المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

في شيء منكوسًا يتعذر خروجه منه، فهم يريدون أن يأمنوا - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: في شيء منكوسًا يتعذر خروجه منه، فهم يريدون أن يأمنوا

في شيء منكوسًا يتعذر خروجه منه، فهم يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين، إما بإظهار الإِسلام، وإما بالعهد على السلم وترك القتال، ثم يفتنهم المشركون؛ أي: يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين، فيرتكسون ويتحولون شرَّ التحول معهم، وهكذا يفعلون ذلك المرة بعد المرة، فهم مردوا على النفاق، وهم (1) قوم من أسد وغطفان، كانوا مقيمين حول المدينة، فإذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا وقالوا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا على دينكم ليأمنوا من قتال المسلمين، وإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ليأمنوا من قومهم، حتى كان الرجل منهم يقول له قومه: بماذا أسلمت، فيقول: آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء. وقرأ ابن وثاب والأعمش: {ردوا} بكسر الراء لما أدغم نقل الكسرة إلى الراء، وقرأ عبد الله:{ركسوا} بضم الراء من غير ألف مخففًا، وقال ابن جني عنه: بشد الكاف.

وقد بين الله تعالى حكمهم بقوله {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} ؛ أي: فإن لم يتركوا قتالكم، {و} لم {يلقوا إليكم السلم}؛ أي: لم يطلبوا منكم الصلح، {و} لم {يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} عن قتالكم {فَخُذُوهُمْ} بالأسر {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}؛ أي: في أي محل وجدتموهم فيه من حل أو حرم، فلا علاج لهم غير ذلك، كما ثبت بالتجارب والاختبار، {وَأُولَئِكُمْ} الموصوفون بهذه الصفة {جَعَلْنَا لَكُمْ} أيها المؤمنون {عَلَيْهِمْ}؛ أي: على جواز قتلهم {سُلْطَانًا مُبِينًا} ؛ أي: حجة واضحة وبرهانًا ظاهرًا، وهي ظهور عداوتهم، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإِسلام، أو جعلنا لكم عليهم تسلطًا ظاهرًا، حيث أذنَّا لكم في أخذهم وقتلهم،

‌92

- {وَمَا كَانَ} ينبغي، {لِمُؤْمِنٍ} ولا يليق به ولا يصح {أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} بغير حق {إِلَّا خَطَأً}؛ أي: إلا حالة كونه مخطئًا في قتله؛ أي: ليس المؤمن كالكافر الذي تقدم في إباحة دمه، فحينئذ لا يليق بمؤمن قتل مؤمن في حال من الأحوال، إلا في حالة كونه ملتبسًا بخطأ، بأن قصد رمي غيره كصيد أو شجرة فأصابه، أو ملتبسًا بشبه عمد كان ضربه بما لا يقتل غالبًا، كالعصا

(1) المراح.

ص: 270

الخفيفة والصفع واللطم، والمراد بالخطأ هنا: ما يشمل شبه العمد، فيقال حينئذ في ضبطه وتعريفه: هو ما لا يقارنه قصد إلى الفعل أو إلى الشخص، أو ما لا يقصد به زهوق الروح غالبًا.

والمعنى: ليس (1) من شأن المؤمن ولا من خُلقه أن يقتل أحدًا من المؤمنين، إذ الإيمان وهو صاحب السلطان على النفس والحاكم على الإرادة والمصرف لها يمنعه أن يجترح هذه الكبيرة عمدًا، لكنه قد يفعل ذلك خطأ، ذلك أنه لا يكمل إيمان المؤمن إلا إذا شعر بحقوق الإيمان عليه، وهي حقوق لله تعالى وحقوق للعباد، ومن الثانية القصاص، لما في ذلك من الزجر من القتل، ولما في تركه من الاستهزاء بحقوق الدماء، ومن استهزأ بها .. كان قد انتهك أكبر حق من حقوق الأمة، وهدم ركنًا من أركان الإيمان، يرشد إلى ذلك قوله تعالى:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} .

