المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَأَنْتُمْ سُكَارَى … } الآية كلها. وأخرج الطبراني عن الأسلع قال: "كنت - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: وَأَنْتُمْ سُكَارَى … } الآية كلها. وأخرج الطبراني عن الأسلع قال: "كنت

وَأَنْتُمْ سُكَارَى

} الآية كلها.

وأخرج الطبراني عن الأسلع قال: "كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وأرحل له، فقال لي ذات يوم: يا أسلع قم فأرحل، فقلت: يا رسول الله أصابتني جنابة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتاه جبريل بآية الصعيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا أسلع فتيمم، فأراني التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت فتيممت ثم رحلت له".

وأخرج ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب: أن رجالًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد، فأنزل الله قوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ

}.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار كان مريضًا، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم يناوله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى

} الآية.

وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال (1): نال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى

} الآية كلها.

التفسير وأوجه القراءة

‌36

- {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى أيها الناس، بقلوبكم وجوارحكم: أي؛ أطيعوه فيما أمر به ونهى عنه، {وَلَا تُشْرِكُوا} شركًا جليًّا ولا خفيًّا {بِهِ} سبحانه وتعالى، {شَيْئًا} من الأشياء، سواء أكان جمادًا كالصنم، أو حيوانًا حيًّا أو ميتًا، فقوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ} أمر بالطاعة، وقوله:{وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ} أمر بالإخلاص في العبادة فالثاني تأسيس لا تأكيد كما قيل.

فعبادة الله (2): هي الخضوع له، وتمكين هيبته وعظمته من النفس، والخشوع لسلطانه في السر والجهر، وأمارة ذلك: العمل بما به أمر، وترك ما

(1) لباب النقول.

(2)

المراغي.

ص: 76

عنه نهى، وبذا تصلح جميع الأعمال من أقوال وأفعال، فالعبادة هي الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب المعروفة، يرجى خيرها، ويخشى شرها، وهذه السلطة لا تكون لغير الله تعالى، فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه، فمن اعتقد أن غيره يشركه فيها .. كان مشركًا، وإذا نهى الله عن إشراك غيره معه .. فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته أولى.

وقيل (1): العبودية أربعة أنواع: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود.

والإشراك بالله ضروب مختلفة (2):

منها: ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن مشركي العرب من عبادة الأصنام، باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله، يقربون المتوسل بهم إليه، ويقضون الحاجات عنده، وقد جاء ذكر هذا في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

ومنها: ما ذكره عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام، قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} .

والخلاصة: وأخلصوا لله في العبادة، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكًا؛ لأن من عبد مع الله غيره، أو أراد بعمله غير الله .. فقد أشرك به، ولا يكون مخلصًا.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير، أو اسمه يعفور، فقال: "يا معاذ، هل تدري ما حق الله

(1) النسفي.

(2)

المراغي.

ص: 77

على عباده، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال: لا تبشرهم؛ فيتكلوا" متفق عليه. إنما قال: لا تبشرهم فيتكلوا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك أصلح لهم، وأحرى أن لا يتكلوا على هذه البشارة، ويتركوا العمل الذي ترفع لهم به الدرجات في الجنة، وبعد أن أمر الله بعبادته وحده لا شريك له، أعقبه بالوصية بالوالدين، فقال:{و} أحسنوا {بالوالدين إحسانًا} وبرًّا وعطفًا بالقيام بخدمتهما، وبالسعي في تحصيل مطالبهما، والإنفاق عليهما بقدر الطاقة، وبعدم رفع الصوت عليهما، وعدم تخشين الكلام معهما، وعدم شهر السلاح عليهما، وعدم قتلهما، ولو كانا كافرين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى حنظلة عن قتل أبيه أبي عامر الراهب وكان مشركًا.

وعن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن استأذنه في الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم:"هل لك أحد باليمن؟ " فقال أبواي فقال: "أبواك أذنا لك؟ " فقال: لا، فقال:"فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك". متفق عليه. وفي رواية قال: "أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك فأدناك"، قوله: "ثم أباك" فيه حذف تقديره: ثم بر أباك.

وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما، ثم لم يدخل الجنة".

وإنما قرن الله سبحانه وتعالى بر الوالدين بعبادته وتوحيده .. لتأكد حقهما على الولد.

ص: 78

والمعنى: أحسنوا بهما، ولا تقصروا في شيء مما يطلبانه؛ لأنهما السبب الظاهر في وجودكم وتربيتكم بالرحمة والإخلاص، وقد فصلت هذه الوصية في سورة الإسراء بقوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} .

والخلاصة: أنَّ العبرة بما في نفس الولد، من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه، بشرط أن لا يحد الوالدان من حرية الولد واستقلاله في شؤونه الشخصية أو المنزلية، ولا في الأعمال الخاصة بدينه ووطنه، فإذا أراد أحدهما الاستبداد في شيء من ذلك .. فليس من البر العمل برأيهما اتباعًا لهواهما.

{و} أحسنوا وصلوا {بِذِي الْقُرْبَى} ؛ أي: أحسنوا إلى صاحب القرابة لكم، وهو ذو رحمه من قبل أَبيه وأمه، كأخ وعم وخال وغيرهم، وكرر الباء إشارة إلى تأكد حق الرحم.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره .. فليصل رحمه". متفق عليه. قوله: ينسأ له في أثره يعني: يؤخر له في أجله وعمره، والمعنى: وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين، وإذا أدى المرء حقوق الله، فصحت عقيدته، وصلحت أعماله، وقام بحقوق الوالدين .. صلح البيت، وحسن حال الأسرة، وإذا صلح البيت .. كان قوة كبيرة، فإذا عاون أهله ذوي القربى الذين ينسبون إليهم .. كان لكل منهم قوة أخرى تتعاون مع هذه الأسرة وبذا تتعاون الأمة جمعاء، وتمد يد المعونة لمن هو في حاجة إليها، ممن ذكروا بعد في قوله:{و} أحسنوا إلى {اليتامى} بالرفق بهم، وبمسح رأسهم، وبتربيتهم وحفظ أموالهم.

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئًا". أخرجه البخاري.

ص: 79

وإنما أمر بالإحسان إليهم؛ لأن اليتيم قد فقد الناصر المعين وهو الأب مع صغره، وقلما تستطيع الأم مهما اتسعت معارفها أن تقوم بتربيته تربية كاملة، فعلى القادرين أن يعاونوا في تربيته، وإلا كان وجوده جناية وثقلًا على الأمة؛ لجهله وفساد أخلاقه، وكان خطرًا على من يعاشرهم من لداته، وجرثومة فساد بينهم، ومعلوم أن اليتامى جمع يتيم، وهو صغير لا أب له، وإن كان له جد وأم كما سبق في البقرة.

{و} أحسنوا إلى {المساكين} بالصدقة، أو بالرد الجميل، وهو جمع مسكين، وهو من التصقت يده بالتراب، فيشمل الفقير، وإنما أمر بالإحسان إليهم؛ لأنه لا ينتظم حال المجتمع إلا بالعناية بهم، وصلاح حالهم، وإلا كانوا وبالًا عليه.

والمساكين ضربان: مسكين معذور تجب مواساته، وهو من كان سبب عدمه الضعف والعجز، أو نزول آفة سماوية ذهبت بماله، ومثل هذا يجب عونه بمساعدته بالمال الذي يسد عوزه، ويستعين به على الكسب. ومسكين غير معذور في تقصيره، وهو من عدم المال بإسرافه وتبذيره، ومثل هذا يبذل له النصح ويدل على طرق الكسب، فإن اتعظ وقبل النصح فبها، وإلا ترك أمره إلى أولي الأمر، فهم أولى بتقويم إعوجاجه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله"، وأحسبه قال:"وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر". متفق عليه.

{و} أحسنوا إلى {الجار ذي القربى} ؛ أي: إلى الجار الذي قرب منكم جواره وداره، أو إلى الجار الذي له مع الجوار اتصال بكم في النسب، أوله (1) اتصال بكم في الدين، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: "الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق القرابة وحق الإِسلام، وجار له حقان: حق الجوار وحق

(1) الجمل.

