الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشريق، فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات فقال: أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجمىّ، ولا لعجمى على عربى، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلّغت، قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإيضاح
(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أي فإذا فرغتم من مناسك الحج ونفرتم فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.
ثم ذكر أن الذين يذكرونه فيدعونه قسمين:
1-
(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي فمن المسلمين فريق ممن يشهدون مواسم الحج، ممن لم تصل أسراره وحكمه إلى شغاف قلوبهم، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم، يكون جلّ اهتمامهم في ذكرهم ودعائهم حظ الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الأعداء إلى نحو ذلك من الحظوظ العاجلة، وهؤلاء لا حظ لهم في الآخرة مما أعده الله للمتقين من رضوانه، إذ هم وجهوا جلّ اهتمامهم لحظوظ الدنيا وعملوا لها جهد الطاقة، ولا يسألون ربهم إلا المزيد من نعيمها ولذاتها، وقد ينالونها بدون عناء ولا نصب في العمل كما قال تعالى:«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» .
2-
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أي ومنهم فريق يقول: ربنا هب لنا حياة طيبة سعيدة في الدنيا، وحياة راضية مرضية في الآخرة.
وطلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها التي دلت التجربة على نفعها
فى الكسب ونظم المعيشة وحسن معاشرة الناس والتخلق بآداب الشرع وأدب السلوك وما جرى عليه العرف من فضائل الصفات.
وطلب الحياة الحسنة في الآخرة يكون بالإيمان الخالص والعمل الصالح والتحلي بمكارم الأخلاق.
(وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي واحفظنا من الشهوات والذنوب التي تؤدى إليها، ويكون ذلك بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة، مع القيام بأداء الفرائض.
وفي الآية إيماء إلى أن الغلوّ في الدين والتشدد فيه مذموم خارج من سنن الفطرة، وقد نهى الله أهل الكتاب عنه وذمهم عليه، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم،
روى البخاري عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف، فقال له: هل كنت تدعو الله بشىء؟ قال: نعم كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبى به في الآخرة فعجّله لى في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه، فهلا قلت:(رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)
ودعا له فشفاه الله.
(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي أولئك الذين يطلبون سعادة الدارين، والحسنة في المنزلتين، يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم وسعيهم، فهم قد طلبوا الدنيا بأسبابها، وسعوا للآخرة سعيها فكان لهم حظ من كسبهم في الدارين على قدره.
وبمعنى الآية قوله: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» .
(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيوفى كل كاسب أجره عقب عمله، فقد جرت سنته أن يكون الجزاء أثرا للعمل بلا إبطاء، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطلاع كل عامل على عمله، ويتم ذلك في لحظة،
وقد روى أن الله يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وروي بمقدار لمحة البصر.
وبعد أن أمر بذكره عند المشعر الحرام وكانوا لا يذكرونه هناك، وأمر بذكره عند تمام قضاء المناسك بعد أيام منى حيث كانوا يذكرون مفاخر آبائهم، أمر بذكره فى أيام منى فقال:
(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) الأيام المعدودات هى أيام منى، وهى أيام التشريق الثلاثة من حادى عشر من ذى الحجة إلى ثالث عشر،
وقد روى أرباب السنن عن عبد الرّحمن بن يعمر قال: إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة فسألوه، فأمر مناديا ينادى «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع- مزدلفة- قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» .
وأردف رجلا ينادى بهن، أي أركب معه رجلا ينادى بهذه الكلمات، ليعرف الناس الحكم، وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر فيها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهى الليلة العاشرة من ذى الحجة فقد أدرك الحج، وأن أيام منى ثلاثة، وهى التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له، ومن تأخر إلى الثالث جاز له، بل هو الأفضل لأنه الأصل.
وبينت السنة أن ذكر الله في هذه الأيام هو التكبير في إدبار الصلوات، وعند ذبح القرابين، وعند رمى الجمار،
روى عن الفضل بن العباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع (مزدلفة) إلى منى، فلم يزل يلبّى حتى رمى جمرة العقبة،
وروى عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر بمنى تلك الأيام، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا.
والذكر في يوم عرفة ويوم النحر لغير الحاج التكبير، وللحاج هذا وغيره، والمأثور من التكبير، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا، ومن التلبية، لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لك، لا شريك لك.
(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) أي من
تعجل وطلب الخروج من منى في تمام يومين بعد يوم النحر واكتفى برمى الجمار فيهما ولم يمكث حتى يرمى الجمار في اليوم الثالث، فلا إثم عليه بهذا التعجيل، إذ المطلوب أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ويرمى كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمرة سبع حصيات (والجمرة جمعها جمار وجمرات وهى مجتمع الحصى) ورميها من ذكريات المناسك المأثورة عن إبراهيم عليه السلام كذبح القرابين وعامة أعمال الحج.
ومن لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني فعليه أن يبيت حتى يرمى اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده، ثم ينفر ولا إثم عليه بترك الترخيص.
وهذا التخيير ونفى الإثم عن المستعجل والمتأخر، إنما هو لمن اتقى الله وترك ما نهى عنه، لأنه هو الحاج على الحقيقة، فما الغرض من كل عبادة إلا التقوى كما قال:
«إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» .
والوسيلة إلى ذلك ذكر الله بالقلب واللسان ومراقبته في جميع الأحوال حتى يكون عبدا له لا لأهوائه وشهواته.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي واتقوا الله حين أدائكم مناسك الحج وفي جميع شئونكم واعلموا أنكم ستجمعون وتبعثون للجزاء على أعمالكم يوم القيامة، والعاقبة حينئذ لمن اتقى كما قال تعالى:«تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» .
ومن علم بأنه محاسب على أعماله مجازى عليها. كان ذلك باعثا له على العمل، وداعيا له إلى ملازمة التقوى، أما من كان على شك أو ظن فإنه يعمل تارة ويترك أخرى.
وقد كرر الأمر بالذكر وبين منزلة التقوى ليشعرنا بأن المهم في العبادة هو ذكر الله الذي يصلح النفس ويوجه القلب إلى عمل الخير، ويبعدها عن الشرور والمعاصي، فيكون فاعلها من المتقين.