المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

له فيها غنية من سفك الدماء، ولكن قساة القلوب، غلاظ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: له فيها غنية من سفك الدماء، ولكن قساة القلوب، غلاظ

له فيها غنية من سفك الدماء، ولكن قساة القلوب، غلاظ الأكباد تتوق نفوسهم إلى الولوع في الدم، ويجعلونه الترياق الشافي لحزازات نفوسهم، وسخائم أفئدتهم.

‌5

- ثم ذكر سبحانه ما أكرم به هذه الأمة المستضعفة، وما أتاح لها من السلطان المديني والدنيوي فتأسست لهم دولة عظيمة في بلاد الشام وصاروا يتصرفون في أرض مصر كما شاؤوا فقال:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: وأردنا أن نتفضل بإحساننا برسال موسى عليه السلام على من استضعفهم فرعون، وأذلهم، وهم بنو إسرائيل، وننجيهم من باسه، ونريهم في أنفسهم وفي أعدائهم فوق ما يحبون، وأكثر مما يؤملون بخلاصهم من فرعون، وإغراقه.

وقوله: {وَنُرِيدُ} معطوف على جملة قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا} وإن كانت الجملة المعطوف عليها اسمية؛ لأن بينهما تناسبًا من حيث إنَّ كل واحدة منهما وقع بيانًا وتفسيرًا لنبأ موسى وفرعون، ويجوز أن تكون حالًا من فاعل يستضعف، بتقدير مبتدأ؛ أي: ونحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، والأول أولى، والتعبير (1) في قوله:{وَنُرِيدُ} بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، واستحضار صورتها.

{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي: قادة في الخير، ودعاة إليه، وولاة على الناس، وملوكًا فيهم، بعد أن كانوا أتباعًا مسخرين لآخرين، وفي "كشف الإسرار": أي أنبياء، وكان بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف نبي من بني إسرائيل.

{وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} لملك فرعون ومساكن القبط، وأملاكهم، فيكون ملك فرعون فيهم، ويسكنون في مساكنه، ومساكن قومه، وينتفعون بأملاكه وأملاكهم، وأخر الوراثة عن الإمامة مع تقدمها عليها زمانًا، لانحطاط رتبتها عنها.

‌6

- ونمكن لهم في الأرض؛ أي: ونسلطهم على أرض مصر والشام، يتصرفون فيهما كيف ما شاؤوا، بتأييدهم بكليم الله، ثم بالأنبياء من بعده، وأصل (2)

(1) روح البيان.

(2)

روح البيان.

ص: 97

التمكين أن تجعل لشيء مكانًا يتمكن فيه، ثم استُعير للتسليط، كما سيأتي في مبحث البلاغة؛ أي: نجعلهم مقتدرين عليها وعلى أهلها، مسلطين على ذلك يتصرفون به كيف شاؤوا. وقرأ الجمهور (1):{نُمَكِّنَ} بدون لام عطفًا على نمن، وقرأ الأعمش {ولنمكن} بلام كي؛ أي: وأردنا ذلك لنمكن أو ولنمكن فعلنا ذلك.

{وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ} رؤية بصرية، وقرأ الجمهور (2):{ونُري} بالنون المضمومة وكسر الراء مضارع أرى الرباعي، وبنصب ما بعده على أن الفاعل هو الله سبحانه، وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي والأعمش وخلف:{ويرى} بفتح الياء والراء مضارع رأى الثلاثي، والفاعل فرعون، وما بعده، والقراءة الأولى ألصق بالسياق؛ لأن قبلها نريد، ونجعل ونمكن بالنون، وأجاز الفراء:{ويري} فرعون بضم الياء التحتية وكسر الراء؛ أي: ويُري الله فرعون.

{وَهَامَانَ} وزير فرعون وأحد رجاله، وذُكر لنباهته في قومه، ومحله من الكفر، ألا ترى إلى قوله:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} ، {وَجُنُودَهُمَا} أي: عساكرهما، وإضافة الجنود إليهما إما للتغليب، أو أنه كان لهامان جنود مخصوصة به، وإن كان وزيرًا، أو لأن جند السلطان جند لوزيره اهـ "شهاب".

{مِنْهُمْ} ؛ أي: من أولئك المستضعفين {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ؛ أي: ما كان فرعون وهامان وجنودهما يخافونه من المستضعفين، ويجتهدون في دفعه، من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل، والموصول هو المفعول الثاني على القراءة الأولى، والمفعول الأول على القراءة الثانية، والمعنى: أن الله يريهم، أو يرونهم الذي كانوا يحذرون منه ويجتهدون في دفعه، من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين.

والخلاصة (3): أي ونري أولئك الأقوياء والأعداء الألداء على أيدي بني

(1) البحر المحيط.

(2)

الشوكاني.

(3)

المراغي.

ص: 98

إسرائيل من المذلة والهوان، وما كانوا يتوقعونه من زوال الملك والسلطان على يد مولود منهم، ولكن لا يُنْجي حذر من قدر، فنفذ حكم الله الذي جرى به القلم من القدم على يد هذا الغلام، الذي احترز من وجوده، وقتل بسببه ألوفًا من الولدان، وكان منشؤه ومرباه على فراشه، وفي داره، وغذاؤه من طعامه، وكان يُدَلِّلُهُ ويتبنَّاهُ، وحتفه وهلاكه وهلاك جنوده على يديه، ليعلم أن رب السموات والأرض هو الغالب على أمره الشديد المحال، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

وخلاصة ما سلف:

1 -

أن فرعون علا في الأرض.

2 -

استضعف حزبًا من أحزاب مصر.

3 -

قتل الأبناء.

4 -

استحيا النساء.

5 -

أنه كان من المفسدين.

وقد قابل سبحانه هذه الخمسة بخمسة سثلها تكرمة لبني إسرائيل:

1 -

أنه مَنَّ عليهم بإنقاذهم من بطش فرعون وجبروته.

2 -

أنه جعلهم أئمة مقدَّمين في الدارين.

3 -

أنه ورَّثهم أرض الشام.

4 -

أنه مكَّن لهم في أرض الشام ومصر.

5 -

أنه أرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون، من ذهاب ملكهم على أيديهم.

هذان عظمة وضعف يعقب أحدهما الآخر، كما يعقب الليل النهار، سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} انظر

ص: 99