الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: في مزارات مكة المشرفة
ثم قال رحمه الله بعد ما تقدم: ومما يبين هذا الأصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر هو وأبو بكر ذهبا إلى الغار الذي بجبل ثور، ولم يكن على طريقهما بالمدينة فإنه من ناحية اليمن، والمدينة من ناحية الشام، ولكن اختبأا فيه ثلاثة لينقطع خبرهما عن المشركين فلا يعرفون أين ذهبا فإن المشركين كانوا طالبين لهما وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته لمن يأتي به وكانوا يقصدون منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إلى أصحابه بالمدينة وأن لا يخرج من مكة، بل لما عجزوا عن قتله أرادوا حبسه بمكة فلو سلك الطريق ابتداء لأدركوه فأقام بالغار ثلاثًا لأجل ذلك فلو أراد المسافر من مكة إلى المدينة أن يذهب إلى الغار ثم يرجع لم يكن ذلك مستحبًّا بل مكروهًا والنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة سلك طريق الساحل لأنها كانت أبعد من قصد المشركين. ثم قال: ولم يكن أحد من الصحابة يذهب إلى الغار للزيارة والصلاة فيه، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أقاما به ثلاثا يصلون فيه الصلوات الخمس ولا كانوا أيضًا يذهبون إلى حراء وهو المكان الذي كان يتعبد فيه قبل النبوة وفيه نزل عليه الوحي أولا، وكان هذا مكانًا يتعبدون فيه قبل الإسلام فإن حراء أعلى جبل كان هناك فلما جاء الإسلام ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة مرات بعد أن أقام بها قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ومع هذا فلم يكن هو ولا أصحابه يذهبون إلى حراء. ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم أستلم الركنين اليمانيين
ولم يستلم الشاميين لأنهما لم يبنيا على قواعد إبراهيم فإن أكثر الحجر من البيت والحجر الأسود استلمه وقبله واليماني استلمه ولم يقبله وصلى بمقام إبراهيم ولم يستلمه ولم يقبله. فدل ذلك على أن التمسح بحيطان الكعبة غير الركنين اليمانيين وتقبيل شيء منها غير الحجر الأسود ليس بسنة ودل على أن استلام مقام إبراهيم وتقبيله ليس بسنة، وإذا كان هذا نفس الكعبة ونفس مقام إبراهيم فمعلوم أن جميع المساجد حرمتها دون الكعبة وأن مقام إبراهيم بالشام وغيرها وسائر مقامات الأنبياء دون المقام الذي قال الله فيه {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} فعلم أن سائر المقامات لا تقصد للصلاة فيها كما لا يحج إلى سائر المشاهد ولا يتمسح بها ولا يقبل شيء من مقامات الأنبياء ولا المساجد ولا الصخرة ولا غيرها ولا يقبل وجه الأرض إلا الحجر الأسود وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بمسجد مكة إلا المسجد الحرام ولم يأت للعبادات إلا إلى المشاعر منى ومزدلفة وعرفة. فلهذا كان ائمة العلماء على أنه لا يستحب أن يقصد مسجد بمكة للصلاة غير المسجد الحرام، ولا تقصد بقعة للزيارة غير المشاعر التي قصدها الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا كان هذا في آثارهم فكيف بالمقابر التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذها مساجد وأخبر أنهم شرار الخلق يوم القيامة. ودين الإسلام أنه لا تقصد بقعة للصلاة إلا أن تكون مسجدًا فقط ولهذا مشاعر الحج غير المسجد الحرام تقصد للنسك لا للصلاة فلا صلاة بعرفة، وإنما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر يوم عرفة بعرفة خطب بها ثم صلى ثم بعد الصلاة ذهب