الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قَالَ: مَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذِهِ الْحَالِ عَشْرَ سِنِينَ يَقُومُ اللَّيْلَ كَمَا أَمَرَهُ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أصحابه يقومون معه فأنزل الله تعالى عَلَيْهِ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فَخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ بِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ خفف الله تعالى عَنْهُمْ وَرَحِمَهُمْ فَأَنْزَلَ بَعْدَ هَذَا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ- إلى قوله تعالى- فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ فوسع الله تعالى وله الحمد ولم يضيق.
وقوله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أَيْ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِهِ وَانْقَطِعْ إِلَيْهِ وَتَفَرَّغْ لِعِبَادَتِهِ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَشْغَالِكَ وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ من أمور دنياك كما قال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشَّرْحِ: 7] أَيْ إِذَا فَرَغْتَ من أشغالك فَانْصَبْ فِي طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ لِتَكُونَ فَارِغَ الْبَالِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ بِمَعْنَاهُ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَعَطِيَّةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أَيْ أَخْلِصْ لَهُ العبادة، وقال الحسن: اجتهد وابتل إِلَيْهِ نَفْسَكَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : يُقَالُ لِلْعَابِدِ متبتل، ومنه الحديث المروي: نَهَى عَنِ التَّبَتُّلِ يَعْنِي الِانْقِطَاعَ إِلَى الْعِبَادَةِ وترك التزوج.
وقوله تَعَالَى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ في المشارق والمغارب الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَكَمَا أَفْرَدْتَهُ بِالْعِبَادَةِ فأفرده بالتوكل فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا كما قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هُودٍ: 123] وكقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4] وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا الْأَمْرُ بِإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَتَخْصِيصِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.
[سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 18]
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ سُفَهَاءِ قومه، وأن يهجرهم
(1) تفسير الطبري 12/ 279. [.....]
(2)
تفسير الطبري 12/ 286.
هَجْرًا جَمِيلًا وَهُوَ الَّذِي لَا عِتَابَ مَعَهُ ثم قال له متهددا لكفار قومه ومتوعدا، وَهُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ أَيْ دَعْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ الْمُتْرَفِينَ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَهُمْ يُطَالِبُونَ مِنَ الْحُقُوقِ بِمَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أَيْ رُوَيْدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لُقْمَانَ: 24]، وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَهِيَ الْقُيُودُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَطَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَأَبُو مجلز والضحاك وحماد بن أبي سليمان وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَجَحِيماً وَهِيَ السَّعِيرُ الْمُضْطَرِمَةُ وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْشَبُ فِي الْحَلْقِ فَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أَيْ تُزَلْزَلُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا أَيْ تَصِيرُ كَكُثْبَانِ الرَّمْلِ بَعْدَ مَا كَانَتْ حِجَارَةً صَمَّاءَ ثُمَّ إِنَّهَا تُنْسَفُ نَسْفًا فَلَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا ذَهَبَ حَتَّى تَصِيرَ الْأَرْضُ قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا أَيْ وَادِيًا وَلَا أَمْتًا أَيْ رَابِيَةً، وَمَعْنَاهُ لَا شَيْءَ يَنْخَفِضُ وَلَا شَيْءَ يَرْتَفِعُ.
ثم قال تعالى مُخَاطِبًا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْمُرَادُ سَائِرُ النَّاسِ: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ أَيْ بِأَعْمَالِكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ أَخْذاً وَبِيلًا أَيْ شَدِيدًا أَيْ فَاحْذَرُوا أَنْتُمْ أَنْ تُكَذِّبُوا هَذَا الرَّسُولَ فَيُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ فِرْعَوْنَ حَيْثُ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى [النَّازِعَاتِ: 25] وَأَنْتُمْ أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم، لِأَنَّ رَسُولَكُمْ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ.
وَقَوْلُهُ تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْماً مَعْمُولًا لِتَتَّقُونَ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَيْفَ تَخَافُونَ أَيُّهَا النَّاسُ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوَلَدَانَ شِيبًا إِنْ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ تُصَدِّقُوا بِهِ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِكَفَرْتُمْ فَعَلَى الْأَوَّلِ كَيْفَ يَحْصُلُ لَكُمْ أَمَانٌ مِنْ يَوْمِ هَذَا الْفَزَعِ الْعَظِيمِ إِنْ كَفَرْتُمْ، وَعَلَى الثَّانِي كَيْفَ يَحْصُلُ لَكُمْ تَقْوَى إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَحَدْتُمُوهُ، وَكِلَاهُمَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً أَيْ مِنْ شَدَّةِ أَهْوَالِهِ وَزَلَازِلِهِ وبلابله، وذلك حين يقول الله تعالى لآدم ابعث النَّارِ فَيَقُولُ مِنْ كَمْ. فَيَقُولُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً قَالَ: «ذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ قُمْ فَابْعَثْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعَثًا إِلَى النَّارِ، قَالَ مِنْ كَمْ يَا رَبِّ؟
قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَيَنْجُو وَاحِدٌ» فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَرَفَ ذَلِكَ