المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القضاء النافذ في كل شيء، من غير مشاركة فيه لغيره، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: القضاء النافذ في كل شيء، من غير مشاركة فيه لغيره،

القضاء النافذ في كل شيء، من غير مشاركة فيه لغيره، فلا معقب لحكمه، ولا راد لفضله، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير {وَإِلَيْهِ} لا إلى غيره {تُرْجَعُونَ} بالبعث من القبور يوم القيامة، فيجزي كل عامل جزاء عمله، إن خيرًا وإن شرًا، ولا يخفى عليه منهم خافية.

ويقال (1): ثمانية أشياء تعم الخلق كلهم: الموت، والحشر، وقراءة الكتاب، والميزان، والحساب، والصراط، والسؤال، والجزاء، فظهر أن الحكم النافذ بيد الله تعالى، ولو كان شيء منه في يد الخلق لمنعوا عن أنفسهم الموت، ودفعوا ملاقاة الأعمال في الحشر، وطريق النجاة التسليم والرضى، والرجوع إلى الله تعالى بالاختيار، فإنه إذا رجع العبد إلى الله تعالى بالاختيار لم يلق عنده شدة، بخلاف ما إذا رجع بالاضطرار، ومن علامات الرجوع إلى الله إصلاح السر والعلانية، والحمد له على كل حال، فإن الجزع والاضطراب من الجهل بمبدأ الأمر ومبديه، وليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله هو المبتلي، وقيل في الضراء والسراء: لا إله إلا هو، والتوحيد أفضل الطاعات، وخير الأذكار والحسنات، وصورته منجية، فكيف بمعناه.

وروي: أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: "يا موسى لا تسأل منى الغنى فإنك لا تجده، وكل خلق مفتقر إلي، وأنا الغني، ولا تسأل علم الغيب، فإنه لا يعلم الغيب غيري، ولا تسألني أن أكف لسان الخلق عنك، فإني خلقتهم ورزقتهم وأُميتهم وأُحييهم، وهم يذكرونني بالسوء، ولم أكف لسانهم عني، ولا أكف لسانهم عنك، ولا تسأل البقاء، فإنك لا تجده، وأنا الدائم الباقي".

‌71

- {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين من أهل مكة وغيرهم {أَرَأَيْتُمْ} أي: أخبروني، عبر عن الإخبار بالرؤية؛ لأنها سببه؛ أي: أخبروني أيها القوم {جَعَلَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} ؛ أي: دائمًا مستمرًا لا نهار معه

(1) روح البيان.

ص: 259

من السرد، وهو المتابعة والاطراد، والميم زائدة، وقيل: إن ميمه أصلية ووزنه فعلل، لا فعمل، وهو الظاهر، وقدم ذكر الليل على ذكر النهار؛ لأن ذهاب الليل بطلوع الشميس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل، كذا في "برهان القرآن"؛ أي: دائمًا مستمرًا {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بإسكان الشمس تحت الأرض، أو تحريكها حول الأفق الغائر (1){مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} صفة لإله.

{يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} صفة أخرى له، عليها يدور أمر التبكيت والإلزام، قصد انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة؛ أي: أيُّ معبود غير الله سبحانه يأتيكم بضياء النهار، فتستضيئون به، ولم يقل (2) هل إله، فذكر بمن لإيراد الإلزام على زعمهم أن غيره آلهة، وفي هذا الأسلوب من التقريع والتبكيت والإلزام ما لا يخفى، وأتى بضياء (3)، وهو نور الشمس، ولم يجيء التركيب بنهار تتصرفون فيه، كما جاء بليل تسكنون فيه؛ لأن منافع الضياء متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} ؛ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده.

بيَّن لهم سبحانه أنه مهد لهم أسباب المعيشة، ليقوموا بشكر النعمة، فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلًا دائمًا إلى يوم القيامة لم يتمكنوا فيه من الحركة فيه، وطلب ما لا بد لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم والمشارب والملابس، ثم امتن عليهم فقال:{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} ؛ أي: هل لكم إله من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء؛ أي: بنور تطلبون فيه المعيشة، وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه، وتصلح به ثماركم وتزهو عنده زرائعكم، وتعيش فيه دوابكم، وعن ابن كثير (4):{بضئاء} بهمزتين.

(1) الغائر، أي: الغير المرئي وليس تحت الأرض بالكلية حتى يكون تكرارًا. اهـ شهاب.

(2)

روح البيان.

(3)

البحر المحيط.

(4)

البيضاوي.

ص: 260