عرفات فوقف بها وكذلك يذكر الله ويدعى بعرفات وبمزدلفة على قزح وبالصفا والمروة وبين الجمرات وعند الرمي ولا تقصد هذه البقاع للصلاة. وأما غير المساجد ومشاعر الحج فلا تقصد بقعة لا للصلاة ولا للذكر ولا للدعاء بل يصلي المسلم حيث أدركته الصلاة إلا حيث نهي ويذكر الله ويدعوه حيث تيسر من غير تخصيص بقعة بذلك وإذا اتخذ بقعة لذلك كالمشاهد نهي عن ذلك كما نهي عن الصلاة في المقبرة إلا ما يفعله الرجل عند السلام على الميت من الدعاء له وللمسلمين كما يفعل مثل ذلك في الصلاة على الجنازة فإن زيارة قبر المؤمن من
جنس الصلاة على جنازته يفعل في هذا من جنس ما يفعل في هذا ويقصد بالدعاء هنا ما يقصد بالدعاء هنا. ومما يشبه لهذا أن الأنصار بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بالوادي الذي وراء جمرة العقبة؛ لأنه مكان منخفض قريب من منى يستر منى فيه فإن السبعين الأنصار كانوا قد حجوا مع قومهم المشركين، وما زال الناس يحجون إلى مكة قبل الإسلام وبعده فجاءوا مع قومهم إلى منى لأجل الحج ثم ذهبوا بالليل إلى ذلك المكان لقربه وستره لا لفضيلة فيه ولم يقصدوه لفضيلة تخصه بعينه، ولهذا لما حج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه لم يذهبوا إليه ولا زاروه، وقد بني هناك مسجد وهو محدث وكل مسجد بمكة وما حولها غير المسجد الحرام فهو محدث ومنى نفسها لم يكن بها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مسجد مبني، ولكن قال:"منى مناخ لمن سبق" 1 فتزل بها المسلمون. وكان يصلي بالمسلمين بمنى وغير منى وكذلك خلفاؤه من بعده واجتماع الحجاج بمنى أكثر من اجتماعهم بغيرها فإنهم يقيمون بها أربعًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون بالناس بمنى وغير منى وكانوا يقصرون الصلاة بمنى وعرفة ومزدلفة ويجمعون بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بمزدلفة ويصلي بصلاتهم جميع الحجاج من أهل مكة وغير أهل مكة كلهم يقصرون الصلاة بالمشاعر وكلهم يجمعون بعرفة ومزدلفة.
ثم قال: ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه بمكة صلاة عيد ولا صلى في أسفاره قط صلاة العيد، ولا كان أحد منهم يصلي بمكة يوم النحر صلاة عيد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بل عيدهم بمنى بعد إفاضتهم من المشعر الحرام ورمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لسائر أهل الأمصار:
ثم قال: وليس لأحد أن يشرع ما لم يشرعه الله كما لو قال قائل: أنا أستحب
1 قلت: حديث حسن، وقد صححه الترمذي والحاكم والذهبي، والصواب ما ذكرته، كما بينته في تخريج المشكاة رقم "2625" التخريج الثاني الطبعة الثانية إن شاء الله. وقد استوعبت في هذه المرة تخريج الأحاديث كلها وتحقيق الكلام عليها تصحيحًا وتضعيفًا يسر الله تعالى للمكتب الإسلامي طبعه للمرة الثانية بمنه وكرمه.
الطواف بالصخرة سبعًا كما يطاف بالكعبة أو أستحب أن اتخذ من مقام موسى وعيسى مصلى كما أمر الله أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، ونحو ذلك لم يكن له ذلك؛ لأن الله تعالى يختص ما يختصه من الأعيان والأفعال بأحكام تخصه يمتنع معها قياس غيره عليه؛ إما لمعنى يختص به لا يوجد بغيره على قول أكثر أهل العلم، وإما لمحض تخصيص المشيئة على قول بعضهم كما خص الكعبة بأن يحج إليها ويطاف بها، وكما خص عرفات بالوقوف بها، وكما خص منى برمي الجمار بها، وكما خص الأشهر الحرم بتحريمها، وكما خص شهر رمضان بصيامه وقيامه إلى أمثال ذلك.