الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبثا لمبدأ التكافل العام في الأسرة الإسلامية، لتصلح جميع أعضائها وتكون كالبدن السليم، لا يشتكى منه عضو من الأعضاء، فيؤدى كل عضو وظيفته في الحياة، ويعمل العمل الذي هيئ له بمقتضى النظام العام.
قفى ذلك بذكر القتال وبذل النفس لإعلاء دين الله وجعل كلمته العليا وكلمة الكفر هى السفلى ونشر النور الإسلامى في أرجاء المعمورة لهدى الخلق ومعرفتهم للحق.
ومن البين أن المال أخو الروح، فالصلة بينهما وثيقة، فناسب ذكر آيات القتال بعد ذكر أحكام الصدقة على النحو الذي عرفت.
الإيضاح
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي فرض عليكم قتال الكفار فرض كفاية إذا قام به جماعة كفى ولم يلزم الباقين، إلا إذا دخل العدوّ بلاد المسلمين فاتحا فيكون فرض عين.
وقوله: وهو كره لكم أي شاقّ عليكم تنفر منه الطباع لما فيه من بذل المال وخطر هلاك النفس، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافى الرضا بما يكلف به الإنسان كالمريض يشرب الدواء المرّ البشع الذي تعافه نفسه لما يرى فيه من منافع في العاقبة.
وهذه أول آية فرض فيها القتال، وكان ذلك في السنة الثانية للهجرة، وقد كان القتال محظورا على النبي صلى الله عليه وسلم مدة إقامته في مكة، فلما هاجر إلى المدينة أذن له فى قتال من يقاتله من المشركين بقوله:«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» ثم أذن له فى قتال المشركين عامة، ثم فرض الجهاد.
(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) أي إن من الأشياء المكروهة طبعا ما يفعله الإنسان لما يرجو فيه من نفع وخير فيما بعد، فقد يتحمل الإنسان أخطار الأسفار لتحصيل الربح في التجارة، ويتحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة في الدنيا والعقبى.
كذلك من الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضرر والأذى في نفسه، أو من جهة منازعة الناس له فيه، وهكذا الحال في ترك الجهاد فإنه يصون النفس عن خطر القتل ويصون المال عن الإنفاق منه حالا، لكن فيه مفاسد ومضار مآلا كتسليط الكفار على بلاد المسلمين وأموالهم واستباحة حريمهم، وقد يكون في ذلك القضاء عليهم، وكفى بذلك خسرانا مبينا.
إلى أن في الجهاد الظفر بالغنائم، والفرح بالاستيلاء على بلاد العدوّ، وحفظ بيضة الإسلام، وترغيب الناس في الدخول فيه، وإعلاء كلمة الحق، والثواب في الآخرة، ومرضاة الله «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» .
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إذا تصوّرتم قصور علمكم وكمال علم ربكم علمتم أنه تعالى لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم، فعليكم أن تمتثلوا وإن كرهته نفوسكم، فاشتغلوا بطاعة الله، ولا تلتفتوا إلى مقتضى طباعكم وما تهواه قلوبكم.
وقال بعض المفسرين: المراد بذلك أن المسلمين رأوا أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به، فخافوا أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه، فأبان لهم سبحانه أن سنته قد جرت بأن ينصر الحقّ وحزبه على الباطل وأهله ما استمسكوا به ودعوا إليه ودافعوا عنه، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغرى به أعداءه، ويطمعهم بالتنكيل بحزبه والتألّب عليه للإيقاع به.
وقد سبق في علم الله أنه لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم كما قال:«كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» وقد علم الله هذا فأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه، وستجدون صدق هذا في امتثال أمره، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه.
وبعد أن ذكر أن القتال كتب على هذه الأمة بين مسألة سألوا عنها، وهى القتال فى الشهر الحرام فقال:
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، إذ اختلج في صدورهم أن الأمر به في غير الشهر الحرام والمسجد الحرام، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، أيحلّ لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أولا؟ ويؤيده ما
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمته في ثمانية من المهاجرين في جمادى الآخرة قبل وقعة بدر بشهرين، ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو ابن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها تجارة من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام وهو الشهر الذي يأمن فيه الخائف، ويسعى الناس فيه إلى معايشهم.
ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: والله ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين ولم يأخذ منها شيئا، ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، ندموا على ما فعلوا وظنوا أن قد هلكوا فنزلت الآية، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العير وعزل منها الخمس وقسم الباقي بين أصحاب السريّة وفدى الأسيرين.
(قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي إن أىّ قتال فيه وإن كان صغيرا في نفسه أمر كبير مستنكر الوقوع لعظيم حرمته، وأن ما فعله عبد الله بن جحش وما يفعله المسلمون فيما بعد من القتال فيه، مبنىّ على قاعدة ارتكاب أخفّ الضررين إذا لم يكن من أحدهما بدّ، فالقتال في نفسه أمر كبير وجرم عظيم، ولكنه ارتكب لإزالة ما هو أعظم منه، وذلك ما ذكره تعالى بقوله:
(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) أي إنّ منع المشركين للمؤمنين عن الطريق الذي يوصل إلى الله تعالى، وهو الإسلام باضطهادهم للمسلمين، وفتنتهم عن دينهم بقتلهم من يسلم تارة، وإيذائه في نفسه وأهله وماله ومنعه من الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة أخرى، ومنعهم المسلمين عن
المسجد الحرام في الحج والعمرة، وإخراجهم أهله منه، وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون، وكفرهم بالله تعالى- كل جريمة من هذه الجرائم التي يرتكبها المشركون أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، فما بالك بها وقد اجتمعت معا.
ثم ذكر عزّ اسمه السبب الذي من أجله شرع القتال، وهى فتنة المؤمنين عن دينهم فقال:
(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم كما فعلوا بعمار بن ياسر وبلال وخبّاب بن الأرتّ وغيرهم، فقد عذبوا عمارا بالكيّ بالنار ليرجع عن دينه، وعذّب أبوه وأخوه وأمه، فمرّ بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، ومات ياسر في العذاب، وطعنت أمه بحربة في موضع عفتها فماتت، وكان أمية بن خلف يعذب بلالا بالجوع والعطش ليلة ويوما، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء (الرمل المحمى بحرارة الشمس) ويضع على ظهره صخرة عظيمة ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى، فيأبي ذلك وتهون عليه نفسه في سبيل الحفاظ على دينه.
وما امتنع منهم إلا من له عصبة من قومه، على أنه لم يسلم من أذاهم ذوو العصبيات فقد آدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعوا سلا الجزور (الكرش المملوء بالفرث) على ظهره وهو يصلى حتى نحّته عنه فاطمة رضى الله عنها، وتعرّضوا له بضروب أخرى من الإيذاء وقاه الله شرّها كما قال تعالى:«إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» .
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وكثر عددهم صاروا يقاتلونهم في مهجرهم لفتنتهم فى الدين إن استطاعوا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) أي إن هؤلاء لا همّ لهم إلا منع الإسلام عن الانتشار في الأرض، لاستحكام عداوتهم وحرصهم على فتنتكم فانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة طمع في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة
عن الإسلام إذا كان وحده، فكيف إذا اقترن به غيره من الآثام كالصدّ عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، والكفر بالله، والاعتداء بالقتال.
وفي قوله إن استطاعوا استبعاد لاستطاعتهم، وشك في حصولها، وتنبيه إلى سخف عقولهم، وكون فعلهم هذا عبثا لا يوصل إلى غرض، لأن من عرف الإسلام معرفة صحيحة لا يرجع عنه إلى الكفر، وهكذا حال الكافرين في كل عصر ومصر يقاتلوننا ليردونا عن ديننا إن استطاعوا.
ثم عاقبة من يتأثر بهذه الفتنة فيرتد عن دينه فقال:
(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ومن يرجع منكم عن الإسلام إلى الكفر، ويمت على هذه الحال- بطلت أعماله حتى كأنه لم يعمل صالحا قط، لأن قلبه قد أظلم فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة الماضية، ويخسر الدنيا والآخرة، أما خسارة الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة، إذ يقتل عند الظفر به، ولا يستحق موالاة المسلمين ولا نصرتهم، وتبين منه زوجته، ويحرم الميراث، وأما خسارة الآخرة فيكفى في بيانها قوله:(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) .
والردة تارة تحصل بالقول كإنكار شىء مما علم من الدين قطعا، وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحا بالدين كالسجود للشمس والصنم والاستهانة بالمصحف ونحو ذلك.
وظاهر الآية يدل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر، وبه أخذ الشافعي، ورأى أبو حنيفة أن الردة تحبط العمل حتى ولو رجع صاحبها إلى الإسلام تمسكا بعموم قوله تعالى:«وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وقوله:
«وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» .
ولما ذكر حال المشركين وحكم المرتدين، بين جزاء المؤمنين المهاجرين والمجاهدين فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ)