأمه تصلي معه، وتخفيف الخطبة، مما هو معروف في السنة. والقصد أداء العبادة بنشاط وحضور قلب وشوق وذلك لا يكون إلا مع التخفيف والاعتدال فأما تنفير القلوب بالتطويل الممل فذاك مما يأباه العقل والشرع، وما أطيل ذيل أمر ما إلا استنكرته الطباع ونفرت منه النفوس. جبلة جبلت على ذلك وفطرة خلقت عليها "لا تبديل لخلق الله". إذا علمت ذلك تبين لك أن ما اعتاده كثير من القراء في الدروس أو في رمضان أو بعد الصلوات من إطالة الإعشار إطالة تنفر قلوب السامعين أمر يأباه الشرع والذوق وقد يوقع في محظور عظيم ويجر إلى كبيرة عظمى كأن يكره استماع الآي وحضور مجالسها والسبب في هذا الإثم جهل القارئ بالأدب المطلوب في حقه، ولذا جاء في الحديث لما نمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يطيل في القراءة في الصلاة "إن منكم منفرين" 1 أي والقصد هو جذب القلوب وتشويقها إلى الخير واستماع الحكم لا تنفيرها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"يسروا ولا تعسروا وبشروا لا تنفروا"2.
هذا الباب كما يدخل فيها ما ذكر من إملال القلوب في إطالة الحصة بآيات القرآن يدخل فيه إطالة الدروس والخطب والصلاة وكل ما ينتفع به العامة ويخشى من إملاهم تنفيرهم وانصراف قلوبهم. ومعلوم أن القلوب متى سئمت عملًا ذهب حضورها وخشوعها وهو الثمرة المقصودة منه.
ذكرت مرة لبعض وجهاء المغاربة من إخواننا ما يعتاده المغاربة بعد وفاة
1 حديث صحيح، مخرج في "الإرواء""295".
2 صحيح، مخرج في "الصحيحة""1151".
ميتهم من إحياء ليال ثلاث بقراءة القرآن إلى مطلع الفجر مما يضر بالقراء وأهل الميت والأصدقاء إذ القراء لا بد أن يسأموا ويملوا ويذهب روح عملهم بذهاب نشاطهم، ولا يخلو أحد منهم من عاجز ومن يصعب عليه إحياء الليل بتمامه وطول هذا السهر فيكون جلب المضرة له لا يكفي بما يُعطى من الأجرة التي يبلغ بها قوته الضروري، وكذا يشق على أهل الميت انتظار فراغ القراء إلى أن يقدموا لهم الطعام آخر الليل وطبخه فيه، وكذا الأصدقاء والأقارب فقد يخجل أحدهم من الذهاب ويضطر إلى المكث ويتحمل من الآلام ما لا تطاق؛ وليس هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا السلف فإن لم يمكن استئصال هذه البدعة بتمامها فلا أقل من التخفيف فيها.
وكذا يقال فيما اعتاده أغنياء الشام من إحياء ليلة دفن ميتهم بالقراء في المقبرة إلى الفجر وقد تكون الليالي شاتية والرياح عاصفة فيضطرون للخروج من هذا الفرض إلى إخراج مواقد نار وأدوات شاي وقهوة وسد أطراف الخباء المنصوب على القبر ويقاسي هؤلاء القراء من العناء ما الله به عليهم. أفهكذا تكون الصدقات والقربات وأعمال الخير. من أين جاءهم هذا؟ جاءهم من الجهل الكبير وعدم الرجوع إلى رأي عالم نحرير وفقدان التفقه في الدين. ترى أموالا طائلة تذهب من الأغنياء في مآتمهم بمثل هذا الحال وترى لهم من البخل في مواقع الإنفاق التي يرضاها الله ورسوله ما لا يوصف. فإنا لله. فلينتبه العقلاء وليراجعوا أنفسهم ليتوبوا إلى الله وليقلعوا عما أوقعهم في خسران الدنيا والآخرة.
23-
تفريق أجزاء القرآن والقارئ يقرأ:
كانت العادة في دمشق أن يعزّى أهل الميت في مسجد محلته الكبير ثلاثة أيام صباحًا يتوافد عليه من يعزيهم من بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس وترتفع ولذلك يسمى الاجتماع المذكور "صباحية". وكان يحصل من ذلك حجب
الناس عن صلاة الصبح وهم الذين يأتون إلى المسجد لأدائها بعد جماعتها الأولى فإذا دخل أحد يخجل ويدهش لها الجمع فإما أن يصلي في زاوية المسجد على استحياء وإما أن يرجع إلى إيوانه وقد يكون الوقت شاتيًا والبرد قارسًا.
عادة استمرت قرونًا لا تحصى إلى أن ارتأى من نحو عشر سنين أحد الأكابر الاجتماع بعد العشاء ففعل في أحد المساجد وقلده سائر الناس في الشام فالآن لا يجتمع للتعزية إلا بعد العشاء ثلاث ليال فارتفع بها ضرر حجب المصلين إلا أنه بقي من المحظورات في هذا الاجتماع شيء وهو أنه جرت العادة أن يؤتى بقارئ أو قراء يقرءون أعشار كل واحد بعد الآخر وفي الخلال يقوم خادم المسجد فيفرق أجزاء القرآن الحاضرين فيقرأ كثير منهم، وكان نهاهم أحد الشيوخ عن الجمع بين الشيئين وقال لهم إما أن تفرقوا الأجزاء وتأمروا القارئ يقرأ سرًّا أو تأذنوا للقارئ فيقرأ جهرًا ولا تفرقوا الأجزاء، وذلك لما يحصل في التشويش على القارئين برفع صوت القارئ. إلا أن هذه العادة أيضًا تركت في كثير من الجوامع الشهيرة وذلك بإحضار قارئ يقرأ حزبًا طويلًا أو سورة من المفصل والناس يستمعون إلا من لا فقه له ممن يتكلم والقارئ يقرأ نعوذ بالله وفي بعض الجوامع العادة الأولى موجودة فينبغي التنبه لإصلاحها.
وكان كثير من الحفظة بعد ختمهم أعشارهم يهللون وينشدون ويحصل في المسجد ضجة كبرى فاقتصر الآن على قراءة عشر يختم بعده قارئه بالدعاء وفيها تخفيف من بدعة الضجة الشنيعة. نعم لم تزل الضجة بعد العشر في الجامعين الكبيرين بدمشق بسبب اجتماع المؤذنين في السدة واشتغالهم بالإنشاد لقصائد معروفة لهم ويا حبذا لو أمكن إبطال هذه الضجات والصيحات بل إبطال هذه المجامع للتعزية المسماة بالصباحيات لأنها من البدع والمنكرات.
