الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقرأ الجمهور (1): {نُصْلِيهِ} بضم النون، وقرأ النخعي والأعمش بفتحها من صلاه الثلاثية، ومنه شاة مصلية، وقرىء أيضًا {نصلّيه} مشددًا، وقرىء {يصليه} ، والظاهر أن الفاعل ضمير يعود على الله؛ أي: فسوف يصليه هو؛ أي: الله تعالى، وأجاز الزمخشري: أن يعود الضمير على ذلك، قال: لكونه سببًا للمصلي، وفيه بعد.
{وَكَانَ ذَلِكَ} الإصلاء والإدخال في النار {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} ؛ أي: يسيرًا سهلًا هينًا على الله سبحانه وتعالى لا يمنعه منه مانع، ولا يدفعه عنه دافع، ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع، فلا يغترَّن الظالمون المعتدون بحلمه تعالى عليهم في الدنيا، وعدم معاجلتهم بالعقوبة، فيظنوا أنهم بمنجاة من عقابه في الآخرة، ولا يكونن كأولئك المشركين الذين قالوا:{نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} .
31
- {إِنْ تَجْتَنِبُوا} وتتركوا {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} ؛ أي: عظائم ما نهاكم الله عنه من الذنوب، كالشرك والزنا وقتل النفس المحرمة مثلًا، وتفعلوا عزائم ما أمركم الله به، كالصلوات الخمس وصيام رمضان والزكاة والحج، {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}؛ أي: نمحُ عنكم صغائر الذنوب، ونغفرها لكم فلا نؤاخذكم بها، فتصير بمنزلة ما لم يعمل؛ لأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر وفعل المأمورات، ولا تكفر كبارها إلا بالتوبة والإقلاع عنها، فمعنى تكفير السيئات: إزالة ما يستحق عليها من العقوبات، وجعلها كأن لم تكن، فالمراد بالسيئات هنا الصغائر؛ لأنهم قسموا الذنوب إلى قسمين: صغائر كالنظرة واللمسة والقبلة مثلًا، وكبائر كالزنا والسرقة، وقالوا: أكبر الكبائر الشرك بالله، وأصغر الصغائر حديث النفس. وإنما زدنا في تفسير الآية قيد وتفعلوا عزائم المأمورات؛ لأنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر، بما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي في "سننه"، عن أبي هريرة وأبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال: "والذي نفسي بيده، ما من عبد يصلي الصلوات الخمس،
(1) البحر المحيط.
ويصوم رمضان، ويؤدي الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع .. إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة، حتى إنها لتصفق"، ثم تلا:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ، وقيل: لا يشترط ذلك بل تكفر الصغائر باجتناب الكبائر، فإنَّ اجتناب الكبائر من أعظم الطاعات، وهو المعتمد لظاهر الآية. {وَنُدْخِلْكُمْ} في الآخرة {مُدْخَلًا كَرِيمًا}؛ أي: موضعًا طيبًا ومنزلًا حسنًا، أو ندخلكم مكانًا لكم فيه الكرامة عند ربكم، وهو الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، ومعنى كونه كريمًا أنه لا نكد فيه ولا تعب، بل فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، جعلنا الله سبحانه وتعالى من أهلها.
وقرأ ابن عباس وابن جبير (1): {إن تجتنبوا كبير} على الإفراد، وقرأ المفضلُ عن عاصم:{يُكفِّر} {ويدخلكم} بالياء على الغيبة، وقرأ ابن عباس:{من سيئاتكم} ، بزيادة (من)، وقرأ نافع:{مُدْخَلًا} هنا، وفي الحج بفتح الميم، ورُويت عن أبي بكر، وقرأ باقي السبعة بضمها.
واعلم: أنه قد اختلف العلماءُ في عدد الكبائر، وتحقيق معناها، فقال ابن مسعود: هي ثلاث: القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وروي عنه أيضًا أنها أربع، فزاد الإشراك بالله، وقال عليٌّ: هي سبع، الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذفُ المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرارُ يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع كقول علي في كل واحدة منها أية من كتاب الله، وجعل الآية في التعرب: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
…
} الآية.
والأحاديث الصحيحة (2) كما سيأتي مختلفة في عددها، ومجموعها يزيد على سبع، ومن ثم قال ابن عباس: لما قال له رجل: الكبائر سبع؟ قال: هي إلى سبعين أقرب، وفي رواية عنه: هي إلى سبع مئة أقرب؛ إذ لا صغيرة مع
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.
الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، ومراده أن كل ذنب يرتكب لعارض يعوض على النفس، من استشاطة غضب أو ثورة شهوة، وصاحبه متمكن من دينه، يخاف الله ولا يستحل محارمه، فهو من السيئات التي يكفرها الله تعالى، إذ لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونًا بالدين، إذ هو بعد اجتراحه يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى الله تعالى، ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله، فهو إذ ذاك لأَنْ يتوب عليه ويكفر عنه أقربُ، وكل ذنب يرتكبه الإنسان مع التهاون بالأمر، وعدم المبالاة بنظر الله إليه، ورؤيته إياه حيث نهاه، فهو مهما كان صغيرًا في صورته أو في ضرره يعد كبيرًا من حيث الإصرار والاستهتار، فتطفيف الكيل والميزان ولو حبة لمن اعتاده، والهمز واللمز، وعيب الناس، والطعن في أعراضهم لمن تعوده، كل ذلك كبيرة ولا شك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما تمس إليه الحاجة ولم يرد الحصر والتحديد.
