الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) كان المشركون وأهل الكتاب قبل مجىء الإسلام فرقا وأصنافا، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة عند العرب، وبعض الحيوان عند غيرهم، وكان الشائع لدى النصارى أن أقرب القربات تعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات، واحتقار الجسد وما يلزمه، وأن الله لا يرضى إلا بإحياء الروح، وافتنّوا في الحرمان من الطيبات، فمنها ما خصصوه بالقديسين أو الرهبان والقسيسين، ومنها ما هو عام كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصوم كصوم العذراء والقديسين، والحرمان من السمك واللبن والبيض في بعض آخر منها.
وكل هذه الأحكام وضعها الرؤساء، ولا وجود لها في التوراة، ولا نقلت عن المسيح عليه السلام، ولكن نقلوها عن الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات، اعتقادا منهم أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بتعذيب النفس وترك حظوظ الجسد.
وقد جعل الله هذه الأمة وسطا تعطى الجسد حقه والروح حقه، فأحل لنا الطيبات وأمرنا بالشكر عليها، ولم يجعلنا جثمانيين خلّصا كالأنعام، ولا روحانيين خلصا كالملائكة بل جعلنا أناسىّ كملة.
وقصارى ذلك- إن الله أباح لنا أن نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نمتنع عنه تدينا ولا تعذيبا للنفس ولا نحرم بعضا ونحل بعضا تقليدا للرؤساء ووساوس الشياطين.
وأمرنا بشكره على خلقها لنا وتيسر أسباب الحصول عليها، ونهانا أن نجعل له ندّا نطلب منه الرزق، أو نرجع إليه في التحليل والتحريم، وإلا كنا مشركين به، كافرين لنعمه، كما فعل من اتخذ وسطاء بينه وبين ربه، يطلب منهم الرزق، ويشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه الله.
وبعد أن ذكر إباحة الطيبات، بين ما حرم من الأطعمة فقال:
(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي إنه تعالى حرم الميتة لما يتوقع من ضررها، لأنها إما أن تكون قد ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة، وكلاهما لا يؤمن ضرره، ولأن الطباع تستقذرها.
(والدم) أي الدم المسفوح، لأنه قذر وضارّ كالميتة.
(وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) لأنه ضار ولا سيما في البلاد الحارة كما دلت على ذلك التجربة.
(وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) أي وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه لصم وغيره مما يعبد من دون الله، لأنه من أعمال الوثنية، وفيه إشراك واعتماد على غير الله، وقد نص الفقهاء على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم، ومثل ذلك ما يفعله العامة في القرى إذ يقولون عند الذبح: باسم الله الله أكبر، يا سيد يا بدوي، يريدون بذلك أن يتقبل منهم النذر ويقضى حاجة صاحبه.
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي فمن ألجئ إلى أكل شىء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه، ولم يكن راغبا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون كما أن من أكل مما أهلّ به لغير الله مضطرا، لم يقصد إجازة عمل الوثنية.
ولا استحسانه.
وإنما ذكر قوله: غير باغ ولا عاد، لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا وكل إليهم تحديده، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر، وجعل الضرورة تقدر بقدرها.