24-
غضب الملازمين لوراء الإمام على من يزاحمهم:
في أغلب المساجد الكبيرة جماعة يلازمون منها ما وراء الإمام من قبالة المحراب فيأتون للمسجد قبل الصلاة ويأخذون مصافهم وأمكنتهم المعينة؛ لأن كل واحد منهم له مكان من تلك البقعة معين لا يحيد عنه غالبًا فقد يتفق أن يأتي من الناس من يظن وجود فرجة هناك أو يأمل أن يفسح له فإن كان الآتي من ذوي الوجاهة في علم أو منصب اغتفر له وإن كان من طبقة غيرهما فمنهم من يلصق في مكانه ولا يتفسح وإن كان المكان قابلًا للتفسح، ومنهم من إذا أحس بقدومه يتربع ليأخذ قدر الفراغ المظنون ويضيق عليه فإذا اقيمت الصلاة ودخل أحد فإن كان المكان فيه اتساع بعد الإقامة تسامحوا في هجومه وإن لم يكن فيه اتساع كاف إلا أنه يمكن لهم أن يتفسحوا فهناك لا تسل عن غرائبهم فمنهم من يترك مكانه ويذهب للصف الثاني حردًا وقد ملئ غيظًا وغصبا ومنهم من يشير له بالرجوع ويقول ما ثم مكان ومنهم من يلغط ويتأفف ويحوقل ويخاصم همسًا وقد يكمل لغطه بعد الصلاة إذ يكون قدر في نفسه وهو في الصلاة ما يقرعه به ويوبخه على فعله، وقد يتفق أن يأتي أحد يلازم معهم جديدًا فقد يسبق أحدهم إلى مكانه ويجلس فيه فإذا قدم هذا الملازم القديم ورأى مكانه أخذ فتراه يحرد إلى آخر الصف ويلحظ مكانه بطرف خفي متأسفًا ومتغيظًا على هذا الذي اغتصب مكانه وقد لا يسعه الصبر فتراه يجاهر ويقول له "يا أخي لسنا أولاد البارحة واليوم في هذا الجامع نحن من أربعين سنة نصلي في هذا المكان فأين الذوق" فتأمل ما يأتي به هؤلاء الجهلة وتأمل عبادتهم المحشوة رياء وعجبًا وكبرًا وهل مثل هؤلاء للخشية في قلوبهم أثر أو لثمرة الصلاة فيهم وجود؟ كلا فما أحوجهم إلى مرب ومؤدب والمستعان بالله. وقد سبق لنا في بحث الإيطان في المسجد ما يقرب من هذا البحث وفي التكرير إيضاح وتأكيد.
25-
ازدحام المتفرجين على المحمل في بعض المساجد:
من المعروف احتفال الحكومة بمحمل الحج ذهابًا من الشام وإيابًا من الحجاز في موكب تدعى له الأمراء وأرباب الرتب وتتقاطر للتفرج على هذا الموكب عدا عن أهل الشام من لا يحصى من أهالي القرى بل والبلدان النائية عنها كحما وبيروت سيما في هذه الأيام التي قربت فيها المسافة بين الشام وغيرها بواسطة الوابور، ثم إن الطريق لمسير هذا الموكب هو من سراي العسكرية إلى قرية القدم قرب قبة العالي فتصطف الناس على جنبات هذا الطريق في دكاكينه وطرقاته وسطوحه وقهاويه وبيوته التي على الطريق في غرفها العليا والسفلى، وممن يناله حظ من ازدحام الناس فيه لانتظار ممر الموكب المساجد التي على هذا الطريق الطويل العريض وناهيك ما فيه من مساجد وجوامع وخانقاهات فترى النساء والأولاد والرجال يأتون تلك المعابد وينتشرون على أبوابها وفي صحنها وعلى شبابيكها وربما أتوا من بعد صلاة الفجر الأولى احتكارًا للجلوس في موضع من شباكه يطل على الموكب والمارة، ولا تسل عن ارتفاع الأصوات وكثرة الضجيج من الأطفال والبنات وطرح فضلات الطعام أو الفاكهة أو قشر ما يؤكل في جوانبه واختلاط الرجال بالنساء على الأبواب والشبابيك سيما إذا هجم المحمل فهناك الازدحام الأكبر وكثير من قوام المسجد كأئمته وخطبائه أو خدمته يأتون بأهاليهم إليه نساء وأطفالًا نذكر هذا الحال لمحذوره في المساجد التي هي موضوع كتابنا والمحذور فيه ما ذكرناه. ورأيي في ذلك أن تغلق أبواب المسجد الذي على طريق الموكب من بعد الشمس إلى انفضاض هذا الجمع وبه تندفع هذه المحذورات وما عداها مما يكون أكبر منها. والمطالب بذلك ناظر المسجد والمسيطر عليه لأن كل ما يعود إلى المساجد بالضرر والأذى فإثمه محمول على ذي النفوذ الحقيقي فيه.
وقد بلغني أن جامع المصليّ في طريق الميدان يغلق أيام الفُرج فشكرت
قوّامه على ذلك وودت أن تتأسى به بقية الجوامع.
لا أذكر هنا ما حكاه الباجوري في حواشيه على شرح الغاية عن الشافعية من تحريم التفريج على المحمل أو كسوة مقام إبراهيم ثم نقله عن البلقيني جوازه لأن مثل هذا مبني على قاعدة لهم أن ما حرم استعماله لا يجوز النظر إليه لئلا يكون كالإقرار عليه، وزعم البلقيني أن هذا صار من شعار الإسلام فلا يتناوله حكم التحريم.
ولا يخفى أن التحريم لشيء إنما منشؤه ما يتكون عنه من المحذورات ولو في تربيته لملكة فاسدة أو تنميته لبذور الفساد في النفس أو الغير. وبنسبة قوة ذلك وضعفه يتنزل حكم التحريم أو الكراهة. فليتخذ المرء هذا قاعدة ولينظر. وقد قال ابن تيمية رحمه الله إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو الإباحة أو التحريم فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملًا على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل يقطع أن الشارع يحرمه لا سيما إذا كان طريقه مفضيًا إلى ما يبغضه الله ورسوله.
26-
بسط بعض المصلين سجادته فوق سجادات المسجد:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن يبسط سجادة في الجامع ويصلي عليها هل ما فعلة بدعة أم لا. فأجاب بأن الصلاة على السجادة بحيث يتحرى المصلى ذلك فلم تكن هذه سنة السلف من المهاجرين والأنصار ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يصلون في مسجده على الأرض وفي شدة الحر يبسط أحدهم ثوبه فيسجد عليه. وكان عليه الصلاة والسلام يصلي على الحمرة1 وهي نسج ينسج من خوص
1 حديث صحيح، مخرج في "صحيح أبي داود""663"، وأخرجه ابن خزيمة أيضًا "1: 110: 2" وابن حبان "354-356".
ولا نزاع بين أهل العلم في جواز الصلاة والسجود على المفارش إذا كانت من جنس الأرض كالخمرة والحصير، وإنما تنازعوا في كراهة ذلك على ما ليس من جنس الأرض كالأنطاع المبسوطة من جلود الأنعام وكالبسط والزرابي المصنوعة من الصوف. وأكثر أهل العلم يرخصون في ذلك أيضًا، وهو مذهب أهل الحديث كالشافعي وأحمد، ومذهب أهل الكوفة كأبي حنيفة وغيرهم.