ص: 80

الإِسلام، وجار له حق واحد: حق الجوار فقط، وهو المشرك من أهل الكتاب". رواه البزار وغيره.

وقرىء بالنصب (1) على الاختصاص تعظيمًا لحقه؛ لأن له ثلاثة حقوق: حق القرابة وحق الجوار وحق الإِسلام، كما قرئ {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} نصبًا على الاختصاص.

{و} أحسنوا إلى {الجار الجَنْب} ؛ أي: المجانب عنكم، أي البعيد داره عن داركم، أو الذي لا قرابة له منكم، فله حقان: حق الجوار وحق الإِسلام، وقرأ الأعمش والمفضل {والجار الجنب} بفتح الجيم وسكون النون؛ أي: ذي الجنب، وهو الناحية، وأنشد الأخفش: الناس جنب والأمر جنب. ذكره الشوكاني.

والجوار (2): ضرب من ضروب القرابة، فهو قرب بالمكان والسكن، وقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب، فيحسن أن يتعاون الجاران، ويكون بينهما الرحمة والإحسان، فإذا لم يحسن أحدهما إلى الآخر .. فلا خير فيهما لسائر الناس.

وحدد الحسن البصري الجوار بأربعين دارًا، من كل جانب من الجوانب الأربعة، والأولى عدم التحديد بالدور، وجعل الجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه في غدوك أو رواحك.

وإكرام الجار من شيم العرب قبل الإِسلام، وزاده الإِسلام تأكيدًا بما جاء في الكتاب والسنة، ومن إكرامه إرسال الهدايا إليه ودعوته إلى الطعام، وتعاهده بالزيارة والعيادة، إلى نحو ذلك.

وقد حث الدين على الإحسان في معاملة الجار ولو غير مسلم، وعن ابن

(1) المراح.

(2)

المراغي.

ص: 81

عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورِّثه". متفق عليه. وعن عائشة مثله.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال:"إلى أقربهما بابًا منك". رواه البخاري.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك". أخرجه مسلم. وفي رواية قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه". متفق عليه.

ولمسلم: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، البوائق: الغوائل والشرور.

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المؤمنات، لا تُحقِّرَنَّ جارة لجارتها، ولو فرسن شاة". متفق عليه. معناه: ولو أن تهدي إليها فرسن شاة: وهو الظلف وأراد به الشيء الحقير.

وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر .. فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر .. فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر .. فليقل خيرًا أو ليصمت". متفق عليه.

{و} أحسنوا إلى {الصاحب بالجنب} ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الرفيق في السفر، والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، فهو إما رفيق في سفر، أو جار ملاصق، أو شريك في تعلم أو حرفة، أو قاعد بجنبك في مسجد أو مجلس، وقيل: هي المرأة، فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك، وقيل: هو كل من صاحبته وعرفته، ولو وقتًا قصيرًا، فيشمل صاحب الحاجة

ص: 82

الذي يمشي بجانبك، يستشيرك أو يستعين بك.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.

{و} أحسنوا إلى {ابن السبيل} ؛ أي: إلى المسافر المنقطع عن بلده بالسفر، السائح الرحالة في غرض صحيح غير محرم.

والأمر بالإحسان إليه يتضمن الترغيب في السياحة والإعانة عليها، ويشمل اللقيط أيضًا، وهو أجدر بالعناية من اليتيم، وأحق بالإحسان إليه، وقد عني الأوروبيون بجمع اللقطاء وتربيتهم وتعليمهم، ولولا ذلك لاستطار شرهم، وعم ضرهم، وقد كنا أحق بهذا الإحسان منهم؛ لأن الله قد جعل في أموالنا حقًّا معلومًا للسائل والمحروم.

وقال الأكثرون: المراد بابن السبيل الضيف يمر بك فتكرمه، وتحسن إليه؛ أي: وأحسنوا إلى الضيف بإكرامه، وله ثلاثة أيام حق، وما فوق ذلك صدقة.

