الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجواب قبل الحاجة إليه، والجواب المعدّ أقطع لحجة الخصم، وقد قالوا في أمثالهم «قبل الرمي يراش السهم» وليكون الوقوع بعد الإخبار به معجزة له صلى الله عليه وسلم.
ويتضمن هذا الجواب سرّا من أسرار الدين كان أهل الكتاب في غفلة عنه وجهل به، وهى أن الجهات كلها لله، فلا فضل لجهة على أخرى، فلله أن يأمر بالتوجه إلى أىّ جهة منها ويجعلها قبلة، وعلى العبد أن يمتثل أمر ربه «ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله» .
الإيضاح
(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟) أي سيقول الذين خفّت أحلامهم، وامتهنوا عقولهم بالتقليد والإعراض عن النظر، والتأمل من المنكرين تغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين على جهة الإنكار والتعجب: أىّ شىء جرى لهؤلاء المسلمين، فصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهى قبلة النبيين والمرسلين من قبلهم؟
(قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي أجبهم بأن الجهات كلها لله، فليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في جوهرها، وليس فيها من المنافع ما لا يوجد في غيرها، وكذلك الكعبة والبيت الحرام، وإنما يجعل الله تعالى للناس قبلة، لتكون جامعة لهم فى عبادتهم، لكن سفهاء الأحلام يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هى الصخرة المعيّنة أو البناء المعين، وقد بلغ الأمر باليهود أن قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم:
ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك، وما أرادوا بذلك إلا فتنته صلى الله عليه وسلم والطعن فى الدين، ببيان أن كلا من التوجه إليها والانصراف عنها، حدث بلا داع يدعو إليه، حتى قالوا: إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، وليرجعنّ إلى دينهم أيضا.
(يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي يرشد الله من يشاء إرشاده وهدايته إلى
الطريق القويم الموصل لسعادة الدارين، ويلهمهم ما فيه الخير لهم، وهو تارة يكون فى التوجه إلى بيت المقدس، وأخرى في التوجه إلى الكعبة.
(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي وقد جعلنا المسلمين خيارا وعدولا، لأنهم وسط فليسوا من أرباب الغلوّ في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرّطين.
وقد كان الناس قبل الإسلام قسمين: مادّى لا همّ له إلا الحظوظ الجثمانية كاليهود والمشركين، وقسم تحكمت فيه تقاليده الروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمية، كالنصارى والصابئة وطوائف من وثنى الهنود أصحاب الرياضات.
فجاء الإسلام جامعا بين الحقّين حق الروح وحق الجسم، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية، فالإنسان جسم وروح، وإن شئت فقل: الإنسان حيوان وملك، فكماله بإعطائه الحقين معا.
(لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي لتشهدوا على الماديين الذين فرّطوا في جنب الله، وأخلدوا إلى اللذات: وحرموا أنفسهم من المزايا الروحية، وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وتشهدوا على من غلا في الدين وتخلّى عن جميع اللذات الجثمانية وعذب جسمه، وهضم حقوق نفسه، وحرمها من جميع ما أعده الله لها فى هذه الحياة، فخرجوا بها عن جادة الاعتدال، وجنى على روحه بجنايته على جسمه.
تشهدون على هؤلاء وهؤلاء وتكونون سباقين للأمم جميعا باعتدالكم وتوسطكم فى جميع شئونكم، وذلك هو منتهى الكمال الإنسانى الذي يعطى كل ذى حق حقه، فيؤدى حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه، وحقوق ذوى القربى وحقوق الناس جميعا.
(وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) إذ هو المثل الأعلى لمرتبة الوسط، فنحن إنما نستحق هذا الوصف إذا اتبعنا سيرته وشريعته، وهو الذي يحكم على من اتبعها، ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أخرى، وانحرف عن الجادّة وحينئذ يكون الرسول
بدينه وسيرته حجة عليه، بأنه ليس من أمته التي وصفها الله في كتابه بقوله:«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين.
(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) أي وما جعلنا القبلة فيما مضى هى الجهة التي كنت عليها إلى اليوم، ثم أمرناك بالتحول عنها إلى الكعبة إلا ليتبين الثابت على إيمانه ممن لا ثبات له، فهو عرضة لرياح الشبهات، تطير به وتغدو وتروح.
والخلاصة- إن الله يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين، وريب المرتابين، فيثبت من فقه الدين وعرف سره وحكمته، وتتخطف الشبهات والشكوك من أخذ الدين تقليدا من غير فقه ولا عرفان، وهكذا سبحانه يختبر ما في القلوب بما يبتلى به الناس من الفتن كما قال:«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» .
وقد جاء في الكتاب الكريم (لنعلم- وليعلم) وعلم الله تعالى قديم لا يتجدد، ومن ثم قال العلماء: المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع، ذاك أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت، ويترتب على ذلك الجزاء من ثواب وعقاب.
(وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أي وكانت القبلة المحوّلة شاقة ثقيلة على من ألف التوجه إلى القبلة الأولى، فإن الإنسان ألوف لما يتعوده ويثقل عليه الانتقال منه، إلا على الذين هداهم الله بمعرفة أحكام دينه وسر تشريعه، فعلموا أن التعبد باستقبالها إنما يكون بطاعة الله بها، لا بسرّ في ذاتها أو مكانها، وأن الحكمة في اختيار قبلة ما، هو اجتماع الأمة عليها، وهو من أسباب اتحادهم وجمع كلمتهم.