وهؤلاء الذين يفترشون السجادة على مصليات المسلمين من الحصر والبسط يزدادون بدعة على بدعتهم وقد يكون أحدهم له غلو الوسوسة فيرتاب في طهارة مفروشات المسجد لوطء الأقدام أو زرق الطيور مع أنه علم بالتواتر أن المسجد الحرام ما زال يطأ عليه المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه وهناك من الحمام ما ليس بغيره ويمر بالمطاف من الخلق ما لا يمر بمسجد من المساجد ثم إنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه متفقين على ترك المستحب الأفضل ويكون هؤلاء أطوع لله وأحسن عملًا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإن هذا خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع، وقد يجعلون ذلك من شعائر أهل الدين فيعدون ترك ذلك من قلة الدين ومن قلة الاعتناء بأمر الصلاة فيجعلون ما ابتدعوه من الهدي الذي ما أنزل الله به من سلطان أكمل من هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وربما تظاهر أحدهم بوضع السجادة على منكبه وإظهار المسابح في يده وجعله من شعار الدين والصلاة، وقد علم بالنقل المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكن هذا شعارهم، وكانوا يسبحون ويعقدون على أصابعهم وربما عقد أحدهم التسبيح بحصى أو نوى1 والتسبيح بالمسابح من الناس من كرهه ومنهم من رخص فيه لكن لم يقل أحد أن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع وغيرها وإذا كان هذا مستحبًّا فقصد إظهار ذلك
1 لم يثبت ذلك على أحد من الصحابة. راجع ردنا على "التعقب الحثيث". "ناصر الدين".
والتميز به عن الناس مذموم فإنه إن لم يكن رياء فهو تشبه بأهل الرياء إذ كثير ممن يصنع هذا يظهر منه رياء ولو كان الرياء بأمر مشروع لكانت أحدى المصيبتين لكنه رياء ليس مشروعًا وقد قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: "أخلصه وأصوبه""والفتوى طويلة مهمة فلتراجع".
27-
تغير ماء البحيرات أيام انقطاع الماء:
العادة في دمشق في أواخر الشتاء أن تقطع مياه أنهارها أسبوعًا أو أكثر وذلك لزعم أرباب الفلاحة أن المياه في شباط تضر المزروعات فيقطع ورودها على الحقول وتترك على نهر بردى وكثير من هذه الأنهار تسقى دورًا ومساجد وحمامات بد من تصل إليها فإذا سكر النهر من مبدئه انقطعت المياه عن المساجد فقد يبقى في بحراتها الكبيرة ماء فيتركه خدمة المسجد بزعم الحاجة إليه لوضوء المصلين فلا يلبث هذا الماء أن يظهر التغير فيه ما دام موجودًا وذلك لأن أغلب الجوامع الشهيرة يردها من المصلين من لا يحصى وكلهم يرجعون غسالة أيديهم وأرجلهم وأفواههم إلى ماء البحرة فلا تسل عن حالة الماء في قذارته وكراهة الأنفس السليمة له كراهة لا توصف، ومعلوم أن مثل هذا مما لم يأمر الشرع به فإن الماء لم يوصف بالطهور الذي هو صيغة مبالغة في الطهارة التي هي النظافة المضاعفة إلا لنستعمله كذلك فإذا فقدت الطهارة المذكورة فأنى تكلف الأنفس خلاف فطرتها. ومعلوم أن كثيرًا من الائمة ذهب إلى أن الماء المتغير لونه بصبغ يسلب طهوريته فكيف المتغير بأوساخ الأرجل والأيدي والأفواه التي تعاف النفس رؤيته كذلك فضلًا عن إعادته للفم بمضمضته أو غسل الوجه به وهو غسالة الأقدام.
ودعوى فقيه أنه لم يتغير لونه دعوى من لم يفهم سر التشريع فإن مثل هذا
الماء تغير جوهره تغيرًا يحظر الأطباء استعماله وذلك لأن مسألة الجراثيم والميكروبات التي مقيلها الأفواه أصبحت من الضروريات التي إنكارها كإنكار الشمس طالعة، فالواجب على خدمة المساجد متى انقطع ماء بحراتها أن يغوروها أو أن نظار المساجد يجعلون للبحرة غطاء ويعمرون لها أنابيب مثل بحرة بيت المقدس فهناك لا بأس من أن تستعمل، بل هكذا ينبغي ولو كان الماء جاريا إذ نرى الماء مع جريانه إذا كثرت عليه الأيدي يعوم على وجهه من آثار النخاعات ووسخ الأرجل ما يظهر لكل ناظر.
28-
تحجير بعض السقايات المسبلة بشباك حديد:
اللهم إنا نعوذ بك أن نكون من الجاهلين. رحماك اللهم مما يفعل الجهل بأهله وما يؤثر عمى البصيرة في ذويه وما يجلبه استبداد الجاهل من الآفات لا يستطيع القلم وصفه ولا اللسان التعبير عن بعضه يكاد يندهش العقل ويتفطر القلب من أعمال يستبد بها الجهلة مما لا ينطبق على عقل ولا ذوق. يعلم كل أحد ما لحسنات السلف الأقدمين من شق الأنهار وحفر الآبار وإجراء القنايات وتسبيل السقايات في كل صقع وقطر سيما في دمشق فإن سقاياتها العامة في شوارعها وحاراتها وعلى أبواب مساجدها لا يأخذها الحصر. هذه السقايات "وهي البحرات في لغة العامة" سَبّلها من سَبّلها ليعم نفعها وترتفق بها المارة على طبقاتهم من حيوان وإنسان ارتفاقا لا تحجير فيه ولا تضييق على قاصديه ولم يزل أمرها جميعها على هذا السبيل الحميد حتى أخذ بعض الجاهلين الحمقى الآن يحجرون بعض هذه البحرات تحجيرًا غريبًا اتبعوا وسوسة الشيطان وذلك أن بعض الناس تفكر في أن بعض هذه البحرات في الشوارع قد تدنسها جيرانها القذرة مهنهم كلحام وسمان وحمصاني وذلك بغسل أوانيهم داخلها مما يكدر ماءها فآل به التفكر إلى أن تآمر مع جيرانه في التعاون على وضع شباك حديدي
على هذا السبيل وفتح طاقة منه مقدار ما تسع يد المغترف ففعلوا ملبين هذا المشروع وقد لزم من هذا المحظور حرمان الدواب التي تمر ظمأى وكانت ترد هذا السبيل فتشرب منه وهي المقصودة بالذات في الأغلب لكثرة طروق الدواب في الشوارع إذ لم يمكنها الشرب منه لحجز هذا الشباك الحديدي عنه ولزم أيضًا رفض الوقوف عليها إذا كان على حافتها فتعذر ذلك على المتوضئ، ولزم من ذلك تغيير صفة الواقف ومعاكسة رأيه في تعميمه النفع، ولزم أيضًا الشح بمال الغير المتصدق به والتعرض للوعيد الشديد فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل" الحديث. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا: "ثلاثة لا يمنعن: الماء والكلاء والكلأ والنار" 1، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري "وإسناده صحيح" وثم مضار آخر وبه يعلم حرمة هذا التحجير حرمة لا خلاف فيها. وما الأعجب إلا سخاء الأنفس للتعاون على مثل هذا الضرر وبخلهم في الضروريات معلوم. وما ذاك إلا لطمس البصائر. نعم لا ننكر أن تقذير الماء لا يجوز وغسل الأواني والأيدي القذرة فيه محظور طبًّا وشرعًا لما لا يؤمن من انتشار جراثيم مضرة دع عنك تقذير الماء الذي بمجرده يكفي لنفور النفس منه إلا أن حق الجيران أن ينهوا مقذر هذا السبيل أشد النهي ويأخذوا على يديه حتى إذا لم يجد فيه الوعظ ولا النهي فليرفع أمره إلى المحتسب ليضطره إلى ترك ذلك أو مبارحة هذا السوق كليا، وتأثير تعاضد الجيران في بلوغ الغاية أمر لا ينكر، بل لا نجاح إلا بالتعاضد والتعاون إذ التفرق والتخاذل آفة النجاح، وقد اتفق أن علم بعض الناس بأضرار شباك حديدي استحدث في بركة جانب مسجد فسعى في إزالته فأزيل وشكر العقلاء سعيه.
