الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإعتاق، ولا يجوز له أن ينتقل إلى الصوم، فإن عجز عن الرقبة، أو عن تحصيل ثمنها .. فعليه صوم شهرين متتابعين، فإن أفطر يومًا متعمدًا في خلال الشهرين، أو نسي النية، أو نوى صومًا آخر .. وجب عليه استئناف الشهرين، وإن أفطر يومًا بعذر مرض أو سفر هل ينقطع التتابع؟ اختلف العلماء فيه:
فمنهم من قال: ينقطع التتابع وعليه استئناف الشهرين، وهو قول النخعي، وأظهر قولي الشافعي؛ لأنه أفطر مختارًا.
ومنهم من قال: لا ينقطع التتابع، وعليه أن يبني، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي.
ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين أفطرت أيام الحيض، ولا ينقطع، فإذا طهرت .. بنت؛ لأنه أمر كتبه الله تعالى على بنات آدم، ولا يمكن الاحتراز عنه.
فإن عجز عن الصوم، فهل ينتقل عنه إلى الإطعام، فيطعم ستين مسكينًا؟ .. فيه قولان:
أحدهما: أنه ينتقل إلى الإطعام كما في كفارة الظهار.
والثاني: لا ينتقل لأن الله تعالى لم يذكر له بدلًا، فقال: فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، فنص على الصوم، وجعل ذلك عقوبة لقتل الخطأ والله أعلم.
93
- ثم بين الله سبحانه وتعالى حكم القتل العمد وعقوبته الشديدة، فقال:{وَمَنْ يَقْتُلْ} شخصًا {مُؤْمِنًا} بالله ورسوله، حالة كون القاتل {مُتَعَمِّدًا}؛ أي: قاصدًا قتله بما يقتل غالبًا كالسيف مثلًا، عالمًا بكونه مؤمنًا ولو ظنًّا {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}؛ أي: فجزاء ذلك القاتل وعقوبته جهنم؛ أي: فجزاؤه وعقوبته على قتله أن يدخل جهنم حالة كونه {خَالِدًا فِيهَا} ؛ أي: حالة كونه ماكثًا في جهنم مكثًا مؤبدًا إن استحل قتله، أو ماكثًا مكثًا طويلًا إن لم يستحل {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ}؛ أي: وسخط الله سبحانه وتعالى على ذلك القاتل سخطًا شديدًا، يستلزم الانتقام منه، {وَلَعَنَهُ}؛ أي: وطرده الله تعالى من رحمته، وأبعده عنها في الدنيا والآخرة، {وَأَعَدَّ لَهُ}؛ أي: وهيأ الله تعالى لذلك القاتل في جهنم {عَذَابًا عَظِيمًا} ؛ أي: تعذيبًا شديدًا لا يقادر قدره إلا الله تعالى، جزاء على عمله الشنيع.
وللعلماء في توبة قاتل المؤمن عمدًا آراء ثلاثة:
1 -
يرى ابن عباس وفريق من السلف: أن قاتل المؤمن عمدًا لا تقبل له توبة، وهو خالد في النار أبدًا، ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا".
وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة، كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى"، وروي عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن .. لأدخلهم الله تعالى النار".
وعن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن .. لأكبهم الله تعالى على مناخرهم في النار، وإن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر". وهؤلاء يرون أن التائب من الشرك وقد كان قاتلًا زانيًا تقبل توبته، ولا تقبل توبة المؤمن الذي ارتكب القتل وحده، إذ الأول لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور، فله شبه عذر إذا هو كان متبعًا لهواه بالكفر، وما يتبعه، ولم يكن ظهر له صدق النبوة، فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه كفر وضلال وتاب وأناب وعمل صالحًا كان جديرًا بالعفو، وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وحرمة القتل، فلا عذر له، إذ هو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير، فكيف يعود بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه، وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته، ومن ثم يهن المسلمون ويضعفون، ويكون بأسهم بينهم شديدًا.
وإنك لترى أنه ما انحلت الرابطة بين المسلمين، وانفصمت عروة الوفاق بينهم، إلا بعد أن أقدم بعضهم على سفك دماء بعض، ورجحوا شهوة الغضب والانتقام على أمر الله تعالى، ومن رجح شهوات نفسه الضارة على أمر الله، وعلى مصلحة المؤمنين بغير شبهة .. فهو جدير بالخلود في النار والغضب واللعنة، إذ هؤلاء تجرؤوا على حدود دينه ولم يبق للشرع حرمة في قلوبهم.
