الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحضيض الذي تهوي إليه أرواح المشركين، إذ مهما عمل المشرك من الطيبات .. فإن روحه تبقى مظلمة بالعبودية والخضوع لغير الله، ومهما أذنب الموحدون .. فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم، إذ خيرهم يغلب شرهم، ولا يبعد بهم الأمد وهم في غفلة عن ربهم، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} ، فهم يسرعون إلى التوبة، ويتبعون السيئة بالحسنة، حتى يذهب أثرها من النفس، وذلك هو غفرانها.
{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ؛ أي: ويغفر سبحانه وتعالى ما دون ذلك الإشراك المذكور في القبح من المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة، عملية كانت أو قولية، تفضلًا منه وإحسانًا {لِمَنْ يَشَاءُ} المغفرة له من عباده الذين أذنبوا ذنبًا دون الشرك، ومشيئة الله سبحانه وتعالى تكون على وفق حكمته، وعلى مقتضى سنته في خليقته، وقد جرت سنته بأن لا يغفر الذنوب التي لا يتوب صاحبها ولا يتبعها بالحسنات، التي تزيل آثارها من نفس فاعلها.
وقصارى ذلك: أن الشرك لإفساده للنفوس يترتب عليه العقاب حتمًا في الدنيا والآخرة، وما عداه لا يصل إلى درجته في إفساد النفوس، فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية، فمنه ما يكون تأثيره السيء في النفوس قويًّا، ومنه ما يكون ضعيفًا، يغفر بالتأثير بصالح العمل.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} ؛ أي: ومن يجعل لغير الله شركة مع الله سبحانه وتعالى، قيوم السموات والأرض، سواء أكانت الشركة بالإيجاد، أو بالتحليل والتحريم، {فَقَدِ افْتَرَى} واختلق وفعل {إِثْمًا عَظِيمًا}؛ أي: إثما كبيرًا عظيم الضرر غير مغفور إن مات عليه، تُستصغر في جنب عظمته جميع الذنوب والآثام، فهو جدير بأن لا يغفر، وما دونه قد يمحى بالغفران.
49
- والاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} ؛ أي: ألم تنظر إليهم يا محمَّد، أو أيها المخاطب استفهام تعجيب؛ أي: إيقاع المخاطب وحمله على التعجب من حالهم المنافية لما هم عليه من الكفر والطغيان، والمراد بهم اليهود والنصارى، الذي يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه؛ أي: انظر واعجب يا محمَّد، أو أيها المخاطب من حال اليهود والنصارى، الذين يمدحون أنفسهم؛ أي:
تعجب من ادعائهم أنهم أزكياء بررة عند الله تعالى، مع ما هم عليه من الكفر وعظيم الذنب، أو من تكفير ذنوبهم، مع استحالة أن يغفر للكافر شيء من كفره أو معاصيه، وفيه تحذير من إعجاب المرء بنفسه وعمله، ويدخل في الآية كل من زكى نفسه، ووصفها بزيادة العمل والطاعة والتقوى، قال الشوكاني: واختلف (1) المفسرون في المعنى الذي زكوا به أنفسهم، فقال الحسن وقتادة: هو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، وقولهم:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} ، وقال الضحاك: هو قولهم: لا ذنوب لنا، ونحن كالأطفال، وقيل: هو قولهم: إن أباءهم يشفعون لهم، وقيل: ثناء بعضهم على بعض، ومعنى التزكية: التطهير والتنزيه، فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها، واللفظ يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم.
واعلم (2): أن تزكية النفس تارة تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية طاهرة كثيرة الخير والبركة، بتنمية فضائلها وكمالاتها، ولا يكون ذلك إلا بابتعادها عن الشرور والآثام، التي تعوقها عن الخير، وهذه التزكية محمودة وهي التي عناها الله سبحانه وتعالى بقوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} .
وتارة تكون بالقول بادعاء الكمال والزكاة، وقد اتفق العقلاء على استهجان تزكية المرء نفسه بالقول ولو حقًّا، ومصدر هذه التزكية الجهل والغرور، ومن آثار هذه السيئة الاستكبار عن قبول الحق، والانتفاع بالنصح، وقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم دعواهم الزكاة والطهارة بقوله:{بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} إضراب عن محذوف تقديره: لا عبرة بتزكيتهم أنفسهم، بأن يقولوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وبأنهم لا يعذبون في النار؛ لأنهم شعب الله المختار، وبتفاخرهم بنسبهم ودينهم، {بَلِ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُزَكِّي} ويطهر من الذنوب والرذائل من يشاء تطهيره من عباده، من أيِّ شعب كان، ومن أيِّ قبيلة كانت، فيهديهم إلى صحيح
(1) فتح القدير.
(2)
المراغي.
العقائد، وفاضل الآداب، وصالح الأعمال، {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} معطوف على محذوف، تقديره: فهؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم ادعاءً، ولا يظلمون وينقصون شيئًا من الجزاء على أعمالهم السيئة؛ أي: لا يظلمون في ذلك العقاب فتيلًا؛ أي: أدنى ظلم وأصغره، وهو الخيط الذي في شق النواة، يضرب به المثل في القلة والحقارة، والفتيل في الأصل: الشيء المفتول، وسمي ما في شق النواة بذلك لكونه على هيأته، وقيل: الفتيل: ما تفتله بين أصابعك من وسخ وغيره، ويضرب به المثل في الشيء الحقير الذي لا قيمة له، وقد ضربت العرب المثل في القلة بأربعة أشياء اجتمعت في النواة وهي: الفتيل المذكور، والنقير وهو: النقرة التي في ظهر النواة، والقطمير وهو: القشر الرقيق فوقها، وهذه الثلاثة مذكورة في القرآن، والرابع: اليعروف وهو: ما بين النواة والقمع الذي يكون في رأس الثمرة كالعلاقة بينهما. اهـ. "سمين" فخذلانهم في الدنيا بالعبودية لغيرهم، وفي الآخرة بالعذاب والحرمان، من النعيم المقيم والثواب الجسيم، وما كان ذلك بظلم من الله سبحانه وتعالى لهم، بل كان بنقصان درجات أعمالهم وعجزها عن الصعود بأرواحهم إلى مستوى الرفعة والكرامة، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل، فلم تصل بهم نفوسهم إلى مراتب الفوز والفلاح.
وقيل: الضمير (1) في {يظلمون} راجع إلى {من} في: {مَنْ يَشَاءُ} باعتبار معناها، والتقدير: يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلًا، ولكن لا يساعده مقام الوعيد.
وفي الآية موضعان من العبرة (2):
الأول: أن الله يجزى عامل الخير بعمله ولو كان مشركًا؛ لأن لعمله أثرًا في نفسه يكون مناط الجزاء، فيخفف عذابه عن عذاب غيره، كما ورد في الأحاديث إن بعض المشركين يخفف عنهم العذاب بعمل لهم، فحاتم الطائي
(1) الجمل.
(2)
المراغي.