ويقرب من هذا الشباك ما يفعله بعض الناس من تغيير حافة البحرات بقلع أحجارها المبسوطة المفروشة التي يتمكن من الوقوف عليها لمغترف أو متوضئ،
1 حديث صحيح، مخرج في "الإرواء""1550".
واستبدالها بأحجار مسنمة لا يوقف عليها مع التعويق عن بعض الارتفاقات منها. وقد ذكر مضرات ذلك لمن سنم حافة بحرة فتذكر وأعادها لبلاطها الأصلي المفروش وتاب من هذه الذلة وأناب. فليتنبه لهذه المنكرات وليسع الغيور في إزالتها.
29-
اجتماع الفقراء لتقبل صدقة إسقاط الصلاة في المسجد:
جرت العادة بدمشق إذا توفي أحد الأغنياء أن يجتمع الفقراء على باب داره اجتماعًا بنسبة ثروته فإن يكن من المشاهير في الثراء يتقاطر أولئك البؤساء أفواجًا أفواجًا وقصدهم ما تيسر لهم مما يوزع عن الميت فإذا هجموا وتجمعوا وضاق بهم أهل الميت ذرعًا فهنالك يندبون من أصدقائهم رجلًا جلدًا له قوة وصبر على معاناة صياحهم وإلحاحهم فيأمرهم غالبًا باتباعه إلى مسجد جوار دار المتوفى ويحشرهم فيه ويغلق بابه ويأتي بالشيخ الذي يدير عليهم صرة إسقاط الصلاة فكلما فرغ من شخص أعطاه الموكل على توزيع الصدقات سهمه وهكذا إلى أن يفرغ الكل. والكلام في هذه الحالة من وجوه:
"أولها": أن جمعهم في المسجد يفضي إلى صياح وخصام مما ينبغي صون المسجد عنه وإن كانت الصدقة في المسجد جائزة إلا أنها إذا أفضت إلى الإخلال بحرمة المسجد فالأجدر بها أن توزع في غيره.
"ثانيها": حالة هؤلاء الفقراء المسمين "بالكلاليب" في اجتماعهم وتوقحهم وفجورهم وبذاءة لسانهم وقلة حيائهم حالة من أفظع الحالات وأنكر المنكرات وتالله أن هجومهم وضوضاءهم لتنسي أهل الميت مصابهم وإن شئت فقل تضم إلى مصابهم مصابًا وتحشر إلى آلامهم آلاما وكأنهم يتقاضون غرامة أو حقًّا لازمًا أو دينًا حل أجله لما حلت بالميت أجله وكم فيهم من جلد وقوي البنية وشاب. نعم يوجد بينهم المستحق للصدقة ولكن شؤم
المجموع يعود على الجميع وقد يضطر أهل الميت في مثل آخر ثلاث من وفاته لكثرة عددهم على باب داره ومجيئهم من العصر أن يستأجر من جنود الحكومة وشرطها ثلاثة أو أكثر أو أقل ليقفوا على الباب لرد هجماتهم ودفع غاراتهم وما راء كمن سمعا ونوادرهم في ذلك معروفة الشاميين وحسبنا الله.
"ثالثها": في مسألة إسقاط الصلاة بالكيفية المعروفة قال متأخروا فقهاء الحنفية إسقاط الصلاة وإن كان لا أصل له في كتاب ولا سنة فهو أمر احتياطي باستحسان المشايخ كما إذا تطوع به الوارث في الصوم قالوا والواجب فيها أن يعطى للفقير عن كل فرض نصف صاع أي أو قيمته. ا. هـ. أقول وحينئذ فيحسب مقدار ما فرط فيه من عمره من الصلوات احتياطًا ويخرج عن كل ما تركه إن كان من أهل الثروة والسماحة وإن لم يقدر على ذلك فليخرج عما يمكنه1، وأما الإيهاب مرارًا بين الولي أو وكيله والفقير فلا حاجة إليه ولا معنى فإن القصد إيتاء الفقراء ما تيسر من الحنطة أو الدراهم كفارة ولا يكلف المرء إلا مستطاعه فما لا يستطيعه لا يكلف أن يحتال عليه سيما في أمر غير منصوص عليه وأمره على رجاء، كما يحكى عن الإمام محمد أنه قال: تجزئه إن شاء فعلق القبول على المشيئة. وبالجملة فالذي أراه أن قياسها على الصوم لا يقل عن قياس كثير من الأمور التي قاس عليها الفقهاء فكما أن للصوم فدية فكذلك لا مانع أن يقدى ويكفر عن المتروك من الصلاة سيما وفي ذلك مواساة للفقراء وهو المقصود بالذات فيكفي الولي أن يجمع من الفقراء ما شاء ويعطيهم صاعًا أو قيمته أو أكثر وينوي بقلبه ذلك كما في الزكاة، فإنهم قالوا إنه يعطيها للفقير وينوي بقلبه أداء ما فرض عليه. وأما هذه الحالة المعروفة من إدارة الصرة مرارًا والجهر للفقير من الولي أو وكيله بقوله: خذ هذه كفارة صلاة ففيها إخلال بأصول الأداء للزكوات والكفارات؛ إذ المطلوب الستر على الفقير وإيتاؤه سرًّا لا جهرًا وعدم تأليم خاطره وجرح عواطفه. وهذا الذي أراه
1 انظر التعليق على الصفحة " ""ناصر الدين".
هو من الفقه بمكان وفيه جمع بين من يقول من المحدثين وبقية فقهاء المذاهب الأخر أنها بدعة ينبغي تركها فيسعى بمنع خير للفقراء1 وبين من يديرها على الكيفية المعروفة ويرى أنها لا تجزئ إلا كذلك مما يدل على جمود، على التقليد البحث للمقلدين لأنها لم ترد عن إمام متبوع، وقد اتفقوا على أنه لا يقلد المقلد. وبالجملة فينبغي إلحاقها بالزكوات ومراعاة آداب أدائها فيها، والله الهادي.
30-
قيام بعض المدرسين أو السامعين لبعض القادمين:
يحتفل في كثير من المساجد بمجامع علمية حديثية أو تفسيرية، فيتحلق السامعون حول المدرس حسب العادة، فيتفق أن يأتي لحضور هذا الدرس أمير أو وزير أو قاص أو عالم كبير، فربما يقوم المدرس أو بعض من حضر ويرى ذلك إكرامًا ضروريًّا. والحال أن القيام حالتئذ من السخافة والطيش بمكان إذ يدل على عدم معرفة القائم بأدب الدرس، وأدب الدرس كأدب النفس ومن الواجب تعلمه كما تقرر في موضعه من كتب الآداب. ولا ننكر أن القيام من الإكرام2، ولكن لا في كل مكان. أرأيت لو اصطفت الناس للصلاة ودخل أمير أو وزير فهل يخطر ببال أحد أن يقوم له إذا رآه؟ 3 كلا وما ذاك
1 قلت: الخير ينبغي أن يقدم إلى الفقراء من طريق شرعه الله تعالى، لا من طريق كهذه التي لا يعرفها السلف. والخير كله في اتباعهم، وعجيب من المصنف رحمه الله تعالى أن يستحسن مثل هذه البدعة، وما أتي المبتدعة إلا من مثل هذا الاستحسان. "ناصر الدين".
