الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعنى (1): أي أعبادة ما تشركون أيها الناس بربكم - مع أنه لا يضر ولا ينفع - خير أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرًا للإنسان والدواب، وجعل في أوساطها أنهارًا تنتفعون بها في شربكم وسقي أنعامكم ومزارعكم، وجعل فيها ثوابت الجبال حتى لا تميد بكم، وحتى تنتفعوا بما فيها من المعادن المختلفة، وقد أنزل الماء على شواهقها، وجعل بين المياه العذبة والملحة حاجزًا يمنعهما من الاختلاط، حتى لا يفسد هذا بذاك، والحكمة تقضي ببقاء كل منهما على حاله، فالعذبة لسقي الناس. والحيوان والنبات والثمار، والملحة تكون مصادر للأمطار التي تجري منها، وكذلك هي وسيلة لإصلاح الهواء.
{أَإِلَهٌ} أي: هل معبود آخر كائن {مَعَ اللَّهِ} سبحانه في الوجود، أو في إبداع هذه الكائنات، وإيجاد هذه الموجودات، يعني ليس معه غيره، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}؛ أي: بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون شيئًا من الأشياء، ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره، أو لا يعلمون قدر عظمة الله تعالى، وما عليهم من ضر في إشراكهم غيره به، وما لهم من نفع في إفرادهم إياه بالألوهية، وإخلاصهم العبادة له، وبراءتهم من كل معبود سواه.
62
- ثم زادهم توبيخًا من وجه ثالث فقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} ؛ أي: بل أمن (2) يجيب دعوة المضطر المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة، وقيل: المضرور بالحاجة المحوجة من مرض أو نازلة من نوازل الدهر، يعني: إذا نزلت بأحد نازلة بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله تعالى، وقيل: هو المذنب إذا استغفر، واللام (3) في المضطر للجنس لا للاستغراق، فلا يلزم منه إجابة كل مضطر، فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك، بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه، وإلا فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطر
(1) المراغي.
(2)
الخازن.
(3)
الشوكاني.
إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه.
والحكمة في إجابة دعاء المضطر: أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص، وقطع النظر عما سوى الله تعالى، فقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين، وإن كانوا كافرين، فقال:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وقال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} فأجابهم عند ضرورتهم وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم.
والمضطر من الاضطرار إفتعال من الضرورة، وهي الحالة المحوجة إلى اللجاء، والمضطر الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجاء إلى الله والتضرع إليه تعالى؛ أي: بل أمن يجيب دعاء المضطر المكروب {إِذَا دَعَاهُ} ذلك المضطر إلى كشف ما به من الضرر، والضمير المنصوب راجع إلى {مَنْ} الموصولة التي أريد بها الله سبحانه، والمستتر الفاعل يعود على المضطر.
وقوله: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} معطوف على الصلة عطف تفسير، و {إِذَا} مجردة عن معنى الشرط؛ أي: أمن يجيب الملجأ إلى ضيق من الأمر {وَيَكْشِفُ} ؛ أي: يزيل عنه {السُّوءَ} والضر الذي نزل به خير أم الذي يشركون به من الأصنام؟ وقال (1) بعضهم: فصل بين الإجابة وكشف السوء، فالإجابة بالقول والكشف بالطول، والإجابة بالكلام، والكشف بالإنعام، ودعاء المضطر لا حجاب له، ودعاء المظلوم لا مرد له، ولكل أجل كتاب اهـ.
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} أي: سكانها؛ أي: يجعلكم خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن كان قبلكم من الأمم، يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله، ومعنى هذا: أي يجعلكم متوارثين سكناها ممن قبلكم بعد انقراضهم، فتعمرون الدنيا وتزينونها بأنواع الصنائع والحرف، بمعنى: يهلك قرنًا
(1) روح البيان.
وينشىء آخرين، وقيل: يجعلى أولادكم خلفاء عنكم، وقيل: يجعل المسلمين خلفًا عن الكفار ينزلون أرضهم وديارهم.
وحاصل المعنى (1): أي أمن تشركون بالله خير أم من يجيب المكروب الذي يحوجه المرض أو الفقر أو النازلة من نوازل الدهر إلى اللجاء، والتضرع إليه إذا دعاه وقت اضطراره، ويرفع عن الإنسان ما يسوءُه من فقر أو مرض، ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض، فيورثكم إياها بالسكنى والتصرف فيها.
وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أسألك بالله أن تدعو لي، فأنا مضطر، قال: إذًا فاسأله، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. وقال الشاعر:
وإنَّيْ لأدْعُوْ اللهَ وَالأَمْرُ ضيِّقٌ
…
عَلَيَّ فَمَا يَنْفَكُّ أنْ يَتَفَرَّجَا
وَرُبَّ أَخٍ سُدَّتْ عَلَيْهِ وُجُوْهُهُ
…
أَصَابَ لَهَا لَمَّا دَعَا اللهَ مَخْرَجَا
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر: "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت"، وجاء في الخبر:"ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده".
وفي "صحيح مسلم": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: "واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب" وقرأ الحسن في رواية: {ونجعلكم} بنون المتكلم المعظم، كانه استئناف إخبار ووعد.
{أَإِلَهٌ} أي: هل معبود آخر كائن {مَعَ اللَّهِ} الذي يفيض على كافة الأنام هذه النعم الجسام. ثم بيَّن أن من طبيعة الإنسان أن لا يتذكر نعم الله عليه إلا قليلًا حيث قال: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} ؛ أي: تتذكرون آلاء الله ونعمه تذكرًا قليلًا، وزمانًا قليلًا، ومن ثم أشركتم به غيره في العبادة، و {مَا} مزيدة (2) لتأكيد معنى
(1) المراغي.
(2)
روح البيان.