وسبب العقوبة على الفعل الخطأ كالقتل: أن الخطأ لا يخلو من التهاون وعدم العناية ومثله النسيان، إذ من شأنهما أن يعاقب الله تعالى عليهما، ومن ثم أمرنا الله تعالى أن ندعوه أن لا يؤاخذنا عليهما بقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأنَا} كما ثبت بنص القرآن أن آدم نسي، وسمى مخالفته معصية وعوقب عليها، ولكن ورد في السنة قوله صلى الله عليه وسلم:"وضع الله عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ والنسيان، والأمر يكرهون عليه". رواه ابن ماجه. {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} بأن قصد رمي صيد أو غرض فأصاب مؤمنًا، أو قصد رمي المشرك فأصاب مسلمًا، أو ظن الشخص مشركًا فقتله فبان مسلمًا، أو قتله شبه عمد، ويسمى عمد خطأ، وخطأ عمد، كأن ضربه بما لا يقتل عادة، كأن صفعه باليد، أو ضربه بعصا فمات، ولم يقصد قتله. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}؛ أي: فالواجب عليه عتق نسمة من أهل الإيمان؛ لأنه لما أعدم نفسًا مؤمنة كان كفارته أن يوجد نفسًا،

(1) المراغي.

ص: 271

والعتق كالإيجاد من العدم، {و} عليه من الجزاء مع عتق الرقبة {دية مسلمة}؛ أي: مدفوعة {إِلَى أَهْلِهِ} ؛ أي: إلى أهل المقتول وورثته {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} ؛ أي: إلا أن يعفوا أهل المقتول عن تلك الدية، ويسقطوها باختيارهم؛ لأنها إنما وجبت تطييبًا لقلوبهم حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل، وتعويضًا عما فاتهم من المنفعة بقتله، فإذا هم عفوا .. فقد طابت نفوسهم، وانتفى المحذور، وكانوا هم ذوي الفضل على القاتل، وقد سمى الله تعالى هذا العفو تصدقًا، ترغيبًا فيه وحثًّا عليه وتنبيهًا على فضله، وفي الحديث:"كل معروف صدقة" وبينت السنة أنها مئة من الإبل، عشرون بنت مخاض، وكذا بنات لبون، وبنو لبون، وحقاق، وجذاع، وأنها على عاقلة القاتل، وهم عصبته، إلا الأصل والفرع، موزعة عليهم في ثلاث سنين: على الغني منهم نصف دينار، والمتوسط ربعٌ كل سنة، والحكمة في ذلك تقرير التضامن بين الأقربين، فإن لم يقوا .. فمن بيت المال - الوزارة المالية - فإن تعذر .. فعلى الجاني، وتجزىء قيمة الإبل إذا حصل التراضي بين الدافع والمستحق، ودية المرأة نصف دية الرجل؛ لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابًا جاء فيه:"إن من اعتبط - قتل بغير سبب شرعي - مؤمنًا، قتلًا عن بينة، فإنه قود؛ أي: قصاص يقتل به إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية، مئة من الإبل، ثم قال: وعلى أهل الذهب ألف دينار". وفي هذا دليل على أن دية الإبل على أهلها، إذا كانت هي رأس أموالهم، وأن الذين يتعاملون بالذهب كأهل المدن تكون من الذهب أو الفضة، وعلى أن هذا أصل لا قيمة للإبل.

فالدية ضابطها هو المال الواجب بالجناية على الحر في النفس، أو فيما دونها، ويعطى إلى ورثة المقتول، عوضًا عن دمه.

وقرأ الجمهور (1): {يَصَّدَّقُوا} وأصله يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد،

(1) البحر المحيط.

ص: 272

وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعبد الوارث عن أبي عمرو {تصدقوا} بالتاء على الخطاب، وقرىء:{تصدقوا} بالتاء وتخفيف الصاد، وأصله تتصدقوا، فحذف إحدى التاءين على الخلاف في أيهما هي المحذوفة، وفي حرف أبي وعبد الله:{يتصدقوا} بالياء والتاء.

{فَإِنْ كَانَ} المقتول خطأ {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} ؛ أي: من سكان دار الحرب، بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، أو بأن أتاهم بعد أن فارقهم لمهم من المهمات، {وَهُوَ}؛ أي: المقتول {مُؤْمِنٌ} ولم يعلم القاتل بكونه مؤمنًا، كالحارث بن يزيد كان من قريش، وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون في حرب معهم، ولم يعلم المسلمون إيمانه؛ لأن قد قتله عياش حين خروجه مهاجرًا، وهو لم يعلم بذلك، ومثله كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}؛ أي: فالواجب على القاتل بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو عتق نسمة من أهل الإيمان فقط، وأما الدية فلا تجب، إذ لا وراثة بين المقتول وأهله؛ لأنهم أعداء يحاربون المسلمين، فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على قتالهم والتنكيل بهم، وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى ليقوم المعتوق به مقام المقتول في المواظبة على العبادات.