2 قلت: لو كان كذلك، لكان معروفًا عند الصحابة الكرام، ولا سيما مع سيد البشر عليه الصلاة والسلام، فإنه أحق الناس بالإكرام، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا يقومون له صلى الله عليه وسلم كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه:"ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك". رواه أحمد وغيره بسند صحيح.
3 كذا الأصل، ولا تخلو العبارة من شيء، فإن الناس الذين اصطفوا للصلاة، إنما هو قيام، فكيف يقال فيهم: فهل يخطر ببال أحد أن يقوم؟ فالظاهر أن المؤلف يعني بقوله: "اصطفت الناس للصلاة" أي استعدوا وهم جلوس للاصطفاف. "ناصر الدين".
إلا لاقتضاء المقام ذلك وهكذا في الدرس فلا يسوغ القيام لداخل مطلقا مهما عظمت رتبته، وإكرامه هو أن يتفسح له لتذهب عنه دهشة الدخول، والسبب أن في القيام قطعًا للقراءة والتقرير والسماع والإسماع وتشويش فكر القارئ وتفريق الهيئة المنضمة وفتح باب الكلام والغض من حرمة المقروء وقد يكون حديثًا أو تفسيرًا بل القائم حينئذ يسقط قدر نفسه في نظر العقلاء، ولذلك لا ينبغي قطع تقرير الدرس ولا التوقف ولا إظهار الدهشة كما لا ينبغي الإعراض والإزراء بالغض وإظهار عدم الاكتراث، بل يبش ويشير إشارة المحب ويمضي في تقريره، نعم من كان يدرس في داره أو حجرته نحوًا أو صرفًا لطالب أو طالبين ولا احتفال هناك تخير القارئ بين أن يقوم أو يبقى على حالته وهو الأولى حتى إذا فرغ من الدرس قام له وصافحه كما هو طريقة أشياخنا العقلاء في مجالس دروسهم في دورهم ومساجدهم فليحذر من كان في محفل أن يقوم لداخل بعد أن ذكرت لك ما هو الواجب في ذلك.
31-
احترام أفنية المساجد:
من البديهي الذي لا يخفى على كل من له مسكة من عقل أن المساجد والأماكن التي بنيت لعبادة الله تعالى يجب احترامها عن كل ما يخل بتنظيمها، فقد أتينا على جمل مما ينبغي تعاهده داخلها، وقاعدة ذلك هو طرح كل بدعة فيها منكرة وبقي الكلام على منكرات في فنائها تخل بحرمتها فمن ذلك طرح قمامات حولها أو تقذير جوابنها أو البصاق أو التمخط على حيطانها أو إيقاد نار حول حائطها أو جمع تراب العمارات إلى جانبها أو وضع الأخشاب مسندة إلى أركانها أو ربط الحمير على حديد شبابيكها وهذا المنكر الأخير
قد يخل به بعض الجهلة الأغبياء فيربط حماره جانب المسجد ويتركه ينهق ويملأ المسجد بنهيقه فيؤذي المصلين بصوته المنكر ونهيقه المؤلم، ولا يدري صاحبه بعادته ماذا ينال المصلين والعاكفين من الانزعاج بهذا النهيق فإنا لله. فيجب على كل من رأى ذلك في إنكاره على صاحبه وكفه والقيام على المتساهل بتقذير جوانبها أو إشغالها وتعليمه قدرها والله الموفق.
32-
التهليلة في المسجد لمن يتوفى من أئمته أو خدمته:
"ثالث ليلة بين العشائين"
"والبحث في التهاليل ودعوى نفع الميت بها"
يقام في بعض المساجد تهليلة لمن يتوفى من أئمته أو خطبائه أو مؤذنيه أو خدمته بين العائشين ثالث ليلة من وفاته ويراها البعض حسنة كبرى لذلك يأتي أحد أقرباء المتوفى أو أصدقائه ويرجو إمام المسجد أن يترك درسه ليلتئذ ويمشي إلى المنشدين ورؤساء الأذكار أن يأتوا ليذكروا فإذا اجتمعوا وتحلقوا يأخذون بالذكر على عادة التهاليل، والمحظور من ذلك هو رفع الصوت في المسجد والتشويش على المصلين ولا سيما في أوقات الشتاء، فإن ما بين العشائين يكون المسجد موردًا لمصلي المغرب، فإذا دخل المصلي المسجد ورأي ضوضاء الذاكرين يضطر إلى الرجوع فيصلي إما في إيوان المسجد ويناله من ضرر البرد ما يذهب خشوعه وإما أن يصلي في المسجد جانب أولئك الصارخين. والقصد أن فعل هذه التهليلة في المسجد محظور لما ذكرنا، وأرى في هذه الأزمنة قل الاعتناء بها في المسجد والحمد لله رب العالمين وعهدي بها وأنا صغير أنها كالواجب لكل من مات من قوام المسجد وأنها من قضاء حقه كما أن التهاليل بطبيعة رقي الأفكار وتنبهها قل أمرها في الشام. إنما اتكلم على التهاليل وحظرها من حيث ما ذكرت لأنه متفق عليه بين الفقهاء فإن رفع الصوت في
المسجد وتعاطي ما يصد عن الصلاة فيه في أي وقت محظور إجماعًا وبقي الكلام عليها من حيث عملها وادعاء نفع الميت بها وانتفاعه. والذي أراه أن الذي ينفع الميت هو الصدقة عنه1 من توزيع دراهم وإطعام طعام بنيته والدعاء له، وأما الذكر بالكيفية المعروفة من إنشاء الموشحات والتمطيطات وهز البدن وتخليع الأعضاء وتمديد الأيدي ورفع الأصوات وشدة الضجات فليس إلا من قبيل الاجتماع للأغاني والرقص إلا أنه غناء ورقص كاملين مستورين وليس غناء مخنثين ولا فاسقين، وأما دعوى أنه قربة إلى الله ومثوبة وأنه من الدين فيخشى على معتقده ما يخشى على من يتخذ دين الله هزؤًا ولعبًا ورقصًا وغناء فنعوذ بالله أن نكون من الجاهلين. ولذلك ما كنت أرى في التهاليل شيئًا حسنًا إلا إطعام الفقراء من طعامها وتوزيع دراهم على بؤساء حاضريها وما عدا ذلك من الذكر المعروف فيها فما هو إلا تمضية وقت في إنشاد لطيف وأنغام جميلة وموشحات منوعة يكون الذكر كالقرار لها؛ إذ لا بد للمنشدين من صوت ساذج يربط النغم لهم ولا ربط مثل ربط أصوات الذاكرين لذلك ترى الذاكرين في تقرير النغم للمنشدين وأصوات المنشدين كالشيء الواحد المتماسك بعضه ببعض ولو أنه خلت عن تمطيط لفظ الجلالة التمطيط المستنكر لكل ذي عقل لكانت جمعية إنشاد فيها تسلية لأهل الميت إما وفيها التمطيط بكلمة الجلالة وكلمة التوحيد واعتقاد القربة بها ونفع الميت بها وأنها من الضروريات لنجاته ومثوبته فلا ولا كرامة.
