المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أخرج البيهقي (1) في "شعب الإيمان" عن ابن عباس رضي - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أخرج البيهقي (1) في "شعب الإيمان" عن ابن عباس رضي

أخرج البيهقي (1) في "شعب الإيمان" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، وعد هذه الآيات الثلاث:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} إلى قوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} ، والرابعة:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ، والخامسة:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، والسادسة:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} ، والسابعة:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، والثامنة:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} .. الآية.

وقال الراغب (2): ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفًا إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى، نحو:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} ، أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته، أو اعتبارًا بكثرة حاجاته، وافتقار بعضهم إلى بعض، أو اعتبارًا بمبدئه ومنتهاه، كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} وأما إذا اعتُبر بعقله، وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة الله في أرضه، ويبلغ يها في الآخرة إلى جواره تعالى .. فهو أقوى ما في هذا العالم، ولهذا قال تعالى:{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} .

وقرأ ابن عباس ومجاهد: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} مبنيًّا للفاعل مسندًا إلى ضمير اسم الله، وانتصاب ضعيفًا على الحال.

‌29

- وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} شروع في بيان بعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس، إثر بيان المحرمات المتعلقة بالأبضاع، وإنما خَصَّ الأكل بالذكر؛ لأن معظم المقصود من الأموال الأكل، فالمراد: النهي عن مطلق الأخذ، قيل: ويدخل فيه أكل مال نفسه، وأكل مال غيره، فأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في المعاصي.

(1) المراغي.

(2)

البحر المحيط.

ص: 33

أي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وصدَّقوا بما جاء به محمَّد صلى الله عليه وسلم لا تأكلوا أموالكم المتداولة بينكم بالوجه الباطل الممنوع في الشرع؛ أي: بالطريق الذي يخالف الشرع، كالغصب والسرقة والخيانة والقمار وعقود الربا وشهادة الزور والحلف الكاذب وجحد الحق، ونحو ذلك كالرُشا، والاستثناء في قوله:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} منقطع؛ لأن التجارة عن تراضٍ ليست من جنس أكل المال بالباطل، فتكون {إِلَّا} هنا بمعنى: لكن، والمعنى: لكن أكلها بتجارة صادرة عن تراض منكم، وطيب نفس من المتعاقدين جائز لكم.

وخص التجارة (1) بالذكر دون غيرها كالهبة والصدقة والوصية؛ لأن غالب التصرف في الأموال بها ولأن أسباب الرزق متعلق بها غالبًا، ولأنها أرفق بذوي المروءات، بخلاف الإيهاب وطلب الصدقات، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي:{تِجَارَةً} بالنصب على أن {تَكُونَ} ناقصة، واسما ضمير مستتر يعود على (2) الأموال، تقديره: إلا أن تكون الأموال أموال تجارة صادرة عن تراض منكم، فيجوز أكلها، أو يعود على {تجارة} والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم.

وقرأ الباقون بالرفع على أن تكون تامة، والمعنى: إلا أن توجد تجارة صادرة عن تراض منكم، فيجوز أكل الأموال المكتسبة بها.

واختلف العلماء في التراضي (3)، فقالت طائفة: تمامه، أي: تمام البيع وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه اختر، كما في الحديث الصحيح:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر" أخرجه الشيخان عن ابن عمر، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم. وقال

(1) كرخي.

(2)

البحر المحيط.

(3)

الشوكاني.

ص: 34

مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة، فيرتفع بذلك الخيار، وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته.

فائدة: وفي قوله: {بَيْنَكُمْ} رمز (1) إلى أن المال المحرم يكون عادة موضع التنازع في التعامل بين الآكل والمأكول منه، كل منهما يريد جذبه إليه، والمراد بالأكل الأخذ على أي وجه، وعبر عنه بالأكل لأنه أكثر أوجه استعمال المال وأقواها.

وأضاف الأموال إلى الجميع، ولم يقل: لا يأكل بعضكم مال بعض، تنبيهًا إلى تكافل الأمة في الحقوق والمصالح، كان مال كل واحد منها هو مال الأمة جميعها، فإذا استباح أحدهم أن يأكل مال الآخر بالباطل .. كان كأنه أباح لغيره أن يأكل ماله، فالحياة قصاص، وإرشادًا إلى أن صاحب المال يجب عليه بذل شيء منه للمحتاج وعدم البخل عليه به، إذ هو كأنما أعطاه شيئًا من ماله، وبهذا قد وضع الإِسلام قواعد عادلة للأموال لدى من يعتنق مبادئه:

منها: أن مال الفرد مال الأمة، مع احترام الحيازة والملكية وحفظ حقوقها، فهو يوجب على ذي المال الكثير حقوقًا معينة للمصالح العامة، وعلى ذي المال القليل حقوقًا أخرى للبائسين وذوي الحاجات من سائر أصناف البشر، ويحث على البر والإحسان والصدقات في جميع الأوقات.

وبهذا لا يوجد في بلاد الإِسلام مضطر إلى القوت أو عريان، سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم؛ لأن الإِسلام فرض على المسلمين إزالة ضرورة المضطر، كما فرض في أموالهم حقوقًا للفقراء والمساكين.

