المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حكمك، وقيل: جاء (1) أولياء المنافق الذي قتله عمر، يطلبون - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: حكمك، وقيل: جاء (1) أولياء المنافق الذي قتله عمر، يطلبون

حكمك، وقيل: جاء (1) أولياء المنافق الذي قتله عمر، يطلبون عمر بدمه، وقد أهدره الله تعالى، يحلفون بالله كذبًا للاعتذار قائلين ما أراد صاحبنا المقتول بالتحاكم إلى عمر إلا أن يصلح، ويجعل الاتفاق بينه وبين خصمه، ويأمر كل واحد من الخصمين بتقريب مراده إلى مراد صاحبه، حتى يحصل بينهما الموافقة، وما خطر ببالنا أنه يقتل صاحبنا، وأنت يا رسول الله لا تحكم إلا الحق المر، ولا يقدر أحد على رفع الصوت عندك، وفي الآية وعيد شديد لهم على ما فعلوا، وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون حين لا يقبل منهم الاعتذار.

‌63

- {أُولَئِكَ} المنافقون الموصوفون بالصفات السابقة، هم {الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من النفاق والغيظ والعداوة، وهذا الكلام من الأسلوب الذي يستعمل فيما يعظم من خير أو شر، مسرة أو حزن، فيقول الرجل لمن يحبه، ويحفظ وده: الله يعلم ما في نفسي لك؛ أي: إنه لكثرته وقوته لا يقدر على معرفته إلا الله تعالى، ويقول في العدو الماكر المخادع: الله يعلم ما في قلبه؛ أي: إن ما في قلبه من الخبث والخديعة بلغ حدًّا كبيرًا لا يعلمه إلا علام الغيوب.

فالمعنى هنا: إنَّ ما في قلوبهم من الكفر والحقد والكيد، وتربص الدوائر بالمؤمنين، بلغ من الفظاعة مقدارًا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تُقبل (2) عليهم بالبشاشة والتكريم؛ إذ هذا يحدث في نفوسهم الهواجس والخوف من سوء العاقبة، وهم لم يكونوا على يقين من أسباب كفرهم ونفاقهم، وكانوا يحذرون أن تنزل عليه سورة تنبئهم بما في قلوبهم، وإذا استمر هذا الإعراض عنهم .. ظنوا الظنون، وقالوا: لعله عرف ما في نفوسنا، لعله يريد أن يؤاخذنا بما في بواطننا، وقيل (3): معنى {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ؛ أي: لا تقبل منهم ذلك العذر والحلف، ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم، فإن من هتك ستر عدوه .. فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي بإظهار العداوة،

(1) المراح.

(2)

المراغي.

(3)

المراح.

ص: 173

فيزداد الشر، وإذا تركه على حاله .. بقي في وجل فيقل الشر {وَعِظْهُمْ}؛ أي: وازجرهم عن النفاق والكيد والحسد والكذب، وخوفهم بعذاب الآخرة، وانصح لهم، وذكرهم بالخير على وجه ترق له قلوبهم، ويبعثهم على التأمل فيما يُلقى إليهم من العظات والزواجر، {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: خاليًا بهم ليس معهم غيرهم؛ لأن النصيحة على الملأ تقريع، وفي الخلوة محض المنفعة.

وعبارة في" الجمل"{وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} ؛ أي: في حق أنفسهم الخبيثة، وقلوبهم المنطوية على الشرور التي يعلمها الله تعالى، أو في أنفسهم حال كونك خاليًا بهم، ليس معهم غيرهم مسارًا بالنصيحة؛ لأنها في السر أنفع {قَوْلًا بَلِيغًا}؛ أي: مؤثرًا في أنفسهم واصلًا إلى كنه المراد، مطابقًا لما سيق له من المقصود، يغتمون به اغتمامًا، ويستشعرون منه الخوف، وهو التخويف بعذاب الدنيا، بأن يقول لهم: إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله الذي لا يخفى عليه السر والنجوى، وإنه لا فرق بينكم وبين سائر الكفار وإنما رفع الله السيف عنكم؛ لأنكم أظهرتم الإيمان، فإن واظبتم على هذه الأفعال القبيحة .. ظهر لكل الناس بقاءكم على الكفر، وحينئذ يلزمكم السيف، وتسفك دماؤكم، وتسبى نساؤكم وذراريكم، وتسلب أموالكم. وفي الآية شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالقدرة على بليغ الكلام، وتفويض أمر الوعظ والقول البليغ إليه؛ لأن لكل مقام مقالًا، والكلام يختلف تأثيره باختلاف أفهام المخاطبين، كما أن فيها شهادة له بالحكمة ووضع الكلام في مواضعه، وهذا نحو ما وصف الله به نبيه داود:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .

قال القاضي عياض في كتابه " الشفاء" في وصف بلاغته صلى الله عليه وسلم: أما فصاحة اللسان وبلاغة القول: فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأرفع، والموضع الذي لا يجهل، قد أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موضع عن شرح كلامه وتفسير قوله، وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع ذي المعشار الهمداني، وطهفة النهدي، والأشعث بن قيس، ووائل بن حجر الكندي، وغيرهم من أقيال حضرموت وملوك اليمن انتهى.

ص: 174