الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتربص: الانتظار، والقروء: واحدها قرء (بضم القاف وفتحها) يطلق تارة على حيض المرأة وأخرى على طهرها، ومن ثم قال الحنفية والحنابلة المراد به الحيض، وقال المالكية. والشافعية المراد به الطهر، وما في أرحامهنّ يشمل الولد والحيض والبعولة واحدهم بعل وهو الزوج، والمراد بالدرجة هنا ما جاء في قوله:«الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ» .
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة أن المولى إما أن يفىء ويرجع إلى معاشرة زوجه، وإما أن يعقد العزم على الطلاق بترك القربان- ناسب أن يذكر بعدئذ شيئا من أحكام الطلاق ليكون كالتتمة لما سبق.
الإيضاح
(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي وحرائر النساء اللاتي يطلقن وهنّ من ذوات الحيض، فلسن يائسات انقطع عنهنّ الحيض، ولا صغيرات لم يصلن إلى سن الحيض- ينتظرن ثلاث حيض بعد الطلاق حتى يتزوّجن، ليظهر أنهنّ غير حوامل.
وفي قوله بأنفسهنّ إشارة إلى أنه يجب عليهنّ أن يملكن رغبتهنّ في الزواج.
ويكبتن جماح شهواتهنّ إلى إتمام تلك المدة وإلى أن هذه الرغبة مما تنطوى عليها نفوس النساء، وإلى أنهنّ يستطعن امتلاكها والتربص اختيارا.
إلى ما في هذا من التعظيم والتبجيل لهنّ إذ لم يؤمرن بذلك أمرا صريحا.
ثم بين سبحانه حكمة هذا التربص بالزواج ضمن حكم آخر فقال:
(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) أي ولا يحل للنساء أن يكتمن ما خلق الله في الأرحام من ولد إذا علمن به، أو حيض ليطلن عدتهنّ، وقد فشا ذلك الآن في المطلقات اللاتي لا يجدن الأزواج، لأن القضاة يفرضون لهنّ النفقة ما دمن في العدة، فهنّ يكتمن الحيض جهد المستطاع استدامة لهذه النفقة،
وقد جرت المحاكم الآن على أن تكون أقصى العدة سنة قمرية كما هو رأى للإمام مالك رضى الله عنه.
وكانت المرأة في الجاهلية تتزوج أحيانا بعد فراق رجل ثم يظهر أنها حبلى من الأول، فتلحق الولد بالثاني، فلما جاء الإسلام حرّم هذا لما فيه من ضروب الغش والبهتان بنفي الولد عن قوم هو منهم وإلحاقه بمن ليس منهم، وأمر أن تعتد بعد فراق زوجها لتظهر براءة الرحم من الحمل.
(إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إذا كن صادقات في الإيمان بالله الذي أنزل الحرام والحلال لمصلحة عباده، وباليوم الآخر الذي يجازى فيه كل عامل على ما عمل، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ، إذ التصديق بأن في اتباع هذا المثوبة والرضوان، وفي تركه الشقاء والخسران، يقتضى الامتثال مع التعظيم والإجلال، ولا يخفى ما في هذا من التهديد الشديد والوعيد.
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) أي إن بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى العصمة الأولى في مدة العدة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة، أما إذا قصد من المراجعة مضارتها ومنعها من التزوج حتى تكون كالمعلقة، فلا هو يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى، ولا يمكّنها من التزوج بغيره، فهو آثم بينه وبين ربه بهذه المراجعة.
والخلاصة- إنه لا يباح للرجل أن يردّ مطلقته إلى عصمته إلا إذا أراد إصلاح ذات البين، ونية المعاشرة بالمعروف وإنما كان أحق بردها، لأنه بعد الطلاق قلّما يرغب فيها الرجال، ولأنه قد يندم على طلاقها، ويرغب في مراجعتها، ولا سيما إذا أنجبا أولادا فتتغلب عاطفة تربيتهم وكفالتهم بين الزوجين على عاطفة الغضب العارضة، وهذا الطلاق الذي يملك فيه الرجل حق المراجعة ما دامت المرأة في العدة يسمى طلاقا رجعيا، ولا يحتاج فيه الرجل إلى رأي
المرأة وإذنها- وسيأتى ذكر الطلاق البائن الذي لا تحل مراجعة المطلقة بعده إلا بعقد جديد برضا الزوجة أو الزواج بغيره.
ولما كانت إرادة الإصلاح بردّ المرأة إلى العصمة، إنما تؤتى ثمرها إذا قام كل منهما بالحقوق التي ينبغي عليه أن يؤديها، ذكر ذلك سبحانه بعبارة هى على إيجازها تعتبر دستورا في معاملة كل من الزوجين للآخر- وهو مساواة الرجل للمرأة في سائر الحقوق إلا أمرا واحدا فقال:
(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي إن للرجل حقوقا وعليه واجبات يؤديها للمرأة، وللمرأة مثل ذلك.