وقد ألف في تحريم التهاليل فقيه الشام من المتأخرين السيد ابن عابدين رسالة إلا أنه بناها على فرع فقهي وهو عدم جواز أخذ الأجرة على التلاوة -أحد قولين عند الحنفية- ولم يسلم له اعتماد هذا القول فألف في الرد عليه معاصره وصديقه العلامة الشيخ صالح الدسوقي خال جدتي لوالدي ونقل عن فروع فقهاء الأئمة الأربعة جواز ذلك أعني أخذ الأجرة على التلاوة، ورد على
1 ليس في السنة -فضلًا عن القرآن- دليل يدل على انتفاع كل ميت بصدقة الحي، وإنما فيها انتفاع الولد بصدقة الوالد، وذلك لأنه من سعي الوالد، وذلك لأنه من سعي الوالد، ولا يصح إلحاق غيره به كما حققته في "أحكام الجنائز""ص173-178". "ناصر الدين".
العلامة ابن عابدين أيضًا العلامة محمود أفندي ابن حمزة مفتي دمشق وغيرهما وسمعت شيخنا الحواني أستاذ المقرئين في الشام -وقد جرى ذكر رسالة ابن عابدين ومن رد عليه- يقول: لو أن ابن عابدين بنى رسالته على منكرات التهاليل ومكروهاتها وبدع المتصوفة فيها لاتفقت كلمة الكل عليها إذ لم يزل ولا يزال في أنفس كثيرين حزازات من أعمال هذه التهاليل سيما في ذلك الزمن السالف، فقد كانت التهاليل قائمة على ساق وقدم قيامًا مدهشًا بحيث لا تفتر المشايخ عن إقامتها للأغنياء وكان يتفق لبعض المشايخ ممن رزق حظًّا فيها أن يطلب منه في ليلة واحدة تهليلتان أو أكثر فيضطر أهل الميت إلى تأخير الميعاد لسبقهم بغيرهم. وكان يوجد في بعض التهاليل شبان مرد يتحلقون للذكر ويقودهم رئس الذكر فيصفهم ثم يهيمون وينزعون طرابيشهم ويرخون شعورهم يقول لي من أبصر ذلك من المعمرين -المنكرين تلك الحالة: فلا ترى إلا شعورًا مسدولة وخصورًا مهتزة وأكتافاً متمايلة وتصفيقًا من كل جانب وخفضًا ورفعًا وزعقًا من كل صوب وهيامًا لطرب أدوار المنشدين وموشحاتهم وتطبيقهم كل مقطع من مقاطع الذكر على نغم مخصوص مما يؤسف كل عاقل ويشجي كل حكيم. وأظن أن ابن عابدين لما لم ترقه التهاليل لما ذكرنا أراد أن يصرف الناس عنها بنقل قول معروف في المذهب علمًا بأن الفقهاء والعامة يخضعون لفتيا الفقهاء فاتاهم من الجهة التي يعتقدونها. بيد أنه لم يتم له الأمر لوجوه: "أولها": عدم الاتفاق في المذهب على ذلك القول "ثانيها": ذهاب بقية الفقهاء من المذاهب الأخر إلى خلافة أيضًا "ثالثها": حصره الرسالة في ذلك الفرع والتعصب له. ولو أنه نقل أقوال الفقهاء في تحريف الذكر وتمطيط اللفظ الكريم وقصد الرياء والسمعة والعدول عن الأحب وهو التصدق سرًّا على المحاويج وما قد يولده هذا المجمع من المنكرات والأذن للمردان بالذكر على حدة في الأثناء مما هو منكر بالإجماع وإيثار الأغنياء غالبًا بالألوان الجملة إذا هُيء لهم الطعام ثم إطعام الفقراء غير ذلك الطعام وإغلاق الباب في وجوه كثير من الفقراء وهم أحق من الموسرين المدعوين واعتقاد ما ليس بقربة قربة، إلى غير ذلك، لكانت
الرسالة بديعة في بابها لا يرد عليها إلا جاهل لا يقام له وزن. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل1.
33-
قراءة البخاري لنازلة الوباء والحرب ونحوها:
نقل القسطلاني رحمه الله تعالى شارح البخاري في مقدمة شرحه عن الشيخ أبي محمد بن عبد الله بن أبي جمرة قال: قال لي من لقيت من العارفين عمن لقيه من السادة المقر لهم بالفضل: إن صحيح البخاري ما قرئ في شدة إلا فرجت ولا ركب به في مركب فغرقت. ا. هـ. وقد جرى على العمل بذلك كثير من رؤساء العلم ومقدمي الأعيان إذا ألم بالبلاد نازلة مهمة فيوزعون أجزاء الصحيح على العلماء والطلبة ويعينون للختام يومًا يفدون فيه لمثل الجامع الأموي إمام المقام
1 قلت: والحق أقول: إن ابن عابدين وإن كان من المقلدين، فإنه لم يتعصب في هذه الرسالة، إلا لما أفادته أدلة الكتاب والسنة، ومن وجوب الإخلاص لله تعالى في العبادة، وهو ينافي أخذ الأجرة عليها والتهليل والذكر فيها، فهو حصر الرسالة في بيان حكم أخذ الأجرة عليها، ولم يستدل لذلك بالفرع الفقهي كما قد يشعر بذلك كلام المصنف رحمه الله تعالى. وإنما استدل ببعض الأحاديث الصريحة في تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن والاكتساب به، وقد خرجت بعضها في "سلسلة الأحاديث الصحيحة""259، 260" وتحريم أخذ الأجرة على تلاوة القرآن والتهاليل ينبغي أن يكون موضع اتفاق بين أهل العلم؛ لأن إباحتها ينافي المقطوع به من وجوب الإخلاص لله فيها؛ إذ لا يعقل أن يجتمع الإخلاص والرغبة في الأجرة في عبادة ما، ولذلك قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . على أن ابن عادين رحمه الله لم يفته التنديد بأولئك المحرفين للذكر والتهليل فقال "ص29": "مع قطع النظر عما يكون كثيرًا في حالة الذكر، المطلوب فيه جمع الفكر، فما يسمونه بالسماع والكوشت والحربية، ونحو ذلك مما يراعون فيه الأعمال الموسيقية، المشتمل على التلحين والتمطيط والرقص والاضطراب والاجتماع بحسان المرد، والغناء المحرم المهيج لشهوات الشباب، فإن ذلك قد نص أئمتنا الثقات على أنه من المحرمات فقد أقاموا الطامة الكبرى على فاعليها وصرحوا بكفر مستلحها". "ناصر الدين".