{وَإِنْ كَانَ} المقتول خطأ {مِنْ قَوْمٍ} كفرة {بَيْنَكُمْ} أيها المؤمنون {وَبَيْنَهُمْ} ؛ أي: وبين أولئك الكفرة {مِيثَاقٌ} ؛ أي: عهد مؤقت أو مؤبد على ترك القتال بينهم، كما هو حال الدول في العصر الحاضر يعقد بعضهم معاهدات ومواثيق مع بعض آخر على أن لا يقاتلوهم ولا يساعدوا عليهم عدوًّا، {فَدِيَةٌ}؛ أي: فالواجب على قاتله دية {مُسَلَّمَةٌ} ؛ أي: مؤداة {إلَى أَهْلِهِ} ؛ أي: إلى أهل المقتول الكفار المعاهدين. وقرأ الحسن (1): {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن} بزيادة: وهو مؤمن، وبه قال مالك، وقد اختلف الفقهاء في دية غير المسلمين، لاختلاف الرواية في ذلك، روى أحمد والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عقل - دية - الكافر نصف دية المسلم"، وروي عن أحمد: أن

(1) البحر المحيط.

ص: 273

ديته كدية المسلم إن قتل عمدًا، وإلا فنصف ديته، وذهب الزهري وأبو حنيفة: إلى أن ديته كدية المسلم لظاهر الآية في أهل الميثاق، وهم المعاهدون وأهل الذمة، وذهب الشافعي: إلى أن دية الكافر ثلث دية المسلم إن كان نصرانيًّا أو يهوديًّا تحل مناكحته، وثلثا عشرها إن كان مجوسيًّا أو كتابيًّا لا تحل مناكحته، وعلى الجملة فالروايات متعارضة ومن ثم اختلف الفقهاء فيها كما سيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى. {و} على القاتل أيضًا {تحرير رقبة مؤمنة} أي: عتق نفس متصفة بالإيمان ولو صغيرًا لحق الله تعالى، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} رقبة يعتقها في الكفارة، بأن لم يجد مالًا يشتريها به من مالكها ليحررها من الرق، أو لم يجد رقيقًا، {فـ} عليه {صيام شهرين} قمريين بدلًا عن عتق الرقبة {مُتَتَابِعَيْنِ}؛ أي: متواليين وجوبًا بحيث لا يفصل يومين منهما إفطار في النهار بغير عذر شرعي، فإن أفطر يومًا بغير عذر شرعي، استأنفه وكان ما صامه قبل كأن لم يكن، أما الإفطار بعذر كحيض ونفاس فلا يضر، ولو كان كثيرًا، {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}؛ أي: شرع الله سبحانه وتعالى ذلك التكفير توبة على القاتل خطأ، وتجاوزًا عن تقصيره في ترك الاحتياط، حيث لم يبحث عن المقتول وحاله، وحيث لم يجتهد حتى لا يخطيء، لأنه لو بالغ في الاحتياط .. لم يصدر منه ذلك الفعل الخطأ، {وَكاَنَ الَّلهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمًا} بأحوال النفوس وما يطهرها، {حَكِيمًا} فيما شرعه من الأحكام والآداب التي بها هدايتكم وإرشادكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة.

فائدة: حاصل (1) ما ذكره في الخطأ ثلاثة أقسام؛ لأن المقتول إما مؤمن أو كافر معاهد، والأول إما أن تكون ورثته مسلمين أو حربيين، فالمؤمن الذي ورثته مسلمون فيه الدية والكفارة، وكذا الكافر المُؤمَّنُ، أما المؤمن الذي ورثته كفار حربيون ففيه الكفارة فقط.

(1) الفتوحات.

ص: 274

فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل

المسألة الأولى: في بيان صفة القتل

قال الشافعي: القتل على ثلاثة أقسام: عمد وشبه عمد وخطأ.

أما العمد المحض: فهو أن يقصد قتل إنسان بما يقتل به غالبًا، فقتل به، ففيه القصاص عند وجود التكافؤ، أو دية حالة مغلظة في مال القاتل.

