المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بالفرائض البدنية والمالية، كالهجرة من الأوطان والجهاد في سبيل الله، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: بالفرائض البدنية والمالية، كالهجرة من الأوطان والجهاد في سبيل الله،

بالفرائض البدنية والمالية، كالهجرة من الأوطان والجهاد في سبيل الله، ودفع الزكاة للفقراء والمحتاجين، وإغاثة البائسين والملهوفين.

‌3

- ثم ذكر ما هو كالتسلية لهم، بما نال من قبلهم بالمشاق، فقال:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} متصل بأحسب، أو بلا يفتنون؛ أي: وعزتي وجلالي لقد اختبرنا الأمم الذين من قبل هذه الأمة من الأنبياء، وأتباعهم؛ أي: ولقد اختبرنا الأمم السالفة من الأنبياء وأتباعهم، وأصبناهم بضروب من البأساء والضراء، فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ، فابتلينا بني إسرائيل بفرعون وقومه، وأصابهم منه البلاء العظيم، والجهد الشديد. وابتلينا من آمن بعيسى بمن كذبه وتولى عنه، لا جرم ليصيبن أتباعك أذى شديد وجهد عظيم، ممن خالفهم وناصبهم العداء؛ أي (1): هذه سنة الله في عباده، وأنه يختبر مؤمن هذه الأمة، كما اختبر من قبلهم من الأمم، كما جاء به القرآن في غير موضع من قصص الأنبياء، وما وقع مع قومه من المحن، وما اختبر الله به أتباعهم.

روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال:"قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشي بأمشاط الحديد، لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"، وعن أبي سعيد الخدري، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يوعك، فوضعت عليه يدي، فوجدت حره بين يدي فوف اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك؟ قال:"إنا كذلك يضعّف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر"، قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء". قلت: ثم من؟ قال: "ثم الصالحون، إن أحدهم كان ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها"

(1) الشوكاني.

ص: 339

- يمزقها - وإن أحدهم كان ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء"، ونحو الآية قوله:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} .

{فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} سبحانه وتعالى بالامتحان {الَّذِينَ صَدَقُوا} في قولهم آمنا {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} منهم في ذلك، ومعنى (1): علمه تعالى: وهو عالم بذلك، فيما لم يزل أن يعلمه موجودًا عند وجوده، كما علمه قبل وجوده أنه يوجد، والمعنى (2): وليتميزن الصادق منهم من الكاذب، والمعنى: فوالله ليتعلقن علمه تعالى بالامتحان، تعلقًا حاليًا، يتميز به الذين صدقوا في الإيمان بالله، والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب، ويرتب عليهم أجزيتهم من الثواب والعقاب، ولذلك قيل المعنى: ليميزن أو ليجازين يعني: أن بعضهم فسر العلم بالتمييز والمجازاة على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب، فإن المراد بالعلم تعلقه الحالي الذي هو سبب لهما.

قال ابن عطاء: يتبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء، وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الرخاء، وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين، اهـ.

واعلم: أن البلاء كالملح، يصلح وجود الإنسان بإذن الله تعالى، كما أن الملح يصلح الطعام، وإذا أحب الله عبدًا جعله للبلاء عرضًا - أي: هَدَفًا - وكل محنة مقدمة لراحة، ولكل شدة نتيجة شريفة.

أي: وليظهرن الله سبحانه (3)، الصادقين منهم في إيمانهم من الكاذبين، بما يشبه الامتحان والاختبار، وليجازين كلا بما يستحق.

وخلاصة ما سلف: اْيها الناس، لا تظنوا أني خلقتكم سدًى، بل خلقتكم لترقوا إلى عالم أعظم من عالمكم، وأرقى منه في كل شؤونه، ولا يتم ذلك إلا

(1) النسفي.

(2)

روح البيان.

(3)

المراغي.

ص: 340