بيان هذا أن الحقوق والواجبات التي على كل منهما للآخر موكولة إلى اصطلاح الناس في معاملاتهم وما يجرى عليه العرف بينهم، وتابعة لشرائعهم وآدابهم وعاداتهم، فإذا طلب الرجل منها شيئا تذكر أنه يجب عليه شىء آخر بإزائه، ومن ثم أثر عن ابن عباس أنه قال: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لى لهذه الآية.
والمراد بالمماثلة أن الحقوق بينهما متبادلة متكافئة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متساويان في الشعور والإحساس والعقل، فليس من العدل ولا من المصلحة أن يتحكم أحد الجنسين في الآخر ويستذله، لأن الحياة المشتركة بينهما لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه.
وهذه الحقوق أجملها النبي صلى الله عليه وسلم فيما قضى به بين بنته وصهره، فقضى على ابنته بخدمة البيت، وعلى علىّ بما كان في خارجه من الأعمال.
وهذا ما تحكم به الفطرة في توزيع الأعمال بين الزوجين، فعلى المرأة تدبير شئون المنزل والقيام بحوائج المعيشة، وعلى الرجل السعى والكسب في خارجه، وهذا لا يمنع من استعانة كل منهما بالخدم والأجراء حين الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه، كما لا يمنع من مساعدة كل منهما للآخر في عمله حين الضرورة، يرشد إلى ذلك
قوله تعالى: «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ» .
والخلاصة- إن الإسلام رفع النساء إلى درجة لم يرفعهنّ إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع الماضية، بل لم تصل إليها أمة من الأمم التي بلغت شأوا بعيدا فى الحضارة والمدنية، فهى وإن بالغت في تكريم النساء واحترامهنّ وتعليمهنّ العلوم والفنون، لا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من التصرف في مالها بدون إذن زوجها.
وقد أعطى الإسلام هذه الحقوق للمرأة منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، وكانت فى أوربا من نحو مائة سنة تعامل معاملة الرقيق كما كانت في الجاهلية، أو أسوأ منها حالا.
ومن العجب العاجب أن الفرنجة الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن المرأة، يفخرون علينا ويرموننا بالوحشية في معاملتها مدّعين أن ذلك هو أثر التعاليم الدينية، ولكن لهم بعض العذر في ذلك بما يرون عليه المسلمين في معاملتهم للنساء بحكم العادة والجهل بفقه الشريعة وعدم النظر إلى ما كان عليه الصدر الأول من المسلمين في معاملتهن.
وأما الدرجة التي للرجال عليهن فهي الرياسة، والقيام على المصالح كما فسرتها الآية:«الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» .
فالحياة الزوجية حياة اجتماعية تقتضى وجود رئيس يرجع إليه حين اختلاف الآراء والرغبات، حتى لا يعمل كل ضدّ الآخر، فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختلّ النظام، والرجل هو الأحق بهذه الرياسة، لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوّته وماله، ومن ثم كان هو المطالب بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هى المطالبة بطاعته فيما لا يحرّم حلالا، ولا يحلل حراما، فإن نشزت عن طاعته كان له حق تأديبها
بالوعظ والهجر في المضاجع، والضرب غير المبرّح، كما يجوز مثله لقائد الجيش وللسلطان لمصلحة الجماعة.
أما الاعتداء عليها للتشفى من الغيظ أو لمجرد التحكم فهو ظلم لا يقره الدين بحال كما
ورد فى الحديث عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهى مسئولة عن رعيتها» .
ولا شكّ أن من موجبات هذه الرياسة التي للرجال أن يعلموهنّ ما يمكنهن من القيام بما يجب عليهن من الواجبات، ومعرفة ما لهن من الحقوق، ويعلموهن عقائد الدين وآدابه، وما يجب عليهن لتربية أولادهن، ومعاملتهن للناس.
ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فتمريض المرضى ومداواة الجرحى كان فيما مضى أمرا سهلا، لكنه الآن يحتاج إلى تعلم علوم وفنون متعددة وتربية خاصة فتحت لأجلها مدارس تعدّ لها.
وأي الأمرين أفضل في نظر الدين والعقل، أتمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض أم اتخاذ ممرّضة أجنبية تطّلع على ما لا يحل لها أن تنظر إليه إلا للضرورة، وتنكشف على مخبآت بيته؟
وهل تستطيع أن تفعل ذلك إذا كانت جاهلة بالقوانين الصحية غير عارفة بأسماء الأدوية؟ وهل يمكن الأم الجاهلة أن تعلم أولادها شيئا نافعا لهم قبل ذهابهم إلى المدرسة؟
أو هى تحشو أدمغتهم بخرافات وأوهام تسىء إليهم في مستأنف حياتهم عند ما يصيرون رجالا في المجتمع، ولله درّ حافظ إبراهيم حين يقول:
الأمّ مدرسة إذا أعددتها
…
أعددت شعبا طيب الأعراق
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فمن عزته وحكمته أن أعطى المرأة من الحقوق مثل ما أعطى الرجل بعد أن كانت كالمتاع لدى جميع الأمم، وفي اعتبار كل الشرائع، وأن أعطى الرجل حق الرياسة عليها، ومن لم يرض بهذا يكن منازعا لله في عزّته وسلطانه،