وأما شبه العمد: فهو أن يقصد ضرب إنسان بما لا يقتل بمثله غالبًا مثل أن ضربه بعصا خفيفة، أو رماه بحجر صغير فمات، فلا قصاص عليه، وتجب عليه دية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين.

وأما الخطأ المحض: فهو أن لا يقصد قتله، بل قصد شيئًا آخر فأصابه، فمات منه، فلا قصاص عليه، وتجب فيه دية مخففة على عاقلته، مؤجلة إلى ثلاث سنين. ومن صور قتل الخطأ أيضًا: أن يقصد رمي مشرك أو كافر فيصيب مسلمًا، أو يقصد قتل إنسان يظنه مشركًا، بأن كان عليه لباس المشركين أو شعارهم، فبان مسلمًا، فالصورة الأولى خطأ في الفعل والثانية خطأ في القصد.

المسألة الثانية: في حكم الديات

فدية الحر المسلم مئة من الإبل، فإذا عدمت الإبل .. فتجب قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول، وفي قول بدل مقدر، وهو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، ويدل على ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان مئة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، قال: وكانت دية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم، فكانت كذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبًا، فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة، قال: وترك دية أهل الكتاب، فلم يرفعها فيما رفع من الدية، أخرجه أبو داود.

ص: 275

وذهب قوم إلى أن الواجب في الدية مئة من الإبل، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، وهو قول عروة بن الزبير، والحسن البصري، وبه قال مالك والشافعي.

وذهب قوم إلى أنها مئة من الإبل، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.

ودية المرأة نصف دية الذكر الحر، ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابيًّا، وإن كان مجوسيًّا فخمس الثلث ثمان مئة درهم، وهو قول سعيد بن المسيب وإليه ذهب الشافعي.

وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم، روي ذلك عن ابن مسعود، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال قوم: دية الذمي نصف دية المسلم، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك وأحمد، والأصل في ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دية المعاهد نصف دية الحر". أخرجه أبو داود. وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى" أخرجه النسائي. فمن ذهب إلى أن دية أهل الذمة ثلث دية المسلم أجاب عن هذا الحديث بأن الأصل في ذلك كان النصف، ثم رفعت زمن عمر دية المسلم ولم ترفع دية الذمي، فبقيت على أصلها وهو قدر الثلث من دية المسلمين.

والدية في قتل العمد وشبه العمد مغلظة فتجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وهذا قول عمرو بن زيد بن ثابت، وبه قال عطاء، وإليه ذهب الشافعي، لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم"، وذلك لتشديد العقل. أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب.

وعن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 276

يوم الفتح فقال: "ألا وإن قتيل العمد بالسوط والعصا والحجر مئة من الإبل، أربعون ثنية إلى بازل (1) عامها كلهن خلفة". وفي رواية أخرى: "ألا إن كل قتيل خطأ العمد أو شبه العمد قتيل السوط والعصا مئة من الإبل فيها أربعون في بطونها أولادها" أخرجه النسائي.

وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهذا قول الزهري وربيعة، وإليه ذهب مالك وأحمد وأصحاب الرأي.

وأما دية الخطأ فمخففة، وهي أخماس بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها، فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وهذا قول عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة، وبه قال مالك والشافعي، وأبدل قوم أبناء اللبون بأبناء المخاص يروون ذلك عن ابن مسعود، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي.

والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة، وهم العصبات من المذكور، ولا يجب على الجاني منها شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها على العاقلة. ودية الأعضاء والأطراف حكمها مبين في كتب الفقه، فلا نطيل الكلام بها، ودية أعضاء المرأة على النصف من دية أعضاء الرجل. والله أعلم.

المسألة الثالثة: في حكم الكفارة

الكفارة: إعتاق رقبة مؤمنة، وتجب في مال القاتل، سواء كان المقتول مسلمًا أو معاهدًا، رجلًا كان أو امرأة، حرًّا كان أو عبدًا، فمن لم يجد الرقبة .. فعليه صيام شهرين متتابعين، فالقاتل إن كان واجدًا لرقبة أو قادرًا على تحصيلها بوجود الثمن، فاضلًا عن نفقته ونفقة عياله، وحاجته من مسكن ونحوه .. فعليه

(1) قوله بازل: يقال بزل ناب البعير يبزل بزولًا - من باب قعد - إذا طلع، وهو وهي بازل اهـ.

ص: 277