وكل فرد يقيم في بلادهم يرى أن مال الأمة هو مالُه، فإذا اضطر إليه .. يجده مذخورًا له، كما جُعل المال المفروض في أموال الأغنياء تحت سيطرة الجماعة الحاكمة من الأمة، حتى لا يمنعه من في قلبه مرض، وحثهم على البذل

(1) المراغي.

ص: 35

ورغبهم فيه، وذمهم على البخل، ووكل ذلك إلى أنفسهم؛ لتقوى لديهم ملكة السخاء والمروءة والرحمة.

ومنها: أنه لم يبح للمحتاج أن يأخذ ما يحتاج إليه من أيدي أربابه إلا بإذنهم، حتى لا تنتشر البطالة والكسل بين أفراد الأمة، وتوجد الفوضى في الأموال والضعف والتواني في الأحوال، ويدب الفساد في الأخلاق والآداب.

ولو أقام المسلمون معالم دينهم، وعملوا بشرائعه .. لضربوا للناس الأمثال، واستبان لهم أنه خير شريعة أخرجت للناس، ولأقاموا مدنية صحيحة في هذا العصر، يتأسى بها كل من يريد سعادة الجماعات، ولا يجعلها تَئِنُ تحت أثقال العوز والحاجة، كما هو حادث الآن من التنافر العام، والنظر الشزر من العمال إلى أصحاب رؤوس الأموال. ومعنى قوله:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ؛ أي: لا تكونوا من ذوي الأطماع الذين يأكلون أموال الناس بغير مقابل لها من عين أو منفعة، ولكن كلوها بالتجارة التي قوام الحل فيها التراضي، وذلك هو اللائق بأهل المروءة والدين، إذا أرادوا أن يكونوا من أرباب الثراء.

وفي الآية إيماء إلى أنواع شتى من الفوائد:

منها: أن مدار حل التجارة على تراضي المتبايعين، فالغش والكذب والتدليس فيها من المحرمات.

ومنها: أن جميع ما في الدنيا من التجارة، وما في معناها، من قبيل الباطل الذي لا بقاء له ولا ثبات، فلا ينبغي أن يشغل العاقل بها عن الاستعداد للآخرة، التي هي خير وأبقى.

ومنها: الإشارة إلى أن معظم أنواع التجارة يدخل فيها الأكل بالباطل، فإنَّ تحديد قيمة الشيء، وجعل ثمنه على قدره بالقسطاس المستقيم يكاد يكون مستحيلًا، ومن ثم يجري التسامح فيها إذا كان أحد العوضين أكبر من الآخر، أو إذا كان سبب الزيادة براعة التاجر في تزيين سلعته، وترويجها بزخرف القول من غير غش ولا خداع، فكثيرًا ما يشتري الإنسانُ الشيء وهو يعلم أنه يمكنه شراؤه

ص: 36

من موضع آخر بثمن أقلّ، وما نشأ هذا إلّا من خلابة التاجر وكياسته في تجارته، فيكون هذا من باطل التجارة الحاصلة بالتراضي، فيكون حلالًا، والحكمة في إباحة ذلك الترغيب في التجارة؛ لشدة حاجة الناس إليها، والتنبيه إلى استعمال ما أوتوا من الذكاء والفطنة في اختيار الأشياء، والتدقيق في المعاملة حفظًا للأموال، حتى لا يذهب شيء منها بالباطل؛ أي: بدون منفعة تقابلها.

فإذا ما وجد في التجارة الربح الكثير بلا غشٍ ولا تغرير، بل بتراض من الطرفين .. لم يكن في هذا حرج، ولولا ذلك ما رغب أحد في التجارة، ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين، على شدة حاجة العمران إليها، وعدم الاستغناء عنها.

ولما كان المال عديل الروح، وقد نهينا عن إتلافه بالباطل، كنهينا عن إتلاف النفس؛ لكون أكثر إتلافهم لها بالمغامرات؛ لنهب الأموال، وما كان متصلًا بها، وربما أدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل. قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ؛ أي: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل، من قتل المؤمن بغير حق والردة والزنا بعد الإحصان، أو المعنى: لا يقتل بعضكم بعضًا، وإنما قال:{أَنْفُسَكُمْ} لأنهم أهل دين واحد، فهم كنفس واحدة، وللإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها، وقد جاء في الحديث:"المؤمنون كالنفس الواحدة"؛ ولأن قتل الإنسان لغيره يفضي إلى قتله قصاصًا أو ثأرًا، فكأنه قتل نفسه.

وبهذا علمنا القرآن: أن جناية الإنسان على غيره جناية على نفسه، وجناية على البشر جميعًا، لا على المتصلين به برابطة الدين أو الجنس أو السياسة، كما قال تعالى:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} كما أنه أرشدنا باحترام نفوس الناس بعدها كنفوسنا، إلى أن نحترم نفوسنا بالأولى، فلا يباح بحال أن يقتل أحد نفسه؛ ليستريح من الغم وشقاء الحياة، فمهما اشتدت المصائب بالمؤمن .. فعليه أن يصبر ويحتسب، ولا ييأس من الفرج الإلهي، ومن ثَمَّ لا يكثرُ بَخْعُ النفس والانتحار إلا حيث يقل الإيمان، ويفشو الكفر والإلحاد.

ص: 37