اليحيوي في دمشق وفي غيرها كما يراه مقدموها وهذا العمل ورثه جيل عن جيل منذ انتشار ذاك القول، وتحسين الظن بقائله. بل كان ينتدب بعض المقدمين إلى قراءته موزعًا ثم ختمه اجتماعًا لمرض والي بلدة أو عظيم من عظمائها مجانًا أو بجائزة، بل قد يستأجر من يقرؤه لخلاص وجيه من سجن أو شفائه من مرض على النحو المتقدم تقليدًا لمن مضى. وكان يوجد من المتقدمين من ينكر ذلك بقلبه أو يشافه به خاصته. ثم كتب أحد الفضلاء الأزهريين في جمادى الثانية سنة "1320" لإحدى المجلات العلمية في مصر انتقادًا على هذه الحالة بما شفى صدور الناقمين على البدع فنشرتها عنه وهاكها بحروفها تحت عنوان "بماذا دفع العلماء نازلة الوباء": دفعوها يوم الأحد الماضي في الجامع الأزهر بقراءة متن البخاري موزعًا كراريس على العلماء وكبار المرشحين للتدريس في نحو ساعة جريا على عادتهم من إعداد هذا المتن أو السلاح الحبري لكشف الخطوب وتفريج الكروب فهو يقوم عندهم في الحرب مقام الحيطة الصحية وعقاقير الأطباء، وفي البيوت مقام الخفراء والشرطة وعلى كل حال فهو مستنزل الرحمات ومستقر البركات. ولما كان العلماء أهل الذكر والله يقول:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فقد جئت أسألهم بلسان كثير من المسترشدين عن مأخذ هذا الدواء من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله أو رأي مستدل عليه لأحد المجتهدين الذين يقلدونهم إن كانوا قد أتوا هذا العمل على أنه ديني داخل في دائرة المأمور به وإلا فعن أي حذاق الأطباء تلقوه ليتبين للناس منه أو من مؤلفاته عمل تلاوة متن البخاري في درء الهيضة عن الأمة، وإن هذا داخل في نواميس الفطرة أو خارج عنها خارق لها، وإذا كان هذا السر العجيب جاء من جهة أن المقروء حديث نبوي فلم خص بهذه المزية مؤلف البخاري وَلِمَ لَمْ يجز في هذا موطأ مالك وهو أعلى كعبًا وأعرق نسبًا وأغرز علمًا ولا يزال مذهبه حيًّا مشهورًا، وإذا جروا على أن الأمر من وراء الأسباب فلم لا يقرؤه العلماء لدفع ألم الجوع
كما يقرءونه لإزالة المغص أو القئ أو الإسهال حتى تذهب شحناء الجراية من صدور كثير من أهل العلم "أي من أهل الجامع الأزهر" وعلى هذا القياس يقرأ لكل شيء ما دامت العلاقة بين الشيء وسببه مفصومة. فإن لم يستطيعوا عزو هذا الدواء إلى نطاس الأطباء سألت الملم منهم بالتاريخ أن يرشدنا إلى من سن هذه السنة في الإسلام وهل قرئ البخاري لدفع الوباء قبل هذه المرة فإنا نعلم أنه قرئ للعرابيين في واقعة التل الكبير "أي في مصر" فلم يلبثوا أن فشلوا ومزقوا شر ممزق ونعلم أنه يقرأ في البيوت لتأمن من الحريق ولكن بأجر ليس شيئًا مذكورًا في جانب شركة التأمين المعروفة مع أن الناس يتسابقون إليها تسابقهم إلى شراء الدواء إذا نزل الدواء ويعدلون عن الوقاية التي نحن بصددها وهي تكاد تكون بالمجان ويجدون في نفوسهم اطمئنانًا دون هذه. فإن لم يجد العلماء عن هذه المسألة إجابة شافية خشيت كما يخشى العقلاء حملة أهل الأقلام عليهم حملة تسقط الثقة بهم حتى من نفس العامة، وحينئذ تقع الفوضى الدينية المتوقعة من ضعف الثقة واتهام العلماء بالتقصير، وكون أعمالهم حجة على الدين. هذا وقد لهج الناس بآراء على أثر الاجتماع الهيضي الأزهري فمن قائل إن العلماء المتأخرين من عادتهم أن يهربوا في مثل هذه النوازل من الأخذ بالأسباب والاصطبار على تحملها لمشقتها الشديدة ويلجئون إلى ما وراء الأسباب من خوارق العادات لسهولته ولإيهام العامة أنهم مرتبطون بعالم أرقى من هذا العالم المعروف النظام فيكسبون الراحة والاحترام معًا فيظهرون على الأمة ظهور إجلال ويمتلكون قلوبهم ويسيطرون على أرواحهم، ولهذا تمكثوا حتى فترت شرة الوباء فقرءوا تميمتهم ليوهموا أن الخطر إنما زال ببركة تميمتهم وطالع يمنهم. ومن قائل إنهم يخدعون أنفسهم بمثل هذه الأعمال بدليل أن من يصاب منهم لا يعالج مرضه بقراءة كراسة من ذلك الكتاب بل يعمد إلى المجربات من النعنع والخل وماء البصل وما شابهها أو يلجأ إلى الطبيب لا تلتفت نفسه إلى
الكراسة التي يعالج بها الأمة فهذا يدل على أن القوم يعملون على ما في وجدانهم لهذه الأمة خادعين أنفسهم بتسليم أعمال سلفهم. ومن قائل إن عدوا من أعداء الدين الإسلامي أراد أن يشكك المسلمين فيه فدخل عليهم من جهة تعظيمه فأوحى إلى قوم من متعالميه السابقين أن يعظموا من شأنه ويرفعوا من قدره حتى يجعلوه فوق ما جاءت له الأديان فيدعون كشف نوائب الأيام بتلاوة أحاديث خير الأنام ويروجون ما يقولون بأنه جرب وأن من شك فيه فقد طعن في مقام النبوة حتى إذا رسخت هذه العقيدة في الناس وصارت ملكة دينية راسخة عند العوام وجربوها فلم تفلح وقعوا والعياذ بالله في الشك وأصابهم دوار الحيرة كما حصل ذلك على أثر واقعة التل الكبير من كثير من الذين لم يتذوقوا الدين من المسلمين حتى كانوا يسألون عن قوة البخاري الحربية ونسبته إلى البوارج ساخرين منه ومن قارئيه، ولولا وقوف أهل الفكر منهم على أن هذا العمل ليس من الدين وأن القرآن يقول:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} إلخ لضلوا وأضلوا. وقد جرأ هذا الأمر غير المسلمين على الخوض في الدين الإسلامي وإقامة الحجة على المسلمين من عمل علمائهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول قوم: إن التقليد بلغ بالعلماء مبلغًا حرم على العقول النظر في عمل السلف وإن كذبته العينان. وخالف الحس والوجدان، ويقول آخرون ممن لا خبرة لهم بهمة العلماء في مثل هذه الكوارث أما كان ينبغي لهم أن ينبثوا في المساجد والأندية والولائم حاثين الناس على الوقاية من العدوى معضدين الحكومة في تسكين سورة الأهلين مفاوضين الصحة في فتح المساجد وتعهدها بالنظافة فإن هذا يرتبط بهم أكثر مما يرتبط بوفد أعيان القاهرة جزاه الله خير الجزاء، فإن أعوزهم البيان وخلب القلوب بذلاقة اللسان، فلا أقل من أن يؤلفوا رسالة في فهم ما ورد متشابهًا في موضوع العدوى حتى يعلم الناس أن الوقاية من الداء مأمور بها شرعًا وعقلًا وسياسة فيكون كل فرد عارف عضدًا للحكومة ولو طلبوا من الصحة طبع ما ألفوا وتوزيعه على المصالح والنواحي للبت ذلك شاكرة وكان لهم الأثر النافع؛ هذا ما يقوله القوم في شأن علمائهم نرفعه إليهم ليكونوا
على بينة منه لأنهم لا يختلطون بالناس غالبًا إلا في الولائم والمآتم وإن اختلطوا فقلما يناقشونهم في شيء تحرزًا من حدتهم في المناقشة ورميهم مناظرهم لأول وهلة بالزيغ والزندقة فلذلك يجاملونهم ويوافقونهم خشية الهجر والمعاندة أما أنا فإني لا أزال ألح في طلب الجواب الشافي عن أصل دفع الوباء بقراءة الحديث وعن منح متن البخاري مزية لم يمنحها كتاب الله الذي نعتقد أنه متعبد بتلاوته دون الحديث، ولو كان هذا العمل من غير العلماء الرسميين لضربت عنهم وعن عملهم صفحًا ولما خططت كلمة ولكنه من علماء لهم مراكز رسمية يزاحمون بها مراكز الأمراء فيجب أن يؤبه لهم وأن ينظر لعملهم بإزاء مركزهم من الأمة التي يسألون عنها. والله ولي التوفيق.
