الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة البقرة (2) : آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بالقتال في الآية السابقة دفاعا عن الحق، وكان ذلك يتوقف على بذل المال لتجهيز المقاتلة، والاستعداد للمدافعة، ولا سيما بعد أن ارتقت الفنون العسكرية، واحتاجت إلى علوم وصناعات كثيرة- حثّ هنا على بذل المال فيما يعين عليه، ويعلى شأن الدين، ويمنع عداوة المعتدين.
الإيضاح
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) حث سبحانه على الإنفاق في سبيل الله بهذا الأسلوب الذي يستفزّ النفوس ويبسط الأكف، إذ سماه قرضا لله، والله غنى عن العالمين، لعلمه بأن داعى البذل في المصالح العامة ضعيف في نفوس أكثر الناس والرغبة فيه قليلة، فإنك لترى أن الغنى يبذل فضل ماله لأفراد يعيش بينهم، إما لاتقاء شر حسده، وإما لارتفاع مكانته في النفوس، وإما لجلب محبتهم إياه كما قال:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
…
فطالما استعبد الإنسان إحسان
ولا سيما إذا كان البذل لذوى القربي، فحظ النفس فيه أظهر، إذ يتعذر على الإنسان أن يكون ناعم البال بين أهل الضر والبؤس، سعيدا بين الأشقياء والمعوزين.
أما البدل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته، وحفظ حقوقه، فليس فيه شىء من حظوظ النفس التي تسهل عليها مفارقة ما تحبه وهو المال، إلا إذا كان تبرعا جهريا يتولاه الحكام والملوك.
من قبل هذا احتاج الأمر إلى المبالغة في الترغيب، فإنك لا تقول: من ذا الذي
يفعل كذا إلا في الأمر العظيم الذي يندر أن يقدم عليه أحد، لأنه عظيم أو شاقّ قلّ من يتصدى له كما جاء في قوله:«مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ» وقوله:
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» .
والقرض الحسن هو ما حل محله ووافق المصلحة، لا ما قصد به الرياء والسمعة، نعم إن ما أنفق في المصالح العامة حسن وإن أريد به الشهرة، لكنه لا يدل على ثقة المنفق بربه، وابتغائه مرضاته، ولا على حبه للخير لذاته، فلا يكون له حظ من نفقته يقرّبه إلى ربه.
والخلاصة- إنه لا يكون القرض حسنا إلا إذا وضع موضعه، مع البصر بوجه الحاجة وحسن النية، ليكون فيه منفعة للمسلمين من الطريق الذي شرعه الإسلام (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) الأضعاف واحدها ضعف، وهو مثل الشيء في المقدار يزاد عليه، وقد عبر عن البذل في سبيله ابتغاء مرضاته بالقرض الحسن، وهذا يقتضى أنه لا يضيع منه شىء عند الله، ثم عبر ثانيا بالجزاء عليه أضعافا مضاعفة، زيادة فى الترغيب والحث عليه.
وهذه الأضعاف الكثيرة التي جاء في بعض الآيات أنها تبلغ سبعمائة ضعف (والمراد من ذلك) تكون في الدنيا والآخرة.
ذاك أن المنفق لإعلاء كلمة الله، ولتعزيز الأمة، والدفاع عن الحق، إنما يدافع عن نفسه، ويحفظ حقوقها، فضعف الأمة وضياع حقوقها لا يكون إلا بما يقع على أفرادها من البلاء والعسف والظلم- إلى أن بذل الأغنياء لأموالهم، وقيامهم بفريضة التعاون، وكفالة الغنى للفقير، وحماية القوىّ للضعيف- مما يوسع المرافق على الأمة ويوفر لها السعادة ويديم لأفرادها النعمة، ما بقوا على هذه السنة، واستقاموا على هذا النهج القويم ثم هم بذلك يستحقون سعادة الآخرة ومضاعفة الثواب، ورضوان الله «ورضوان من الله أكبر» .
(وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) يقبض أي يقتر ويضيق، ويبسط أي يوسع أي والله يقتر على بعض الناس لجهلهم بسنن الله في كسب المال، وعدم نهوضهم للسعى فى مناكب الأرض بحسب الأوضاع التي شرعها الله لعباده في هذه الحياة، ويبسط الرزق لآخرين، لأنهم ساروا على النواميس التي تقتضيها طبيعة الحياة، واتخذوا الأسباب التي توصل من سلكها إلى نتائجها المحتومة كما أرشدت إلى ذلك الفطرة وسنة الوجود.
ولو شاء أن يغنى فقيرا، أو يفقر غنيا لفعل، فإن الأمر كله له، وبيده القبض والبسط، فحضّ الأغنياء على مؤازرة الفقراء لم يكن من حاجة له، أو عجز منه، بل هداية منه لعباده، ليشكروه على تلك النعم فيزيدهم منها كما قال:«لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» وبذلك يبلغ النوع الإنسانى كماله الاجتماعى الذي أعده له بحكمته حتى يحقق معنى الخلافة في الأرض ويعمرها على أحسن الوجوه، وأفضل الحالات.
ثم بين مصير الخلق ومجازاتهم على أعمالهم من خير أو شر، وفيه وعد ووعيد فقال:
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) والرجوع إلى الله ضربان:
(1)
رجوع في هذه الحياة بالسير على سننه الحكيمة، ونظمه في الخليقة، بأن يعرف المرء أن الغنى يكون بعمل العامل وتوفيق الله وتسخيره، وأن البذل من فضل الله يأتي بالمنافع الخاصة للباذل، وبالمنافع العامة لقومه الذين يعتز بهم ويسعد بسعادتهم، وأن تركه يعقبه مفاسد ومضار عامة وخاصة للأمم والأفراد، وأنه لا يستقل بعمله مهما أوتي من رجاحة عقل، بل له حاجة إلى معونة الله وتوفيقه بتسخير الأسباب له.
(2)
رجوع في الآخرة حين تظهر للمرء نتائج أعماله وآثار أفعاله «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .