الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
خرج المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم للنسك عام الحديبية، فصدهم المشركون وقاتلوهم رميا بالسهام والحجارة في شهر ذى القعدة سنة ست، ثم صالحوهم على أن يرجعوا إلى مكة في العام القابل، ولما خرجوا في ذلك العام لعمرة القضاء كرهوا قتال المشركين وإن اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام، فبيّن الله لهم أن المحظور في الأشهر الحرم هو العدوان بالقتال لا المدافعة عن النفس، وأن المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين فعلوا ما هو أشد قبحا من القتل بتأييدهم للشرك ومنعهم للحق.
الإيضاح
(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي الشهر الحرام يقابل بذلك الشهر الحرام، وهتك حرمته بهتك حرمته، فلا تبالوا بالقتال فيه إذا اضطررتم للدفاع عن دينكم وإعلاء كلمته.
(وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أي يجب مقاصة المشركين على انتهاك حرمة الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل، ليكون شهر بشهر جزاء وفاقا، فهم قد انتهكوا حرمة شهركم بالصدّ عن البيت الحرام وفيه تعرّض للقتال، فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليهم مكة عنوة وقهرا، فإن منعوكم في هذه السنة عن قضاء العمرة وقاتلوكم فاقتلوهم.
ثم ذكر نتيجة لما سبق وأيد الحكم السابق بقوله:
(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أي إن الاعتداء المحظور ما كان ابتداء، أما ما كان على سبيل القصاص فهو اعتداء مأذون فيه.
وبهذه الآية استدل الشافعي على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به، فيذبح إذا ذبح ويخنق إذا خنق، ويغرق إذا أغرق وهكذا.
وفي الآية أيضا إيماء إلى أن قتال الأعداء كقتال المجرمين بلا هوادة ولا تقصير،
فمن يقاتل بالقذائف النارية أو بالمدافع أو بالغازات السامة يقاتل بمثلها حتى يمتنع عن الظلم والعدوان، والفتنة والاضطهاد، ويوجد الأمان والاطمئنان بين الناس.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي واحذروا أن تعتدوا بما لم يرخص لكم فيه، واعلموا أن الله مع المتقين بالمعونة والتأييد، والنصر والتمكين، والغلبة لهم على أعدائهم تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته.
ثم أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالأنفس فقال:
(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وابذلوا المال في وسائل الدفاع عن بيضة الدين، فاشتروا السلاح والكراع وعدد الحرب التي لعدوكم مثلها إن لم تزيدوا عليه حتى لا يكون له الغلب عليكم، وإلى هذا أشار بقوله:
(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أي إنكم إن لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال وإعداد للعدّة فقد أهلكتم أنفسكم.
روى أن أبا أيوب الأنصاري قال: فينا معشر الأنصار نزلت هذه الآية، إنه لما أعزّ الله دينه، ونصر رسوله همس بعضنا في أذن بعض، إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه ما يردّ علينا ما قلنا (وَأَنْفِقُوا) الآية فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو، رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم فى جماعة آخرين.
والخلاصة- إن المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين، وهم من الكثرة بحيث يخشى شرّهم، فلو انصرف المؤمنون عن الاستعداد للجهاد إلى تثمير الأموال لأوقعوا بهم، فيكونون حينئذ قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة.
(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي وأحسنوا كل أعمالكم وجوّدوها ولا تهملوا إتقان شىء منها، ويدخل ذلك التطوع بالإنفاق في سبيل الله لنشر دعوة الدين
وقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصدر الأوّل كان دفاعا عن الحقّ وأهله وحماية دعوة الدين، فكانوا يبدءون أولا بالدعوة بالحجة والبرهان، فإذا منعوا بالقوّة وهدّد الداعي أو قتل قاتلوا حماية للدعاة ونشرا للدعوة، لا للإكراه على الدخول فى الدين، إذ ذاك منهى عنه بنحو قوله تعالى:«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» .
فإذا لم يوجد من يصدّ الدعوة أو يهدد الدعاة ويعتدى على المؤمنين، فلا يفرض علينا الجهاد لسفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولا للطمع في الغنائم والأنفال.
وجملة القول: إن القتال شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدّعى من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيى الدعوة الإسلامية ويعدّ لها عدّتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان.
ولم يشهد التاريخ أمة قوية رحيمة بالضعفاء في فتوحها كالأمة العربية، كما اعترف بذلك المنصفون من الإفرنج، فقد قال جوستاف لو بون الفيلسوف الفرنسى: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، وما يتجنّى به أعداء الإسلام من دعواهم أن الإسلام قام بالسيف، فقول يكذبه التاريخ ولا يؤيده من ينظر إلى الأمور بعين الإنصاف ويدع الهوى وراءه ظهريا.