الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى اللعنة لا يخفف عنهم من العذاب شيء ولا يقبل منهم فدية ولا تنفعهم شفاعة.
وهنا ذكر أن شارع الدين واحد لا معبود سواه، ولا ينبغى أن تكتم هدايته للبشر وهو مفيض الرحمة والإحسان، ليتذكر أولئك الذين يكتمون البينات، المؤثرون آراء رؤسائهم وأحبارهم، ثقة بهم، واعتمادا على شفاعتهم، إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا وإنهم مخطئون في كتمان الحق ومعاداة أهله.
الإيضاح
(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي وإلهكم الحقيق بالعبادة إله واحد، فلا تشركوا به أحدا.
والشرك به ضربان:
(1)
شرك في الألوهية والعبادة، بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصدّه عن بعض، فيتوجه إليه في الدعاء عند ما يتوجه إلى الله، ويدعوه معه، أو يدعوه من دون الله، ليكشف عنه ضرا أو يجلب له نفعا.
(2)
شرك به في الربوبية، بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير كتبه ووحيه الذي بلّغه عنه الرسل، استنادا إلى أن من يؤخذ عنهم الدين، هم أعلم بمراد الله، وهذا هو المراد بقوله تعالى:
«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .
فواجب علماء الدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه، لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، كما فعل من قبلهم من أهل الكتب المنزلة، حين زادوا على الوحى أحكاما كثيرة من تلقاء أنفسهم، وخالفوا ما نزل بتأويلات وتعسفات بعيدة عن روح الدين وسرّه.
والله هو الرّحمن الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فحسب المرء أن يرجوها
ولا يعتمد على رحمة سواه، ممن يظن أنهم مقربون إليه، إذ كل ما يعتمد عليه من دونه فليس أهلا للاعتماد عليه، بل الاعتماد عليه من قبيل الشرك.
والإله الذي بيده أزمّة المنافع، والقادر على دفع المضارّ، واحد لا سلطان لأحد على إرادته، ولا مبدل لكلماته، ولا أوسع من رحمته.
وإنما ذكر الوحدة والرحمة دون غيرهما من صفاته، لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق، بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده.
ثم ذكر- عزت قدرته- بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته لتكون برهانا على ما ذكر في الآية قبلها فقال:
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» الآية.
وهذه الظواهر والآيات ضروب منوّعة:
1-
السموات التي تتألف أجرامها من طوائف، لكل طائفة منها نظام محكم وللمجموع نظام واحد، يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، والحكمة والتدبير، وأقرب تلك الطوائف إلينا المجموعة الشمسية التي تفيض شمسها على أرضنا أنوارها، فتكون سببا في حياة الحيوان والنبات، ويتبعها جملة كواكب تختلف مقاديرها وأبعادها، استقر كل منها في مداره، وحفظت النسبة بين بعضها وبعض بسنة إلهية محكمة يعبرون عنها بالجاذبية، ولولا ذلك لتفلتت هذه الكواكب السابحة فى أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم جميعا.
وفي كل شىء له آية
…
تدلّ على أنه واحد
2-
الأرض، ففى جرمها ومادتها وشكلها والعوالم المختلفة التي عليها من الجماد والنبات والحيوان، وفي منافعهما المختلفة باختلاف أنواعها، ما يدل على إبداع.
الحكيم العليم «وفي الأرض آيات للموقنين» .
3-
(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبهما بمجىء أحدهما وذهاب الآخر واختلافهما في الطول والقصر باختلاف الأقطار والبلدان ومواقع الطول والعرض واختلاف الفصول، وفي ذلك من المنافع والمصالح للناس آيات بينات دالة على وحدة مبدع هذا النظام ورحمته بعباده، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم في آيات أخرى فقال:«وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا» وقال أيضا: «وهو الّذى جعل اللّيل والنّهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورا» .
4-
(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) الفلك اسم للسفينة الواحدة وللكثير.
ودلالتها على الوحدانية يحتاج إلى معرفة طبيعة الماء وقانون الثقل في الأجسام، وطبيعة الهواء والريح والبخار والكهرباء التي هى العمدة في سير السفن الكبرى فى هذا العصر.