قال في "الكشاف": هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم، وخطب جليل، ومن ثم روي عن ابن عباس أن توبة قاتل المؤمن عمدًا غير مقبولة، والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية، ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث التي تقدم ذكرها، وقول ابن عباس بمنع التوبة، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مُناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة، {فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} انتهى.
2 -
فريق آخر يرى: أن المراد بالخلود المكث الطويل، لا الدوام؛ لتظاهر النصوص القاطعة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم، وما في الآية إخبار من الله بأن جزاءه ذلك، لا بأنه يجزيه ذلك، كما جاء في قوله جل ذكره:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فإنه لو كان المراد منها أنه سبحانه يجز كل سيئة بمثلها، لعارضه قوله جل شأنه:{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ومن ثم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا أنه قال: "هو جزاؤه إن جازاه"، وبهذا قال جمع من العلماء، وقالوا: هو كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلت فجزاؤك القتل والضرب، وهو إن لم يجازه .. لم يكن كذابًا، وقد روح عن ابن عباس جواز المغفرة بلا توبة أيضًا، وقال في الآية: هي جزاؤه، فإن شاء .. عذبه، وإن شاء .. غفر له.
3 -
ويري فريق ثالث: أن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل، وحكمه مما لا شك فيه جواب المبتدأ: حكمه، وعكرمة وابن جريج فسرا متعمدًا مستحلًا في الآية؛ أي: ومن يقتل مؤمنًا، متعمدًا لقتله، مستحلًا له .. فجزاؤهُ جهنم خالدًا فيها أبدًا.
الإعراب
{فَمَا} : {الفاء} : استئنافية، {ما}: اسم استفهام إنكار في محل الرفع مبتدأ، {لَكُم}: جار ومجرور خبره، تقديره: فأي شيء ثابت لكم، والجملة
مستأنفة، {فِي الْمُنَافِقِينَ}: متعلق بصار المحذوف، {فِئَتَيْنِ}: خبر لصار المحذوف، تقديره: فما لكم صرتم فئتين في المنافقين، وجملة صار المحذوفة حال من ضمير {لَكُمْ} ، والتقدير: فأي شيء ثبت لكم حال كونكم صائرين فرقتين في المنافقين.
وفي "السمين": {فَمَا لَكُمْ} (1): مبتدأ وخبر، و {فِي الْمُنَافِقِينَ} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق بما تعلق به الخبر وهو {لَكُمْ} ؛ أي: أي شيء كائن لكم، أو مستقر لكم في أمر المنافقين.
والثاني: أنه متعلق بمعنى {فِئَتَيْنِ} ، فإنه في قوة مالكم تفترقون في أمور المنافقين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والثالث: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من {فِئَتَيْنِ} ؛ لأنه في الأصل صفة لها، تقديره: فئتين مفترقتين في المنافقين، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها .. انتصبت حالًا. وفي {فِئَتَيْنِ} وجهان:
أحدهما: أنه حال من الكاف والميم في {لَكُمْ} ، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلق به {لَكُمْ} ، ومثله:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)} وقد تقدم أن هذه الحال لازمة؛ لأن الكلام لا يتم بدونها، وهذا مذهب البصريين في كل ما جاء من هذه التراكيب.
والثاني: وهو مذهب الكوفيين: أنه نصب على أنه خبر كان مضمرة، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين، انتهى.
{وَاللَّهُ} : {الواو} : حالية أو استئنافية، {اللَّهُ}: مبتدأ. {أَرْكَسَهُمْ} : فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على {اللَّهُ} ، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من {الْمُنَافِقِينَ} ، أو مستأنفة، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أركس} ، {كَسَبُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} ،
(1) الفتوحات.
أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما كسبوه، {أَتُرِيدُونَ}:{الهمزة} : للاستفهام الإنكاري. {تريدون} : فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {أَنْ تَهْدُوا}: ناصب وفعل وفاعل والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: أتريدون هداية، {مَنْ}: اسم موصول في محل النصب مفعول {تَهْدُوا} ، {أَضَلَّ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: من أضله الله، {وَمَن} {الواو}: استئنافية، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {يُضْلِلِ اللَّهُ}: فعل وفاعل، مجزوم بـ {من} على كون فعل شرط لها، {فَلَنْ}: الفاء رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ {لن} ، {لن تجد}: ناصب وفعل، وفاعله ضمير يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، أو أي مخاطب. {لَهُ}: جار ومجرور، في محل المفعول الأول لـ {تَجِدَ} ، {سَبِيلًا}: مفعول ثان لـ {تَجِدَ} ، وجملة {تَجِدَ} في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية: مستأنفة.
