الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الرَّحْمَنِ: 7] وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أَيْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَهُوَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ، فَإِنَّ الَّذِي جَاءُوا بِهِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ حَقٌّ كَمَا قَالَ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الْأَنْعَامِ: 115] أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ إِذَا تَبَوَّءُوا غُرَفَ الْجَنَّاتِ، وَالْمَنَازِلَ الْعَالِيَاتِ، وَالسُّرُرَ الْمَصْفُوفَاتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الْأَعْرَافِ: 43] .
وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أَيْ وَجَعَلْنَا الْحَدِيدَ رَادِعًا لِمَنْ أَبَى الْحَقَّ وَعَانَدَهُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً تُوحَى إِلَيْهِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ، وَكُلُّهَا جِدَالٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيَانٌ وَإِيضَاحٌ لِلتَّوْحِيدِ وبينات ودلالات، فَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ خَالَفَ، شَرَعَ اللَّهُ الْهِجْرَةَ وَأَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ بِالسُّيُوفِ وَضَرْبِ الرِّقَابِ وَالْهَامِ لِمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَكَذَّبَ بِهِ وَعَانَدَهُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي الْمُنِيبِ الْجُرَشِيِّ الشَّامِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجَعَلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» «1» وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يَعْنِي السِّلَاحَ كَالسُّيُوفِ وَالْحِرَابِ وَالسِّنَانِ وَالنِّصَالَ وَالدُّرُوعِ وَنَحْوِهَا وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أَيْ فِي مَعَايِشِهِمْ كَالسِّكَّةِ وَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْشَارِ وَالْإِزْمِيلِ وَالْمِجْرَفَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحِرَاثَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ، وَمَا لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِدُونِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ علباء بن أحمد عن عكرمة عن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ نَزَلَتْ مَعَ آدم: السندان والكلبتان والميقعة يعني المطرقة، ورواه ابن جرير «2» وابن أبي حاتم، وقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أَيْ مَنْ نِيَّتُهُ فِي حَمْلِ السِّلَاحِ نُصْرَةُ اللَّهِ وَرُسُلِهِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أَيْ هُوَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ يَنْصُرُ مَنْ نَصَرَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ مِنْهُ إِلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا شَرَعَ الْجِهَادَ ليبلو بعضكم ببعض.
[سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَاّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مُنْذُ بَعَثَ نُوحًا عليه السلام لَمْ يُرْسِلْ بَعْدَهُ رَسُولًا وَلَا نَبِيًّا إِلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وكذلك
(1) أخرجه أبو داود في اللباس باب 4، وأحمد في المسند 2/ 50.
(2)
تفسير الطبري 11/ 689.
إِبْرَاهِيمُ عليه السلام خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، لَمْ يُنْزِلْ مِنَ السَّمَاءِ كِتَابًا وَلَا أَرْسَلَ رَسُولًا وَلَا أَوْحَى إِلَى بَشَرٍ مِنْ بَعْدِهِ إِلَّا وَهُوَ من سلالته، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [العنكبوت: 27] حَتَّى كَانَ آخِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الَّذِي بَشَّرَ مِنْ بَعْدِهِ بِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهم الحواريون رَأْفَةً أي رقة وَهِيَ الْخَشْيَةُ وَرَحْمَةً بِالْخَلْقِ. وَقَوْلُهُ:
وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها أي ابتدعها أُمَّةُ النَّصَارَى مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أَيْ مَا شَرَعْنَاهَا لَهُمْ وَإِنَّمَا هُمُ الْتَزَمُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أنفسهم.
وقوله تعالى: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فِيهِ قَوْلَانِ [أَحَدُهُمَا] أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ. [وَالْآخَرُ]- مَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ إِنَّمَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله. وقوله تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أَيْ فَمَا قَامُوا بِمَا الْتَزَمُوهُ حَقَّ الْقِيَامِ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ [أَحَدُهُمَا]- فِي الِابْتِدَاعِ فِي دِينِ الله ما لم يأمر به الله و [الثاني]- فِي عَدَمِ قِيَامِهِمْ بِمَا الْتَزَمُوهُ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ قُرْبَةٌ يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ أَبُو يَعْقُوبَ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا السِّنْدِيُّ بْنُ عَبْدَوَيْهِ، حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؟ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا إِلَّا ثَلَاثُ فِرَقٍ، قَامَتْ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ بَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام، فَدَعَتْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَقَاتَلَتِ الْجَبَابِرَةَ فَقُتِّلَتْ فَصَبَرَتْ وَنَجَتْ، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لَهَا قُوَّةٌ بِالْقِتَالِ، فَقَامَتْ بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ فَدَعَوْا إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقُتِّلَتْ وَقُطِّعَتْ بِالْمَنَاشِيرِ وَحُرِّقَتْ بِالنِّيرَانِ فَصَبَرَتْ وَنَجَتْ، ثُمَّ قَامَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ لَهَا قُوَّةٌ بِالْقِتَالِ وَلَمْ تُطِقِ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» .
