المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

من الذنوب التي لا تكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: من الذنوب التي لا تكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها

من الذنوب التي لا تكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون، والرحمة هي ما يخصهم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه، وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج، كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها"، قالوا: أو لا نبشر الناس بقولك، فقال:"إن في الجنة مئة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله .. فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".

فإن قلت (1): قد ذكر الله عز وجل في الآية الأولى درجة واحدة، وذكر في هذه الآية درجات، فما وجه الحكمة في ذلك؟

قلتُ: أما الدرجة الأولى: فلتفضيل المجاهدين على القاعدين بوجود الضرر والعذر، وأما الثانية: فلتفضيل المجاهدين على القاعدين من غير ضرر ولا عذر، فُضِّلوا عليهم بدرجات كثيرة، وقيل: يحتمل أن تكون الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم في الدنيا، والدرجات درجات الجنة ومنازلها، كما في الحديث والله أعلم.

{وَكاَنَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورًا} لذنوب عباده المؤمنين {رَّحِيمًا} بهم، يتفضل عليهم برحمته ومغفرته، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال:"أيما عبد من عبادي خرج مجاهدًا في سبيل الله ابتغاء مرضاتي .. ضمنت له إن أرجعته أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته .. غفرت له ورحمته" أخرجه النسائي.

‌97

- {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ} ؛ أي: تتوفاهم {الْمَلَائِكَةُ} وتقبض أرواحهم حين انتهاء آجالهم، والمراد بالملائكة ملك الموت وأعوانه، وهم ستة: ثلاثة منهم يلون قبض أرواح المؤمنين، وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار والمنافقين، وقيل: أراد به

(1) الخازن.

ص: 303

ملك الموت وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم، كما يخاطب الواحد بلفظ الجمع. وقرأ إبراهيم (1):{توفاهم} بضم التاء، مضارع وفيت، والمعنى: أن الله تعالى يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها؛ أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، وقرىء توفتهم بتاء التأنيث على أنه فعل ماض، حالة كونهم {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بترك الهجرة، واختيارهم مجاورة الكفرة في دار الذل والظلم، الموجبة للإخلال في أمور الدين، حيث لا حرية لهم في أمورهم الدينية، ولا يتمكنون من إقامة دينهم ونصره وتأييده، وقد {قَالُوا}؛ أي: قالت الملائكة لهم حين القبض موبخين {فِيمَ كُنْتُمْ} ؛ أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؛ أي: أكنتم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين، أو أكنتم في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أو في حرب أعدائه؛ أي: إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، والحال أن الملائكة تقول للمتوفين بعد قبض أرواحهم توبيخًا لهم: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؛ أي: إنهم لم يكونوا في شيء منه، إذ هم قدروا على الهجرة ولم يهاجروا، {قَالُوا}؛ أي: قال المتوفون للملائكة معتذرين اعتذارًا غير صحيح: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} ؛ أي: كنا مقهورين في أرض مكة، في أيدي الكفار، فعجزنا عن القيام بواجبات الدين بين أهل مكة، وهذه حجة لم تتقبلها الملائكة، ومن ثم ردوا عليهم المعذرة فـ {قَالُوا}؛ أي: قالت الملائكة لهم توبيخًا مع ضرب وجوههم وأدبارهم: {لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وترحلوا إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة الدين، وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن، ولا هو من خصاله؛ أي: إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد، التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، فبقيتم بين الكفار مع القدرة على الهجرة، فلكم مالهم، وقال ابن عباس: أي: ألم تكن المدينة آمنة فتهاجروا إليها، {فَأُولَئِكَ} المتوفون الذين تقول الملائكة لهم ما ذكر {مَأوَاهُمْ} ومنزلهم في الآخرة {جَهَنَّمُ} كما أن مأواهم في الدنيا دار الكفر، لتركهم الفريضة؛ أي: إن أولئك الذين فصلت حالهم الفظيعة نسكنهم في الآخرة جهنم؛

(1) البحر المحيط.

ص: 304