الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب، وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فيدخل في ذلك أبو طالب دخولًا أوليًا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب عند الموت:"يا عم قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة" قال: لولا أن تعيرني قريش - يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع - لأقررت بها عينك، ثم أنشد مخاطبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَدَعَوْتَنِيْ وَعَلِمْتُ أنَّكَ صَادِقٌ
…
وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ قَبْلُ أَمِيْنَا
وَلَقْدَ عَلِمْتُ بِأن دِيْنَ مُحمدٍ
…
مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِيْنَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ
…
لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِيْنَا
ولكن أنا على ملة الأشياخ، عبد المطلب وهاشم وعبد مناف، ثم مات فأتى علي ابنه للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: عمك الضال قد مات، فقال له:"اذهب فواره"، وما تقدم من أنه لم يؤمن حتى مات هو الصحيح.
وبمعنى الآية قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} .
فإن قلت (1): إن بين هذه الآية وآية {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تناقضًا فما وجه الجمع بينهما؟
قلت: يُجمع بينهما بأن المنفي هنا خلق الهداية التي هي عبارة عن تقليب القلب من الباطل - وهو ما سوى الله - إلى الحق، وهو الله سبحانه، فليس هذا من شأن غير الله سبحانه، والمثبت هناك الدلالة على الدين القويم، وهذا هو الذي كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من كل مرشد.
57
- ثم أخبر سبحانه عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباعهم للهدى، فقال:{وَقَالُوا} ؛ أي: قال مشركو مكة ومن تابعهم {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ} وندخل في
(1) البيضاوي بتصرف وزيادة.
دينك يا محمد {نُتَخَطَّفْ} ؛ أي: نؤخذ ونُخرج {مِنْ أَرْضِنَا} مكة. ومعنى اتباع الهدى معه الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في الدين والسلوك إلى طريق الرشاد، والتخطف هو الانتزاع والاختلاس بسرعة.
وقرأ الجمهور: {نُتَخَطَّفْ} بالجزم جوابا للشرط. وقرأ المنقري: بالرفع على الاستئناف، مثل قوله تعالى:{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} برفع الكاف؛ أي: فهو يدرككم الموت، والمعنى؛ أي: وقال كفار مكة: لقد نعلم يا محمد أنك على الحق، وأنك ما كذبت كذبة قط فنتهمك اليوم، ولكنا نخاف ونخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا العرب أن يتخطفونا؛ أي: أن يأخذونا ويسلبونا ويقتلونا، ويخرجونا من مكة والحرم لإجماعهم على خلافنا، وهم كثيرون، ونحن أكلة رأس؛ أي: قليلون، لا نستطيع مقاومتهم.
ثم رد الله ذلك عليهم ردًا مصدرًا باستفهام تقرير مضمن للتوبيخ، فقال:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} والهمزة فيه للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نعصمهم ونجعل مكانهم حرمًا ذا أمن، لحرمة البيت الذي فيه، وذلك (1) أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب، والحمام من الحدأة.
ثم وصف هذا الحرم بقوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ} ؛ أي: يُجلب إلى ذلك الحرم، ويُجمع إليه، ويُحمل من الشام ومصر والعراق ومن أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكيا وغيرها برًا وبحرًا وجوًا {ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} من أنواع الثمار والفواكه والحبوب؛ أي: يُحمل ويُجلب إليه أنواع الثمرات والفاكهات والخضروات والأبازير والبضاعات، من مشارق الأرض ومغاربها، برًا وبحرًا وجوًا، فلا ترى شرقي الفواكه ولا غربيَّها مجمعة إلا في مكة، لدعاء إبراهيم عليه السلام حيث
(1) الخازن.
قال: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ومعنى (1) الكلية الكثرة، والجملة صفة أخرى لحرمًا، دافعة لما عسى يُتوهم أو تضررهم بانقطاع الميرة، وهو الطعام المجلوب أو بلد إلى بلد.
وقرأ الجمهور (2): {يُجْبَى} بالتحتية اعتبارًا بتذكير كل شيء، ووجود الفاصل بين الفعل وثمرات، وأيضًا ليس تأنيث ثمرات بحقيقي، واختار قراءة الجمهور أبي عبيد لما ذكرنا، وقرأ نافع وجماعة عز يعقوب وأبو حاتم عز عاصم:{تُجبى} بالتاء الفوقية اعتبارًا بثمرات، وقرأ (3) الجمهور أيضًا:{ثَمَرات} بفتحتين، وقرأ أبان بن تغلب: بضمتين، جمع ثُمُر بضمتين، وقرأ بعضهم:{ثمرات} بفتح الثاء لاسكان الميم، وانتصاب {رِزْقًا} على أنه مصدر مؤكد لمعنى يُجبى؛ لأن فيه معنى يرزق؛ أي: يرزقون رزقًا.
{مِنْ لَدُنَّا} ؛ أي: من عندنا، لا أو عند المخلوقات، فإذا كان حالهم هذا، وهم عبدة الأصنام، فكيف يخافون التخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بأن ذلك الرزق هو أو عندنا، أي: أكثر أهل مكة جهلة، لا يتفطنون له ولا يتفكرون، ليعلموا ذلك لفرط جهلهم ومزيد غفلتهم، وعدًا تفكرهم في أمر معادهم ورشادهم، لكونهم ممن طبع الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة.
وحاصل المعنى: أي إن ما اعتذرتم به لا يصلح أو يكون عذرًا؛ لأنا جعلناكم في بلد أمين، وحرم معظَّم منذ وجد، فكيف يكون هذا الحرم آمنًا لكم حال كفركم وشرككم، ولا يكون أمنًا لكم وقد أسلمتم، واتبعتم الحق.
قال يحيى بن سلام: يقبل سبحانه: كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذ عبدتموني، وآمنتم بي، وقد تفضل عليكم ربكم،
(1) روح البيان.
(2)
الشوكاني.
(3)
البحر المحيط.