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «1» بِلَفْظٍ آخَرَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، حَدَّثَنَا الصَّعِقُ بْنُ حَزْنٍ، حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ الْجَعْدِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلنَا عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً نَجَا مِنْهُمْ ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ» وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ «فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَصَدَّقُونِي وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَهُمُ الذين كذبوني
(1) تفسير الطبري 11/ 691. [.....]
وَخَالَفُونِي» وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذِهِ الْمُتَابَعَةِ لِحَالِ دَاوُدَ بْنِ الْمُحَبَّرِ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْوَضَّاعِينَ لِلْحَدِيثِ، لكن قد أسنده أَبُو يَعْلَى عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ عَنْ الصَّعِقِ بْنِ حَزْنٍ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَقَوِيَ الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ مُلُوكٌ بَعْدَ عِيسَى عليه السلام بَدَّلَتِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ فَكَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فَقِيلَ لِمُلُوكِهِمْ مَا نَجِدُ شَيْئًا أَشَدُّ مِنْ شَتْمٍ يشتموناه هَؤُلَاءِ إِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَةِ: 44] هَذِهِ الْآيَاتُ مَعَ مَا يَعِيبُونَنَا بِهِ مِنْ أَعْمَالِنَا فِي قِرَاءَتِهِمْ فَادْعُهُمْ فَلْيَقْرَءُوا كَمَا نَقْرَأُ وَلِيُؤْمِنُوا كَمَا آمَنَّا، فَدَعَاهُمْ فَجَمَعَهُمْ وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ أَوْ يَتْرُكُوا قِرَاءَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا مَا بَدَّلُوا مِنْهَا، فَقَالُوا:
مَا تُرِيدُونَ إِلَى ذَلِكَ دَعُونَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ: ابْنُوا لَنَا أُسْطُوَانَةً «2» ثُمَّ ارْفَعُونَا إِلَيْهَا ثُمَّ أَعْطُونَا شَيْئًا نَرْفَعُ بِهِ طَعَامَنَا وَشَرَابَنَا فَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دَعُونَا نَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَنَهِيمُ وَنَشْرَبُ كَمَا يَشْرَبُ الْوَحْشُ، فَإِنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْنَا فِي أَرْضِكُمْ فَاقْتُلُونَا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ابْنُوا لَنَا دُورًا فِي الْفَيَافِي وَنَحْتَفِرُ الْآبَارَ وَنَحْتَرِثُ الْبُقُولَ فَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ وَلَا نَمُرُّ بِكُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْقَبَائِلِ إِلَّا لَهُ حَمِيمٌ فِيهِمْ، فَفَعَلُوا ذلك، فأنزل الله تعالى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها.
وَالْآخَرُونَ قَالُوا: نَتَعَبَّدُ كَمَا تَعَبَّدَ فُلَانٌ وَنَسِيحُ كَمَا سَاحَ فُلَانٌ وَنَتَّخِذُ دُورًا كَمَا اتَّخَذَ فُلَانٌ، وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِإِيمَانِ الذين اقتدوا بهم، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ انْحَطَّ مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، وَجَاءَ سَائِحٌ مِنْ سِيَاحَتِهِ، وَصَاحِبُ الدَّيْرِ مِنْ دَيْرِهِ فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ فَقَالَ اللَّهُ عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم وتصديقهم بالتوراة وَالْإِنْجِيلِ، وَبِإِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَتَصْدِيقِهِمْ قَالَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ الْقُرْآنَ وَاتِّبَاعَهُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الَّذِينَ يَتَشَبَّهُونَ بِكُمْ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ هَذَا السِّيَاقُ فيه غرابة، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْعَمْيَاءِ أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَبَوْهُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِالْمَدِينَةِ زَمَانَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ أَمِيرٌ، وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها
(1) تفسير الطبري 11/ 690.
(2)
أسطوانة: أي منارة مرتفعة.