{وَدُّوا} : فعل وفاعل والجملة مستأنفة، {لَوْ}: مصدرية، {تَكْفُرُونَ} فعل وفاعل، وجملة {لَوْ} المصدرية مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ودوا كفركم أيها المؤمنون، {كَمَا} {الكاف} حرف جر، {ما}: مصدرية، {كَفَرُوا} فعل وفاعل، والجملة صلة {ما} المصدرية، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {الكاف} ، تقديره: ككفرهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، تقديره: ودوا كفركم كفرًا كائنًا ككفرهم. {فَتَكُونُونَ} {الفاء} عاطفة، {تكونوا}: فعل ناقص واسمه، {سَوَاءً}: خبره، ولكنه في تأويل اسم الفاعل؛ لأنه لا يخبر عن الذات باسم المعنى، فهو في تأويل مستوين، وجملة {تكونون} في محل النصب معطوفة على جملة
{تَكْفُرُونَ} ، والتقدير: ودوا كفركم ككفرهم فكونكم أنتم وهم مستوين في الشرك، {فَلَا}:{الفاء} فاء الفصحية؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا كان حالهم ما ذكر .. فأقول لكم لا تتخذوا منهم أولياء، وجملة الشرط المحذوف مستأنفة، ويصح كون {الفاء} حرف عطف وتفريع على قوله:{وَدُّوا} . {لا} : ناهية جازمة. {تَتَّخِذُوا} : فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} ، وهو من أخوات ظن تنصب مفعولين، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الأول، {أَوْلِيَاءَ}: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، أو معطوفة على جملة {وَدُّوا} ، {حَتَّى}: حرف جر وغاية، {يُهَاجِرُوا}: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد {حَتَّى} ، {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} ، بمعنى إلى، الجار والمجرور متعلق بـ {تَتَّخِذُوا} ، والتقدير: فلا تتخذوا منهم أولياء إلى مهاجرتهم في سبيل الله، {فَإِنْ}:{الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا هاجروا، وأردتم بيان حكم ما إذا تولوا .. فأقول لكم، {إن}: حرف شرط، {تَوَلَّوْا}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {فَخُذُوهُمْ}:{الفاء} : رابطة لجواب {إن} الشرطية، {خُذُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {إن} ، على كونه جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة متسأنفة، {وَاقْتُلُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {خُذُوهُمْ} ، {حَيْثُ}: في محل النصب على الظرفية مبني على الضم، والظرف تنازع فيه كل من الفعلين قبله أعني {خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} ، {وَجَدْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ}. {وَلَا تَتَّخِذُوا}: جازم وفعل وفاعل، في محل الجزم معطوف على خذوهم، {مِنْهُمْ}: جار ومجرور في محل النصب على كونه مفعولًا أول لاتخذ. {وَلِيًّا} : مفعول ثان له. {وَلَا نَصِيرًا} معطوف على {وَلِيًّا} .
{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ} .
{إِلَّا} : أداة استثناء. {الَّذِينَ} : اسم موصول للجمع المذكر، في محل النصب على الاستثناء من هاء {خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} ، {يَصِلُونَ}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {إِلَى قَوْمٍ}: متعلق بـ {يَصِلُونَ} ، {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، {وَبَيْنَهُمْ}: معطوف على {بَيْنَكُمْ} والظرفان متعلقان بمحذوف خبر مقدم لقوله: {مِيثَاقٌ} : وهو مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ} ، {أَوْ جَاءُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {يَصِلُونَ} على كونه صلة الموصول.
{حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ} .
{حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} : فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية دعائية لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب حال من فاعل {جَاءُوكُمْ} ولكنها على تقدير قد، وقيل (1): لا حاجة إلى تقديرها؛ لأنه قد جاء الماضي حالًا بغير تقديرها كثيرًا، فإن لم تقدر قد .. فهو دعاء عليهم، كما تقول: لعن الله الكافر. اهـ. "كرخي". وفي "السمين": وإذا وقعت الحال فعلًا ماضيًا .. ففيها خلاف هل يحتاج إلى اقترانه بقد أم لا، والراجح عدم الاحتياج لكثرة ما جاء منه، فعلى هذا لا تقدر قد قبل {حَصِرَتْ} انتهى. {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ}: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، وجملة {أَنْ} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف متعلق بـ (حَصِرَتْ} تقديره: حصرت صدورهم عن قتالهم إياكم.
{أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} :فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، معطوف علي {يُقَاتِلُوكُمْ} {وَلَوْ} . {الواو} استئنافية، {وَلَوْ}:حرف شرط، {شَاءَ اللَّهُ}: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {لَسَلَّطَهُمْ} : {اللام} : رابطة لجواب {لَوْ} . {سلطهم} : فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود
(1) الفتوحات.
على {اللَّهُ} ، والجملة جواب {لو} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لو} الشرطية مستأنفة. {عَلَيْكُمْ} جار ومجرور متعلقان بظرف محذوف {فَلَقَاتَلُوكُمْ}:{الفاء} : حرف عطف وتعقيب، و {اللام}: رابطة لجواب {لو} لعطفه على الجواب، {قاتلوكم}: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على {لَسَلَّطَهُمْ} ، وفي "الجمل": هذا (1) هو جواب {لو} في الحقيقة، وما قبله توطئة له، وهذه اللام هي اللام التي في قوله:{لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} ، وأعيدت توكيدًا. وفي "أبي السعود"، واللام جواب {لو} على التكرير، أو على الإبدال. {فَإِنِ} {الفاء}: تفريعية. {إن} حرف شرط، {اعْتَزَلُوكُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} {الفاء}: حرف عطف وتعقيب، {لم يقاتلوكم}: جازم وفعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {إن} معطوف على {اعْتَزَلُوكُمْ} ، {وَأَلْقَوْا}: فعل وفاعل، في محل الجزم معطوف على {اعتَزَلُوكُمْ} ، {إِلَيْكُمُ}: متعلق بـ {وَأَلْقَوْا} ، {السَّلَمَ}: مفعول به، {فَمَا} {الفاء} رابطة لجواب {إن} الشرطية، لاقترانه بـ {ما} النافية، {ما}: نافية، {جَعَلَ اللَّهُ} فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مفرعة على قوله:{أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} . {لَكُمْ} : متعلق بـ {جَعَلَ} وهو في محل المفعول الأول لـ {جَعَلَ} ، {عَلَيْهِمْ}: حال من {سَبِيلًا} ؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها. {سَبِيلًا} : مفعول ثان لـ {جَعَلَ} .
{سَتَجِدُونَ} : فعل وفاعل، {آخَرِينَ}: مفعول أول، {يُرِيدُونَ}: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مفعول ثان لوجد، وجملة وجد مستأنفة، {أَنْ يَأمَنُوكُمْ}: ناصب وفعل وفاعل، وجملة {أَنْ} مع صلتها: في تأويل مصدر
(1) الفتوحات.
منصوب على المفعولية لـ {يُرِيدُونَ} تقديره: يريدون أمنهم إياكم، {وَيَأمَنُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {يَأمَنُوكُمْ} ، {قَوْمَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، والتقدير: وأمنهم قومهم، {كُلَّ مَا} اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب، {رُدُّوا}: فعل ونائب فاعل، {إِلَى الْفِتْنَةِ}: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {أُرْكِسُوا}: فعل ونائب فاعل. {فِيهَا} : متعلق به، والجملة جواب {كُلَمَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {كُلَمَاَ} مستأنفة، {فَإِن} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم حالهم هذه وأردتم بيان ما تفعلون بهم .. فأقول لكم: {إن لم يعتزلوكم} {إن} : حرف شرط جازم، {لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ}: جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {وَيُلْقُوا}: فعل وفاعل معطوف على {يعتزلوكم} مجزوم بـ {لَم} ، {إليكم}: متعلق بـ {يلقوا} . {السلم} : مفعول به، {وَيَكُفُّوا}: فعل وفاعل معطوف أيضًا على {يَعْتَزِلُوكُ} ، {أَيْدِيَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه، {فَخُذُوهُمْ} {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا، {خذوهم}: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، {وَاقْتُلُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {خذوهم} ، {حَيْثُ}: ظرف مكان تنازع فيه {خذوهم واقتلوهم} ، {ثَقِفْتُمُوهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {حَيْثُ} ، {وَأُولَئِكُمْ} {الواو}: استئنافية، {وَأُولَئِكُمْ}: مبتدأ {جَعَلْنَا} : فعل وفاعل، {لَكُمْ}: جار ومجرور في محل المفعول الأول لـ {جَعَلْنَا} ، {عَلَيْهِمْ}: جار ومجرور حال من {سُلْطَانًا} ؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها، {سُلْطَانًا}: مفعول ثان لـ {جَعَلْنَا} ، {مُبِينًا}: صفة {سُلْطَانًا} ، وجملة جعل من الفعل والفاعل: في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنه خبر سببي، والجملة الإسمية مستأنفة.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} .