هذا ما رأيته أثبته بحروفه وقد وقع منشئها بإمضاء "متصنع" ولو عرفنا اسمه لنسبناه إليه أداء للأمانة إلى أهلها وقد أطال وما أوجز ولو أنه ظفر بما جاء في كتاب الشفاء لإدواء الوباء للعلامة عصام الدين الطاشكبري الحنفي لكفاه فقد جاء بالمطلب السادس نقلًا عن السيوطي أن الدعاء برفع الطاعون والاجتماع له بدعة قال: لأنه وقع في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة يومئذ متوافرون وأكابرهم موجودون فلم ينقل عن أحد منهم أنه فعل شيئًا من ذلك ولا أمر به وكذا في القرن الثاني وفيه خيار التابعين وأتباعهم وكذا في القرن الثالث والرابع، وإنما حديث الدعاء برفعه في الزمن الأخير وذلك في سنة "749". انتهى وفيه فصل الخطاب وقد سلف لنا قبيل الباب السادس إيضاح ذلك مفصلًا وإنما أعدناه تأكيدًا وتقريرًا.
34-
صورة عريضة قدمت لمدير الأوقاف لأجل إصلاح مساجد:
قرأت في جريدة مصرية تسمى "الجريدة" في عددها "521" في صفحة "3" تحت عنوان "المساجد بالزنكلون" ما مثاله:
حالة المساجد عندنا تستذرف العبرات، وتثير الزفرات، وتلهب جذوة الحسرات، من سائر الطبقات. مع أنها مراشد المرشدين، ومعابد المتعبدين ومعاهد التذكير للمتقين، ومعالم الدين للمكلفين، وجوابع بني الإنسان من المسلمين؛ على اختلاف الأزياء، بحسب الفقر والإثراء. وإذا صح أن يقال إن حياة الأمم حياة لغاتها أفلا يكون أصح منه أن يقال إن حياة دين الفطرة حياة مساجد.
بالزنكلون مساجد شادها رجال كانوا إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا بالغة حد الاتقان ونهاية الإبداع في أيامهم تلك الأيام الخالية التي كانت فيها الكماليات لا تقوم الآن بأدنى الحاجيات.
وقد بلغت أرذل العمر وكادت تخر سقفها على الساجدين بها وأوشكت جدرانها أن تتصدع وتتقوض فضلًا عن كونها مأوى للحشرات فاسدة الهواء لا تصلح مرابط للأنيق في حين أن مصلحة الصحة العمومية تطارد أمثالها بالهدم -زيادة على ما هي عليه- دفعًا للمضرات وفي حين أن ريع وقفها الذي لا يقل عن الثلاثين فدانًا يكفي لتشييدها على القانون الهندسي العصري فلسان "الجريدة الغراء" التي لا يشوبها في خدمة الحق والإنسانية أدنى شائبة تستلفت أنظار سعادة الهمام الفاضل مدير الأوقاف الجديد إليها ونسأله رحمة بنا فقد ضاق الخناق وعيل الصبر وها نحن ننتظر بفارغ الصبر لمساجدنا بناء ولسعادة المدير شكرًا وثناء.
35-
فضول بعض العامة وخوضها فيما لا تحيط به علمًا:
"في إصلاح قبلة بعض الجوامع"
خوض العامي فيما لا يحيط به علما ولا تبلغه مداركه قد يجر على البلاد الويلات ويكون مدعاة لتضاؤل العلم والعلماء واتخاذهم التقية شعارًا في أغلب
الأحايين ومن ذلك لغط بعض العامة في مسألة علمية لا تبلغها مداركهم مهما حاولوا وقعت في أيامنا وذلك أن جامع المصلى تداعت أركانه فقام الناظر ورغب في أن يقوم منآده، بيد أنه لما رأى سمت القبلة منحرفًا بعض الانحراف كما أخبره بذلك بعض البارعين في علم الهيئة أحب أن يرفع الجدار القبلي طبق ما يدعو إليه العلم فثارت ثائرة بعض العامة تطلب إعادة القديم على شكله بدعوى أن هذا الجامع عمري وأن الصحابة ولت وجوهها شطر هذه القبلة على حين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقدم دمشق وغاية الأمر أنه وصل مرتين لمدينة الجابية -قاعدة حوران في عهده- الواحدة لفتح بيت المقدس عام "16" والأخرى لتجنيد وتمصير الأمصار عام "18" ومن العجيب أن مثل هذا الشغب وقع في عهد الإمام السبكي أيام توليه قضاء دمشق فقد ذكر في فتاويه الكبيرة أنه لما عرف كثرة انحراف جامع "جرّاح" تطوع جماعة من أهل الخير من أموالهم بما يعمر به ويجعل قبلته صحيحة فأراد أن يجعلها على الوضع الصحيح الذي تشهد له أدلة القبلة المسطورة في كتب أهل هذا العلم فبلغ أحد المتفقهة وبعض العوام إنكار ذلك فأوضح رحمه الله أن مثل هذه المباحث مردها إلى أهلها كما قال إمام الحرمين: قد ألف ذوو البصائر في ذلك كتبًا فتطلب أدلة القبلة من كتبهم. ثم قال السبكي أفلا يستحيي من ينكر الرجوع إليها بجهله وعدم اشتغاله وظنه أنه من أهل الفقه وأن الفقه يخالفها، أما يستحيي من الإنكار على العالمين بعلوم الشريعة وغيرها ومن ظنه أنه على الصواب دونهم، أما يستحيي الفريقان من الكلام فيما لم يحيطوا بعلمه ومن نسبتهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دخل دمشق ولم يدخل عمر بن الخطاب دمشق وإنما وصل إلى الجابية القرية التي بحوران. ثم قال: فمن يترك الأدلة المحققة وكلام العلماء في ذلك لمجرد هذه الأمور حقيق بأن لا يعبأ به: ثم أغرق الإمام السبكي في هذه المسألة وساق كلامًا مطولا عن إمام الحرمين والرافعي ثم قال: وجامع جراح إنما يقصد هدمه -يعني في زمانه- لإقامة القبلة على الحق فإذا هدم وجعل على القبلة التي يدل العلم عليها كان على الحق. ولا يجوز تضييع
أموال الناس ووضع محراب يعتقد -يعني علماء الهيئة- أنه على غير الصواب. ا. هـ. هذا والفتوى مطولة تضمنت فوائد جمة مراجعتها أوردنا خلاصتها في المجلد الثالث من كتابنا "تعطير المشام في مآثر دمشق الشام" وما يصح أن يقال عن جامع جراح من الأحكام يجوز أن يقضي بها على الجامع المجد اليوم، وقد عهد التروي في أمر القبلة في كل جامع أراد الملوك والأمراء إشادته فقد حكى السيوطي في "حسن المحاضرة" أن جامع عمرو في مصر وقف على قبلته ثمانون رجلًا من الصحابة وأن جامع أحمد بن طولون أحضر له فريق ممن لهم اليد الطولى في علم الهندسة. فليتدبر ذلك أولو الألباب.