المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

به التقريب، فهو كقول القائل: عاش فلان مئة سنة، فقد - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: به التقريب، فهو كقول القائل: عاش فلان مئة سنة، فقد

به التقريب، فهو كقول القائل: عاش فلان مئة سنة، فقد يُتوهم السامع أنه يريد مئة سنة تقريبًا لا تحقيقًا. فإن قال: مئة سنة إلا شهرًا .. زال ذلك التوهم وفُهم منه التحقيق، الاستثناء من الألف استُدل به على جواز الاستثناء من العدد، وفي كونه ثابتًا من لسان العرب خلاف مذكور في النحو، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك.

ومعنى الآية (1): فلبث بين أظهرهم تسع مئة وخمسمين سنة يخوِّفهم من عذاب الله، ولا يلتفتون إليه، وإنما ذكر الألف تخييلًا لطول المدة إلى السامع؛ أي: ليكون أفخم في أذنه، ثم أخرج منها الخمسين إيضاحًا لمجموع العدد.

والفاء في قوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} للتعقيب؛ أي: أغرقهم عقيب تمام، المدة المذكورة الماء الكثير، المحيط بهم، المرتفع على أعلى جبل أربعين ذراعًا، أو خمسة عشر ذراعًا. {وَهُمْ ظَالِمُونَ}؛ أي: والحال أنهم مستمرون على ظلمهم وكفرهم.

قال ابن عباس: مشركون، والطوفان - كما سيأتي - يُطلق على كل ما يطوف بالشيء ويحيط به، على كثرة وشدة وغلبة، من السيل والريح والظلام والقتل والموت والطاعون والجدري والحصبة والمجاعة، وقد غلب على طوفان الماء، وقد طاف الماء ذلك اليوم بجميع الأرض، والحال أنهم مستمرون على الظلم والكفر، لم يستمعوا إلى داير الحق هذه الدة المتمادية، ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح، وذكَّرهم هذه المدة بطولها

‌15

- {فَأَنْجَيْنَاهُ} ؛ أي: فأنجينا نوحًا من الغرق والابتلاء بمشاق الكفرة {وَ} أنجينا {أَصْحَابَ السَّفِينَةِ} أي: ومن ركب معه فيها من أولاده وأتباعه.

واختُلف في عددهم على أقوال: قيل (2): كانوا ثمانين، وقيل: ثمانيةً وسبعين، وقيل: عشرة، نصفهم ذكور ونصفهم أناث. {وَجَعَلْنَاهَا}؛ أي: السفينة {آيَةً لِلْعَالَمِينَ} ؛ أي: عبرةً عظيمةً لمن بعدهم من الأهالي يتعظون بها، أو دلالة

(1) روح البيان.

(2)

البيضاوي.

ص: 357

يستدلون بها على قدرة الله سبحانه، وقيل: إن الضمير في جعلناها عائد إلى الواقعة، أو إلى النجاة، أو إلى العقوبة بالغرق، قال أبو الليث في "تفسيره": وقد بقيت السفينة على الجودي إلى قريب من وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الطوفان والهجرة الشريفة ثلاثة آلاف وتسع مئة وأربع وسبعون سنة، على ما في "فتح الرحمن"، وكان ذلك علامة وعبرة لمن رآها ولمن لم يرها؛ لأن الخبر قد بلغه، وقال بعضهم: سفينة نوح أول سفينة في الدنيا، فأبقيت السفن آيةً وعبرةً للخلائق وعلامةً من سفينة نوح، وهو قوله تعالى:{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} .

روي (1): أن نوحًا بُعث على رأس الأربعين، ودعا قومه تسع مئة وخمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين عامًا حتى كثر الناس وفشوا، وذلك من أولاد حام وسام ويافث؛ لأنهم لما خرجوا من السفينة ماتوا كلهم إلا أولاد نوح، كما في "البستان"، فيكون عمره ألفًا وخمسين عامًا، وهو أطول الأنبياء عمرًا، فلما حضره الموت قال له ملك الموت: يا أطول الأنبياء عمرًا، كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار لها بابان دخلت وخرجت،، وما أحسن ما قيل فيها:

أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلِّ سَحَابَةٍ

أَظَلَّتْكَ يَوْمًا ثُمَّ عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ

فَلَا تَكُ فَرْحَانًا بِهَا حِيْنَ أَقْبَلَتْ

وَلا تَكُ جَزْعَانًا بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ

قال الحسن: أفضل الناس يوم القيامة المؤمن المعمر، انتهى. اللهم أركبنا جواري الشريعة، وأوصلنا بها إلى صحارى الجنة، فليجِدَّ مَنْ وقع في طوفان نفسه حتى يجد الخلاص، وإليه الملجأ والمناص.

وحاصل معنى الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى أرسل (2) نوحًا إلى قومه فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا سرًا وجهرًا، وما زادهم ذلك إلا فرارًا من الحق، وإعراضًا عنه، وتكذيبًا له، وما آمن معه إلا قليل منهم، فأنزل الله عليهم الطوفان، فأهلكهم وهم مستمرون في الظلم، لم

(1) روح البيان.

(2)

المراغي.

ص: 358