{وَمَا} {الواو} : استئنافية. {ما} : نافية، {كاَنَ}: فعل ماض ناقص، {لِمُؤْمِنٍ}: جار ومجرور خبر مقدم لـ {كَانَ} على اسمها، {أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا}: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مؤمن}. {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {خَطَأً}: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة مصدر محذوف، تقديره: إلا قتلًا خطأً، أو منصوب على الحال من فاعل {يَقْتُلَ} ، وجملة {أَن} المصدرية مع صلتها: في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم {كَانَ} مؤخرًا، والتقدير: وما كان قتل مؤمن مؤمنًا جائزًا له إلا قتلًا خطأً، أو إلا حالة كونه مخطئًا.
{وَمَن} {الواو} : استئنافية، {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، {قَتَلَ مُؤْمِنًا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {من} ، والجملة في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {خَطَأً}: منصوب على المفعولية المطلقة، {فَتَحْرِيرُ} {الفاء} رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، {تحرير}: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب عليه تحرير رقبة، {رَقَبَةٍ}: مضاف إليه، {مُؤْمِنَةٍ}: صفة لـ {رَقَبَةٍ} ، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة، {وَدِيَةٌ}: معطوف على {تحرير} . {مُسَلَّمَةٌ} : صفة لـ {دية} ، {إِلَى أَهْلِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {مُسَلَّمَةٌ} ، {إِلَّا}: أداة استثناء، {أَنْ يَصَّدَّقُوا}: ناصب وفعل وفاعل، في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء من عام الأحوال، تقديره: ودية مسلمة إلى أهله في جميع الأحوال إلا حال تصدقهم وعفوهم عنها، وإن شئت قلت:{إلَّا} : أداة استثناء مفرغ، والجملة الفعلية في محل النصب حال من {أَهْلِهِ} ، والتقدير: ودية مسلمة إلى أهله إلا حالة كونهم متصدقين وعافين عنها، تأمل.
{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .
{فَإن} : {الفاء} : حرف عطف وتفريع على محذوف تقديره: هذا الحكم إذا كان المقتول منكم. {إن} : حرف شرط جازم، {كَانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن} ، واسمها ضمير يعود على المقتول، {مِنْ قَوْمٍ}: جار ومجرور خبر {كاَنَ} ، {عَدُوٍّ}: صفة لـ {قَوْمٍ} ، {لَكُمْ}: صفة {عَدُوّ} ، وقيل (1): يتعلق به؛ لأن عدوًّا في معنى معاد، وفعول يعمل عمل فاعل، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من اسم {كَانَ} ، {فَتَحْرِيرُ} {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية، {تحرير رقبة}: مبتدأ ومضاف إليه، {مُؤْمِنَةٍ}: صفة لـ {رَقَبَةٍ} ، والخبر محذوف، تقديره: فتحرير رقبة مؤمنة واجب عليه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة ومفرعة على الجملة المحذوفة التي قدرناها آنفًا.
{وَإِنْ} {الواو} : عاطفة، {إن}: حرف شرط، {كَانَ}: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على المقتول، {مِنْ قَوْمٍ}: جار ومجرور خبر {كَانَ} ، {بَيْنَكُمْ}: خبر مقدم، {وَبَيْنَهُمْ} معطوف عليه، {مِيثَاقٌ}: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجر صفة لـ {قَوْمٍ} ، {فَدِيَةٌ}:{الفاء} : رابطة لجواب {إن} الشرطية، {وَدِيَةٌ} مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده، {مُسَلَّمَةٌ}: صفة لـ {وَدِيَةٌ} ، {إِلَى أَهْلِهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {مُسَلَّمَةٌ} ، والخبر محذوف جوازًا تقديره: واجبة عليه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة قوله: {فَإن
(1) العكبري.
كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} على كونها معطوفة على جملة محذوفة قدرناها سابقًا، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}: معطوف على {دية} ، {مُؤْمِنَةٍ}: صفة لـ {رَقَبَةٍ} .
{فَمَن} : {الفاء} : حرف عطف وتفريع على محذوف، تقديره: هذا الحكم في حق من وجد الرقبة. {من} : اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما، {لَمْ يَجِدْ}: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على {من} ومفعوله محذوف تقديره: فمن لم يجد الرقبة، وهو متعد إلى واحد؛ لأنه من وجدان الضالة، لا بمعنى علم، والجملة في محل الجزم بـ {من} على كونه فعل شرط لها. {فَصِيَامُ} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا. {صيام} : خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب عليه صيام وهو مضاف. {شَهْرَيْنِ} : مضاف إليه، {مُتَتَابِعَيْنِ}: صفة لـ {شَهْرَيْنِ} ، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية: معطوفة مفرعة على ذلك المحذوف. {تَوْبَةً} : منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: تاب الله عليكم توبة منه، حيث نقلكم من الأثقل الذي هو الإعتاق إلى الأخف الذي هو الصيام، والجملة المحذوفة مستأنفة. {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور صفة لـ {تَوْبَةً} . {وَكَانَ اللَّهُ} : فعل ناقص واسمه. {عَلِيمًا} : خبر أول لها. {حَكِيمًا} : خبر ثان، والجملة مستأنفة.
{وَمَن} : {الواو} : استئنافية، أو عاطفة، {من}: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. {يَقْتُل}: فعل مضارع مجزوم بـ {من} على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من}. {مُؤْمِنًا}: مفعول به، {مُتَعَمِّدًا}: حال من فاعل {يَقْتُلْ} ، {فَجَزَاؤُهُ} {الفاء}: رابطة لجواب {من} الشرطية وجوبًا، {جَزَاؤُهُ}: مبتدأ ومضاف إليه،
{جَهَنَّمُ} : خبر، {خَالِدًا}: حال من ضمير {جزاؤه} ، {فِيهَا}: متعلق بـ {خَالِدًا} ، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} . {وَغَضِبَ اللَّهُ} : فعل وفاعل، {عَلَيْهِ}: متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة (1) على مقدر تدل عليه الجملة الشرطية دلالة واضحة، تقديره: حكم الله أن جزاءه ذلك وغضب عليه. {وَلَعَنَهُ} : فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} ، والجمل معطوفة على جمل {غضب}. {وَأَعَدَّ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {اللهُ} ، {لَهُ}: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {غضب} ، {عَذَابًا}: مفعول به. {عَظِيمًا} : صفة له.
التصريف ومفردات اللغة
{فِئَتَيْنِ} : تثنية فئة، والفئة الجماعة. {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ}: من أركس الرباعي إركاسًا، والإركاس (2) الرد والرجع، قيل: من آخره على أوله، والركس: بكسر أوله وسكون ثانيه الرجيع والروثة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الروثة:"هذا ركس" وقال أمية بن أبي الصلت:
فَأُرْكِسُوْا فِيْ حَمِيْمِ النَّارِ إِنَّهُمُ
…
كَانُوْا عُصَاةً وَقَالُوْا الإِفْكَ والزَّوْرَا
والركس (3): بوزن النصر إرجاع الشيء منكوسًا على رأسه، إن كان له رأس، أو متحولًا عن حال إلى أردأ منها، كتحول الطعام والعلف إلى الرجيع والروث، والمراد به هنا تحولهم إلى الغدر والقتال بعد أن أظهروا الولاء والتحيز إلى المسلمين.
وحكى الكسائي والنضر بن شميل (4): ركس وأركس بمعنى واحد؛ أي:
(1) الفتوحات.
(2)
البحر المحيط.
(3)
المراغي.
(4)
البحر المحيط.
رجعهم، ويقال: ركس مشددًا بمعنى أركس، وارتكس هو؛ أي: ارتجع، وقيل: أركسه إذا أوبقه، قال الشاعر:
بِشُؤمِكَ أَرْكَسْتَنِي في الْخَنَا
…
وَأَرْمَيْتَنِيْ بِضُرُوْبِ الْعَنَا
وقيل: أضلهم، وقال الآخر:
وَأَرْكَسْتَنِي عَنْ طَرِيْقِ الْهُدَى
…
وَصَيَّرْتَنِي مَثَلًا لِلْعِدَا
وقيل: بمعنى نكسه، قاله الزجاج:
رُكِسُوْا فِيْ فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ
…
كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوْهَا فِتَنْ
وفي "المصباح": ركست الشيء ركسًا - من باب قتل - قلبته، ورددت أوله على آخره، وعن الكسائي وغيره: الركس والنكس قلب الشيء على رأسه، أوردُّ أوله على آخره، وقال الراغب: معناهما الرد والنكس أبلغ؛ لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه، والركس ما جعل رجيعًا بعد أن كان طعامًا. اهـ.