وأما في تحقيقها فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها: صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا. وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آيةً، وقال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة، وقال جماعة من أهل الأصول: الكبائر كل ذنب رتب عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه، وقيل: كل ذنب عظم قبحه وعظمت عقوبته، إما في الدنيا بالحدود، وإما في الآخرة بالعذاب عليه، وقيل غير ذلك مما لا طائل في ذكره.
فصل في ذكر الأحاديث الواردة في الكبائر
فمنها: ما روي عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا"، قلنا: بلى يا رسول الله، قال:"الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، وقول الزور"، وكان متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. أخرجاه في "الصحيحين".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر
فقال: "الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس"، وقال:"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قول الزور" أو قال: "شهادة الزور" متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال:"الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والزنا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" متفق عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك"، قال: قلت: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال:"أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس"، وفي رواية، أن أعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال:"الإشراك بالله"، قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس"، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب" رواه البخاري.
وعنه رضي الله عنهما أن رسول الله قال: "إن من الكبائر شتم الرجل والديه"، قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم! يسب الرجل أبا الرجل أو أمه، فيسب أباه أو أمه"، وفي رواية:"من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" وذكر الحديث، متفق عليه.
الإعراب
{يُرِيدُ اللَّهُ} : فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتقرير ما سبق من
الأحكام، وكونها جارية على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين. {لِيُبَيِّنَ}: اللام لام كي، ولكنها زائدة، زيدت لتأكيد إرادة التبيين. {لِيُبَيِّنَ}: منصوب بأن مضمرة بعد اللام، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَكُمْ}: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريد الله تبيينه لكم. {وَيَهْدِيَكُمْ} : الواو: عاطفة. {وَيَهْدِيَكُمْ} : فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {يُبَيِّنَ} على كونها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريد الله بيانه لكم، وهدايته لكم. {سُنَنَ الَّذِينَ}: مفعول ثان ومضاف إليه. {مِنْ قَبْلِكُمْ} : جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صلة الموصول. {وَيَتُوبَ}: معطوف أيضًا على {يُبَيِّنَ} . {عَلَيْكُمْ} : متعلق به، تقديره: وتوبته عليكم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} : مبتدأ وخبر أول. {حَكِيمٌ} : خبر ثان والجملة مستأنفة.
{اللَّهُ} : الواو عاطفة. {اللَّهُ} : مبتدأ. {يُرِيدُ} : فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية؛ أعني: جملة يريد الله. {أن} : حرف نصب ومصدر {يَتُوبَ} : منصوب بـ {أن} وفاعله ضمير يعود على {الله} . {عَلَيْكُمْ} : متعلق به، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: والله يريد توبته عليكم. {وَيُرِيدُ الَّذِينَ} : فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله:{وَاللَّهُ يُرِيدُ} . {يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} : فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {أَنْ تَمِيلُوا}: ناصب وفعل وفاعل. {مَيْلًا} : مفعول مطلق. {عَظِيمًا} : صفة له، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يُرِيدُ}؛ تقديره: ويريد الذين يتبعون الشهوات ميلكم ميلًا عظيمًا.
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} .
{يُرِيدُ اللَّهُ} : فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {أَنْ}: حرف مصدر. {يُخَفِّفَ} : منصوب بـ {أَنْ} ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} ، {عَنْكُمْ}: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يريد الله تخفيفه عنكم، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ} فعل ونائب فاعل. {ضَعِيفًا}: حال من الإنسان، وهي حال مؤكدة، والجملة مستأنفة، بمنزلة التعليل لقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
{يَا أَيُّهَا} {يا} : حرف نداء. {أيُّ} : منادى نكرة مقصودة. ها: حرف تنبيه زائد زيد تعويضًا عما فات أي من الإضافة، {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع، أو في النصب صفة له، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {لَا تَأكُلُوا}: جازم وفعل وفاعل، والجملة جواب النداء. {أَمْوَالَكُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {بَيْنَكُمْ} : ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تَأكُلُوا} ، أو حال من {أَمْوَالَكُمْ}. {بِالْبَاطِلِ}: متعلق بـ {تَأكُلُوا} .
