الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنته فيمن عادى موسى، ومن آمن معه من بني إسرائيل، وأن النصر دائمًا للمتقين، ويخزى الله المكذبين، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} .
وإنما جعل التلاوة للمؤمنين فقط، وهو يُتلى على الناس أجمعين لبيان أنه لا يعتبر بها إلا من كان له قلب واع، وأُذن سامعة تذكَّر وتتعظ بآياته، أما من أعرض عنه وأبى واستكبر، وقال: إن هذا إلا سحر يؤثر .. فلا تفيده الآيات والنذر، ولا يلقي له بالًا، ولا يعي ما فيه من حكمة، ولا ما يسوقه من عبرة، فهو على نحو ماحكى الله عنهم:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} .
4
- ثم فصل هذا المجمل، ووضحه بقوله:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} فهو (1) استئناف بياني لذلك النبأ كأن سائلًا قال: وكيف نبأهما؟ فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده؛ أي: إن فرعون اللعين تجبَّر وطغى في أرض مصر، وقهر أهل مملكته، وجاوز الغاية في الظلم والعدوان، وساس البلاد سياسة غاشمة.
ومما مكن له في ذلك ما بيَّنه الله سبحانه بقوله: {وَجَعَلَ} فرعون {أَهْلَهَا} ؛ أي: أهل أرض مصر؛ أي: أهل مملكته {شِيَعًا} ؛ أي: فرقًا يشيعونه ويتبعونه ويطيعونه في كل ما يريد من الشر والفساد، أو جعلهم أصنافًا في استخدامه، يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الاْعمال الشاقة، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية.
والمعنى (2): أي وفرَّقهم فرقًا مختلفة، وأحزابًا متعددة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء كيلا يتفقوا على أمر، ولا يُجمعوا على رأي، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض، وبذا يلين له قيادهم، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم، وتلك هي سياسة الدول الكبرى في العصر الحاضر بل وفي الصغرى، كما تفعله الحُبُوشُ بين شعوب الأرمية الإِسلامية استئمارًا لم يُسمع قط في العالم قديمًا
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
وحديثًا، وذلك هو دستورها في حكمها لمستأمراتها، وقد نقش حكامها في صدورهم ذلك الدستور الذي ساروا عليه: فَرِّقْ تَسُدْ، وطالما أجدى عليهم في سياسة تلك البلاد التي يعمها الجهل، ويطغى على أهلها حب الظهور، ويرضون بالنفاية والقشور، رحماك اللهم رحماك! بسطت لعبادك سنتك في الأكوان، وأبنت لهم طبيعة الإنسان، وأنه محب للظلم والعدوان:
وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوْسِ فَإنْ تَجِدْ
…
ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ
وجملة قوله (1): {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} حال من فاعل جعل؛ أي: جعلهم شيعًا حال كونه مستضعفًا طائفة منهم، أو مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقًا وأصنافًا، كانه قيل: كيف جعلهم شيعًا؟ فال: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} ؛ أي: من أهل مصر، وتلك الطائفة بنو إسرائيل ومعنى الاستضعاف إنهم عجزوا وضعفوا عن دفع ما ابتلوا به عن أنفسهم.
قال ابن عباس (2): إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا المعاصي، ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، فسلط الله عليهم القبط، فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى عليه السلام؛ أي: يجعل جماعة منهم أذلاء مقهورين يسومهم الخسف، ويعاملهم بالعسف.
ثم فسر هذا الاستضعاف بقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} كثيرًا صغارًا، وأصل الذبح شق حلق الحيوان، والتشديد للتكثير؛ أي: يقتل أبناء تلك الطائفة كثيرًا، بعضهم إثر بعض، حتى قتل تسعين ألفًا من أبناء بني إسرائيل صغارًا، وقرأ الجمهور {يذبِّح} مضعفًا، وأبو حيوة وابن محيصن بفتح الياء وسكون الذال.
{وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} ؛ أي: يترك بناتهم أحياء لأجل الاستخدام، وذلك لأن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيء موسى عليه السلام، وفرعون كان قد سمع ذلك، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل عند الولادة، وهذا
(1) روح البيان.
(2)
المراح.
الوجه أولى بالقبول مما سيأتي، وقيل: إن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل.
وجملة قوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} (1) بدل من جملة {يَسْتَضْعِفُ} ، ويجوز أن تكون مستأنفة للبيان، أو حالًا، والمعنى (2): أي يذبح أبناءهم حين الولادة، وقد وكَّل بذلك عيونًا تتجسس، فكلما ولدت امرأة من بني إسرائيل ذكرًا ذبحوه، ويستبقي إناثهم؛ لأنه يتوجس خيفة من الذكران الذي يتمرسون الصناعات، وبأيديهم زمام المال، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة، وغلبوا المصريين عليها، والغلب الاقتصادي في بلد ما أشد وقعًا وأعظم أثرًا في أهلها من الغلب الاستئماري، ومن ثم لم يشأ أن يقتل النساء.
وروى السدي (3): أن فرعون رأى في منامه أن نارًا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتعلت على بيوت مصر فأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل، فسأل علماء قومه فأخبره الكهنة أنه سيخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يديه، فأخذ يفعل ما قص علينا الكتاب الكريم.
قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون! فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقًا عنده فما ينفع القتل؟ وإن كان كاذبًا فلا فائدة فيه اهـ.
ولا يعنينا من أمر هذه الرواية شيء، فسواء صحت أو لم تصح، فإن السر المعقول ما قصصناه عليك أولًا.
ثم علل اجتراحه لتلك الجرائم وإزهاقه للأرواح البريئة بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ؛ أي: إن فرعون (4) كان من الراسخين في التجبر والإفساد بقتل خلق كثير من المعصومين، ومن ثم سوَّلت له نفسه الخبيثة أن يفعل ما فعل من تلك الفظائع، وقتل سلائل الأنبياء بلا جريمة ارتكبوها، ولا ذنب جنوه. وقد كانت هناك وسائل عديدة ليصل بها إلى اتقاء شرور اليهود بحسب ما يزعم، وكان
(1) الشوكاني.
(2)
المراغي.
(3)
المراح.
(4)
المراغي.