وكل ذلك يجرى على سنن مطردة تدل على أنها صادرة عن قوة بديعة النظام، هى قوة الإله الواحد العليم، كما قال:«وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» .
ودلالتها على الرحمة قد بينه سبحانه بقوله «بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» أي ينفعهم في أسفارهم وتجارتهم، فهى تحمل أصناف المتاجر من صقع إلى صقع، ومن قطر إلى آخر، فتجعل العالم كله مشتركا في المطاعم والمشارب والملابس وأصناف الأدوية وغيرها.
وجاءت هذه المنة عقب اختلاف الليل والنهار لاحتياج المسافرين إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، ومن احتياج ربابنة السفن إلى معرفة علم النجوم (الجغرافية الفلكية) ومن ثم قال تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» .
5-
(وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) وقد وصف الله تعالى في آية آخري كيف ينزل المطر قال: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» وهذا الوصف الموجز هو ما بينه العلماء بقولهم: إن المطر يتوالد من تصاعد بخار الماء بوساطة حرارة الهواء التي تنشأ في مياه البحار من احتكاك بعض ذراتها ببعض، ومن احتكاك الهواء بسطح البحر، وحين تصعد في الجو تتكاثف وتتكون سحبا يسقط الماء من خلالها وينزل إلى الأرض لثقله.
(فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي وبهذا الماء تحدث حياة الأرض بالنبات، وبه أمكن معيشة الحيوان على سطحها، وهذا هو الإحياء الأول الذي أشير إليه بقوله في آية أخرى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» أي ان السموات والأرض كانتا مادة واحدة متصلا بعض أجزائها بيعض ففتقناهما فانفصل جرم الأرض من جرم السماء وصارت الأرض قطعة مستقلة ملتهبة وكانت مادة الماء (الأوكسجين والإيدروجين) تبخر من الأرض فتلاقى في الجو طبقة باردة تحيلها سحابا فتنزل على الأرض فتبرد حرارتها، وما زالت هذه حالها حتى صارت كلها ماء، وتكونت بعد ذلك الأرض اليابسة وحرج النبات وعاش الحيوان.
وأما الإحياء المستمر المشاهد في جميع بقاع الأرض فهو المشار إليه بقوله:
«وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فكل أرض لا ينزل عليها المطر ولا تجرى فيها المياه من الأرضين الممطورة تكون خالية من النبات والحيوان.
فنزول الماء على هذا النحو المشاهد، وكونه سببا في حياة الحيوان والنبات من أعظم الأدلة على وحدانية المبدع، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع يدل على الرحمة الإلهية الشاملة.
6-
(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي توجيه الرياح وتصريفها بحسب الإرادة ووفق النظام على السنن الحكيمة، فمنها الملقحة للنبات كما قال تعالى:«وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ» ومنها العقيم، وهى في الأغلب تهب من جهة من الجهات الأربع، وقد تكون متناوحة: أي تهب من كل ناحية، وتارة تأتى نكباء بين بين، يدل على وحدة مصدرها ورحمة مدبرها.
7-
(وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي الغيم الذي ذلل وسحب فى الجواء لإنزال الأمطار في مختلف البلاد، وتكوّن بنظام، واعترض بين السماء والأرض بحسب السنة الإلهية في اجتماع الأجسام اللطيفة وافتراقها وعلوها وهبوطها، مما يدهش لرؤيته الناظر قبل أن يألفه ويأنس به.
(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي في كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر في الأسباب، ليدرك الحكم والأسرار، ويميز بين النافع والضار، ويستدل بما فيها من الإتقان والإحكام، على قدرة مبدعها وحكمته، وعظيم رحمته، وأنه المستحق للعبادة دون غيره من خلقه.
وفي الحديث «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها»
للج: قذف الريق ونحوه من الفم، والمراد عدم الاعتبار والاعتداد بها، إذ من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه.
وقال بعض العلماء: إن لله كتابين كتابا مخلوقا هو الكون، وكتابا منزلا هو القرآن، ويرشدنا هذا إلى طرق العلم بذاك، بما أوتيناه من العقل، فمن اعتبر بهما فاز، ومن أعرض عنهما خسر الدنيا والآخرة.