الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْكُسُوفَاتِ، فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ السَّيَّارَةَ يَكْسِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَأَدْنَاهَا الْقَمَرُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَهُوَ يَكْسِفُ مَا فَوْقَهُ، وَعُطَارِدُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالزُّهَرَةُ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمَرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرِي فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّابِعَةِ.
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْكَوَاكِبِ وَهِيَ الثَّوَابِتُ فَفِي فَلَكٍ ثَامِنٍ يُسَمُّونَهُ فَلَكَ الثَّوَابِتِ، وَالْمُتَشَرِّعُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ هُوَ الْكُرْسِيُّ، وَالْفَلَكُ التَّاسِعُ وَهُوَ الْأَطْلَسُ وَالْأَثِيرُ عِنْدَهُمُ الَّذِي حَرَكَتُهُ عَلَى خِلَافِ حَرَكَةِ سَائِرِ الْأَفْلَاكِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَرَكَتَهُ مَبْدَأُ الْحَرَكَاتِ وَهِيَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَسَائِرُ الْأَفْلَاكِ عَكْسُهُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَمَعَهَا يَدُورُ سَائِرُ الْكَوَاكِبِ تَبَعًا وَلَكِنْ لِلسَّيَّارَةِ حَرَكَةٌ مُعَاكِسَةٌ لِحَرَكَةِ أَفْلَاكِهَا فَإِنَّهَا تَسِيرُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَكُّلٌ يَقْطَعُ فَلَكَهُ بِحَسْبِهِ، فَالْقَمَرُ يَقْطَعُ فَلَكَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، وَالشَّمْسُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَزُحَلُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ سَنَةً مَرَّةً، وَذَلِكَ بِحَسْبِ اتِّسَاعِ أَفْلَاكِهَا وَإِنْ كَانَتْ حركة الجميع فِي السُّرْعَةِ مُتَنَاسِبَةً، هَذَا مُلَخَّصُ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَسْنَا بِصَدَدِ بَيَانِهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أن الله سبحانه وتعالى خلق سبع سموات طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أَيْ فَاوَتَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِنَارَةِ فَجَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا أُنْمُوذَجًا عَلَى حِدَةٍ لِيُعْرَفَ اللَّيْلُ والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدر للقمر مَنَازِلَ وَبُرُوجًا وَفَاوَتَ نُورَهُ فَتَارَةً يَزْدَادُ حَتَّى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر لِيَدُلَّ عَلَى مُضِيِّ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] .
وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً هَذَا اسْمُ مصدر والإتيان به هاهنا أَحْسَنُ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أَيْ إِذَا مُتُّمْ وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعِيدُكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً أَيْ بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا وَقَرَّرَهَا وَثَبَّتَهَا بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ الشُّمِّ الشَّامِخَاتِ لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أَيْ خَلَقَهَا لَكُمْ لِتَسْتَقِرُّوا عَلَيْهَا وَتَسْلُكُوا فِيهَا أَيْنَ شِئْتُمْ مِنْ نَوَاحِيهَا وَأَرْجَائِهَا وَأَقْطَارِهَا، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُنَبِّهُهُمْ بِهِ نُوحٌ عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات وَالْأَرْضِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَنَافِعِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ جَعَلَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَالْأَرْضَ مِهَادًا وَأَوْسَعَ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ رِزْقِهِ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُوَحَّدَ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ أَحَدٌ لِأَنَّهُ لَا نظير له ولا عديل وَلَا نِدَّ وَلَا كُفْءَ، وَلَا صَاحِبَةَ وَلَا وَلَدَ وَلَا وَزِيرَ وَلَا مُشِيرَ بَلْ هُوَ العلي الكبير.
[سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 24]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَاّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَاّ ضَلالاً (24)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عليه السلام أَنَّهُ أَنْهَى إِلَيْهِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ، أَنَّهُ مَعَ الْبَيَانِ الْمُتَقَدِّمِ ذكره والدعوة المتنوعة المشتملة عَلَى التَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى أَنَّهُمْ عَصَوْهُ وخالفوه وكذبوه، وَاتَّبَعُوا أَبْنَاءَ الدُّنْيَا مِمَّنْ غَفَلَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَمُتِّعَ بِمَالٍ وَأَوْلَادٍ وَهِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اسْتِدْرَاجٌ وَإِنْظَارٌ لَا إِكْرَامٌ وَلِهَذَا قَالَ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً قُرِئَ وَوُلْدُهُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ وَكِلَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
وقوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً قَالَ مُجَاهِدٌ: كُبَّاراً أَيْ عَظِيمًا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
كُبَّاراً أَيْ كَبِيرًا وَالْعَرَبُ تَقُولُ أَمْرٌ عَجِيبٌ وَعُجَابٌ وَعُجَّابٌ، وَرَجُلٌ حُسَانٌ وَحُسَّانٌ وَجُمَالٌ وَجُمَّالٌ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ بِمَعْنًى واحد «1» ، والمعنى في قوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أَيْ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي تَسْوِيلِهِمْ لهم أنهم عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى كَمَا يَقُولُونَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً [سَبَأٍ: 33] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ: أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادَ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجُرُفِ عند سبأ، وأما يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحَمِيرَ لِآلِ ذِي كَلَاعٍ وَهِيَ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ عليه السلام، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ «2» . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ نَحْوُ هَذَا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذِهِ أَصْنَامٌ كَانَتْ تُعْبَدُ فِي زَمَنِ نُوحٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُوسَى عَنْ محمد بن قيس وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى الْعِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ فَعَبَدُوهُمْ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شِيثَ عليه السلام مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ قَالَ:
(1) انظر تفسير الطبري 12/ 253.
(2)
أخرجه البخاري في تفسير سورة 71.
(3)
تفسير الطبري 12/ 254.