وعن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر .. فليكرم ضيفه جائزته"، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: "يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه". وقال: "من كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر .. فليقل خيرًا أو ليصمت". متفق عليه، زاد في رواية:"ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه"، قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال: "يقيم عنده ولا شيء له يقريه به"، قوله:"جائزته يومه وليلته" الجائزة: العطية؛ أي: يقري الضيف ثلاثة أيام، ثم يعطيه ما يجوز به من منهل إلى منهل، وقيل: هو أن يكرم الضيف، فإذا سافر .. أعطاه ما يكفيه يومًا وليلة، حتى يصل إلى موضع آخر، وقوله: أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه؛ أي: يوقعه في الإثم؛ لأنه إذا أقام عنده ولم يُقْرِهِ أثم بذلك.

ص: 83

{و} أحسنوا إلى {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وأيديكم من عبيدكم وإمائكم، ويشمل هذا تحريرهم وعتقهم، وهو أتم الإحسان وأكمله، ومساعدتهم على شراء أنفسهم دفعة واحدة، أو نجومًا وأقساطًا، وحسن معاملتهم في الخدمة، بأن لا يكلفوا ما لا يطيقون، ولا يؤذون بقول ولا بفعل.

وقيل: الآية (1) عامة فتشمل جميع الحيوانات من عبيد وإماء وغيرهم، فالحيوانات غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان من الأرقاء، فغلب جانب الكثرة، فعبر عنه بـ {ما} ، وأمر الله بالإحسان إلى كل مملوك آدمي وغيره. وقد روى الشيخان قوله صلى الله عليه وسلم:"هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده .. فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، وإن كلفتموهم .. فأعينوهم عليه".

وقد أكد (2) النبي صلى الله عليه وسلم الوصية بهم في مرض موته، وكان ذلك من آخر وصاياه، فقد روى أحمد والبيهقي من حديث أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: الصلاة: وما ملكت أيمانكم"، وقد أوصانا الله سبحانه وتعالى بهؤلاء، حتى لا يظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم، ويجعلهم كالحيوانات المسخرة، ثم ذكر ما هو علة للأمر السابق فقال:{إِنَّ اللَّهَ} ؛ أي: لا تفتخروا على هؤلاء المذكورين لأن الله سبحانه وتعالى: {لَا يُحِبُّ} ؛ أي: يعاقب {مَنْ كَانَ مُخْتَالًا} في مشيته متكبرًا عن أقاربه الفقراء وجيرانه الضعفاء وأصحابه لا يحسن عشرتهم، {فَخُورًا} بلسانه على الناس بما أعطاه الله تعالى من العلم والمال وغيرهما، فالمختال (3): المتكبر الذي تظهر أثار الكبر في حركاته وأعماله، والفخور المتكبر: الذي تظهر آثار الكبر في أقواله، فتجده يذكر ما يرى أنه ممتاز به عن الناس زهوًا بنفسه، واحتقارًا لغيره، والمختال الفخور مبغوض عند الله تعالى؛ لأنه احتقر جميع الحقوق التي

(1) الجمل.

(2)

المراغي.

(3)

المراغي.

ص: 84

أوجبها الله للناس، وأوجبها لنفسه، من الشعور بعظمته وكبريائه، فهو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا له.

فالمختال لا يقوم بعبادة ربه حق القيام؛ لأن العبادة لا تكون إلا عن خشوع للقلب، ومن خشع قلبه .. خشعت جوارحه، ولا يقوم بحقوق الوالدين ولا ذوي القربى لأنه لا يشعر بحق لغيره عليه، وبالأولى لا يشعر بحق لليتيم أو المسكين أو لجار قريب أو بعيد، فهو لا يرجى منه بر ولا إحسان، وإنما يتوقع منه إساءة وكفران.

ومن الكبر والخيلاء إطالة الثوب، وجر الذيل بطرًا ومرحًا، قال تعالى:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} ، وليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورًا في غير غلظة، عزيز النفس مع الأدب والرقة.

روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس" بطر الحق: رده استخفافًا وترفعًا، وغمص الناس: احتقارهم والازدراء بهم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره خيلاء". متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا". متفق عليه.

وعنه رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجِّل جمته، يختال في مشيته؛ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة". متفق عليه.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل ممن

ص: 85