{حَصِرَتْ صُدُورُهُم} : وفي "المصباح"(1): حصر الصدر حصرًا - من باب تعب - إذا ضاق، وحصر القارئ إذا منع من القراءة، فهو حصير، والحصور الذي لا يشتهي النساء، وحصير الأرض وجهها، والحصير أيضًا الحبس، والحصير البادية، وجمعها حُصر، مثل بريد وبُرد، وتأنيثها بالهاء عامي. {فَإنِ اعْتَزَلُوكم}: من باب افتعل الخماسي بمعنى ابتعد، وهو من مزيد الثلاثي؛ لأن ثلاثيه عزل: بمعنى بعد وانفصل عن القوم، {سَبِيلًا}: السبيل الطريق، والمراد بها هنا طريق النجاة، {وَلِيًّا}: الولى النصير والمعين.
{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} : الدية (2) ما غرِّم في القتل من المال، وكان لها في الجاهلية أحكام ومقادير، ولها في الشرع أحكام ومقادير سبق ذكر شيء منها، وأصلها مصدر أطلق على المال المأخوذ في القتل، ولذلك قال:{مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} والفعل لا يسلم بل الأعيان، تقول في تصريفه: ودى يدي وديًا ودية،
(1) المصباح المنير.
(2)
البحر المحيط.
كما تقول: وشى يشي وشيًا وشية، ونظيره من صحيح اللام زنة وعدة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديع أنواعًا (1):
منها: الاستفهام بمعنى الإنكار في قوله: {لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ} ، وفي قوله:{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا} .
ومنها: الطباق في قوله: {أن تَهدُوا مَن أَضَل اَللهُ} .
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} ، وفي قوله:{بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} ، وفي قوله:{أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} ، وفي قوله:{أَنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ} ، وفي قوله:{خَطَأً} و {خَطَأً} .
ومنها: الاستعارة في قوله: {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} ، وفي قوله:{حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ، وفي قوله:{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} ، وقوله {سَبِيلًا} ، وقوله {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ
…
} الآية.
ومنها: الاعتراض في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ} .
ومنها: التكرار في مواضع.
ومنها: التقسيم في قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا
…
} إلى آخره.
ومنها: الحذف في مواضع.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: عتق نسمة مملوكة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(1) البحر المحيط.
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
المناسبة
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
…
} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة (1): وهي أنه تعالى لما ذكر جزاء من قتل مؤمنًا متعمدًا، وأنه مأواه جهنم، وذكر غضب الله عليه ولعنته، وإعداد العذاب العظيم له .. أمر المؤمنين بالتثبت والتبين، وأن لا يقدم الإنسان على قتل من أظهر الإيمان، وأن لا يسفكوا دمًا حرامًا بتأويل ضعيف، وكرر ذلك آخر الآية تأكيدًا أن لا يقدم عند الشبه والإشكال حتى يتضح له ما يقدم عليه، ولما كان خفاء ذلك منوطًا بالأسفار والغزوات .. قال: إذا ضربتم في الأرض، وإلا فالتثبت والتبين لازم في قتل من تظاهر بالإِسلام في السفر وفي الحضر.
وقال المراغي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
(1) البحر المحيط.
فتبَينُوا
…
} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (1): أن الله سبحانه وتعالى لما بين في الآيات السابقة أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا على سبيل الخطأ، وأن من قتل مؤمنًا متعمدًا فلا جزاء له إلا جهنم خالدًا فيها أبدًا .. أراد هنا أن ينبه المؤمنين إلى ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل في ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين، حين انتشر الإِسلام ولم يبق مكان في بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين، أو ممن يميل إلى الإِسلام، ويتحينون الفرص للاتصال بأهله، فأعلمهم أن لا يحسبوا كل من يجدونه في دار الكفر كافرًا، وأن يتبينوا من تظهر عليهم علامات الإِسلام كالشهادة والسلام الذي هو تحية المؤمنين، وأن لا يحملوا مثل هذا على الخداع، إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألم بها، وإن لم يكن قد تمكن فيها، ومن ثم أمر بالتثبت، ونهى عن إنكار إسلام من يدعي الإِسلام ولو بإلقاء تحيته، فما بالك بمن ينطق بالشهادتين، وأبان أن الذي يدعوه إلى ظن هذا الظن إنما هو ابتغاء عرض الحياة الدنيا، وبهذا أرشد المؤمن إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه، ولا يبني الظن على ميله وهواه، بل عليه أن يقبل الظاهر حتى يستبين له خلافه انتهى.
قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
…
} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (2): أنه تعالى لما رغب المؤمنين في قتال - في سبيل الله - أعداءِ الله الكفار، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمدًا بغير تأويل وبتأويل، فنهى أن يُقْدِم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإِسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك .. ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد، وبيان تفاوتهما، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد مظنة أن يصيب المجاهد مؤمنًا خطأ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل، فيتقاعد عن الجهاد لهذه الشبهة، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه، بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم دفعًا لهذه الشبهة.
(1) المراغي.
(2)
البحر المحيط.
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما (1) عاتب الله سبحانه وتعالى المؤمنين على ما صدر منهم، من قتل من تكلم بالشهادة .. ذكر هنا فضيلة الجهاد، وأن من نصب نفسه له .. فقد فاز فوزًا عظيمًا، فعليه أن يحترز من الوقوع في الهفوات التي تخل بهذا المنصب العظيم، انتهت.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
…
} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: هي أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد .. أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد، وسكن في بلاد الكفر، وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية السالفة فضل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين بغير عجز .. ذكر هنا حال قوم أخلدوا إلى السكون، وقعدوا عن نصرة الدين، وعذروا أنفسهم بأنهم في أرض الكفر، حيث غلبهم الكافرون، ومنعوهم من إقامة الحق، وهم عاجزون عن مقاومتهم، ولكنهم في الحقيقة غير معذورين؛ لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذي يعتزون بهم، إذ هم بحبهم لبلادهم وإخلادهم إلى أرضهم وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم ضعفاء في الحق، لا مستضعفون، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا مما أفاء الله به على المؤمنين، ومن خير الآخرة بإقامة الحق وإعلاء كلمة الدين. وظلمهم لأنفسهم هو بتركهم العمل بالحق خوفًا من الأذى، وفقد الكرامة عند ذوي قرابتهم من المبطلين، وهذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم في عصرنا الحاضر، بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمدارة المبطلين، وذلك عذر لا يعتد به، إذ الواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله، أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
…
} الآية، في سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة (2):
(1) المراغي.
(2)
المراغي.
منها: ما أخرجه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنمًا له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
ومنها: ما أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين، فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة، فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلم علينا، فحمل عليه محلم فقتله، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر .. نزل فينا القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
…
} الآية.
وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوا القوم .. وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف لك بلا إله إلا الله غدًا". وأنزل الله هذه الآية. وقيل غير ذلك.
ولا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها على أصحاب كل واقعة، فيرون أنهم سبب نزولها.
قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
…
} الآية، سبب نزولها: ما رواه البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لما نزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا، فجاءه بكتف فكتبها، وشكى ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} .
وقد روي (1): أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، والربيع وهلال بن أمية من بني واقف، حين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
(1) المراغي.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ
…
} الآية، سبب نزولها: ما رواه (1) البخاري عن ابن عباس أن أناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} .
وأخرجه بن مردويه وسمى منهم في روايته: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا قيس بن الفاكهة بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة وغيرهم، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك، وقالوا: غر هؤلاء دينهم، فقتلوا ببدر.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس (2) قال إن سبب نزول هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} أن قومًا من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا يخفون الإِسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي منهم بمكة، وأنه لا عذر لهم فخرجوا، فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا، فنزلت:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا
…
} الآية، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا فلحقوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
…
} الآية، روى (3) ابن جرير عن ابن جبير أنها نزلت في جندب بن ضمرة وكان بلغه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
…
} الآية، وهو بمكة حين بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسلميها، فقال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي إلى الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير وتوجهوا به إلى المدينة، وكان شيخًا كبيرًا فمات بالتنعيم - موضع قرب المدينة - ولما
(1) لباب النقول.
(2)
لباب النقول.
(3)
المراغي.