{إِلَّا} : أداة استثناء منقطع بمعنى لكن. {أَنْ} : حرف نصب. {تَكُونَ} : فعل مضارع ناقص. {تِجَارَةً} : خبرها منصوب على قراءة النصب، واسمها ضمير يعود على المعاملة مثلًا، وعلى قراءة الرفع فتكون تامة، {تِجَارَةً}: فاعلها، وجملة {تَكُونَ} على كلا الإعرابين: صلة أن المصدرية، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف؛ تقديره: لكن كون المعاملة تجارة عن تراض منكم جائز، أو كون تجارة عن تراض منكم جائز، والجملة جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب. {عَنْ تَرَاضٍ}: جار ومجرور صفة لـ {تِجَارَةً} . {مِنْكُمْ} : جار ومجرور صفة لـ {تَرَاضٍ} ، {وَلَا تَقْتُلُوا}: جازم وفعل وفاعل معطوف على جملة {لَا تَأكُلُوا} . {أَنْفُسَكُمْ} :
مفعول به ومضاف إليه. {إنَّ} : حرف نصب. {اللَّهَ} : اسمها. {كَانَ} : فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الجلالة. {بِكُمْ}: جار ومجرور متعلق بـ {رَحِيمًا} ، وهو خبر {كَانَ} ، وجملة {كَانَ}: في محل الرفع خبر {إِنَّ} ، وجملة {إِنَّ}: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} : الواو استئنافية. {مَنْ} : اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما. {يَفْعَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ}. {ذَلِكَ}: مفعول به. {عُدْوَانًا} : حال من فاعل يفعل. {وَظُلْمًا} : معطوف عليه، ولكن بعد تأويلهما بمشتق؛ تقديره: ومن يفعل ذلك حالة كونه متعديًا على غيره، وظالمًا لنفسه، أو منصوبان على المفعول لأجله. {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ}: الفاء: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب مقترنًا بـ {سوف} ، {سَوْفَ}: حرف تنفيس. {نُصْلِيهِ} : فعل ومفعول أول. {نَارًا} : مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {مَنْ} الشرطية، على كونها جوابًا لها، ولم يجزم لفظه لاقترانه بحرف التنفيس، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {وَكَانَ ذَلِكَ}: فعل ناقص واسمه. {عَلَى اللَّهِ} : متعلق بـ {يَسِيرًا} وهو خبر كان، وجملة {كَانَ}: مستأنفة.
{إِنْ تَجْتَنِبُوا} : جازم وفعل وفاعل، مجزوم بحذف النون. {كَبَائِرَ مَا}: مفعول به ومضاف إليه. {تُنْهَوْنَ} : فعل مغير ونائب فاعل. {عَنْهُ} : متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ {ما} ، أو صفة لها، والعائد ضمير عنه. {نُكَفِّرْ}: فعل مضارع مجزوم بـ {أَن} على كونه جواب الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله،
وجملة {إن} الشرطية: مستأنفة. {عَنْكُمْ} : جار ومجرور متعلق بـ {نُكَفِّرْ} . {سَيِّئَاتِكُمْ} : مفعول به ومضاف إليه. {وَنُدْخِلْكُمْ} . معطوف على {نُكَفِّرْ} مجزوم على كونه جواب {إن} : الشرطية، و {الكاف}: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله. {مُدْخَلًا}: منصوب على الظرفية متعلق بندخل. {كَرِيمًا} : صفة له، ويصح نصبه على المصدرية، والمدخول فيه على هذا محذوف، تقديره: وندخلكم الجنة إدخالًا كريمًا.
التصريف ومفردات اللغة
{وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ، السنن جمع سنة، كغرف وغرفة، والسنة: الطريقة، ويقال: تاب إلى الله توبة وتوبًا ومتابًا، من باب قال، إذا رجع من معصيته إلى طاعته، وتاب الله عليه إذا غفر له، ورجع عليه بفضله، والمعنى هنا: ويغفر لكم، ومعناه في الموضع الثاني أعني قوله:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} التوفيق للهداية، والرجوع إلى الطاعة، {الشَّهَوَاتِ}: جمع شهوة، كهفوات جمع هفوة، وهي المستلذات المحرمة، يقال: شها الشيء يشهو من باب دعا، ويقال: شهي يشهى - من باب رضي يرضى - شهوةً إذا أحبه ورغب فيه رغبة شديدة، {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} يقال: مال يميل من - باب باع - ميلًا وتميالًا وميلانًا وميلولةً إلى المكان عدل إليه، أو إلى الشيء، أو إلى الشخص، إذا رغب فيه أو أحبه، ومال عن الطريق إذا حاد عنه، ومال الحاكم في حكمه إذا جار وظلم، ومال الحائط إذا زال عن استوائه، والمراد هنا الميل عن الطريق المستقيم. {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} والضعيف: صفة مشبهة من ضعف يضعف ضعافة وضعافية ضد قوي، وهو من باب فعل المضموم كشرف، يجمع على ضعاف وضعفاء وضعفة وضعفى مؤنثه ضعيفة. {أموالَكم}: جمع مال، والمال هو ما ملكته من جميع الأشياء، وهو عند أهل البادية يطلق على النعم والمواشي كالإبل والغنم، يذكر ويؤنث فيقال: هو المال، وهي المال، سمي به لميل القلب إليه، ويقال: مال يمول مولًا ومؤولًا من باب قال، يقال: مال زيد إذا صار ذا مال أو
كثر ماله، وموَّله إذا صيره ذا مال، {بِالْبَاطِلِ} الباطل: ضد الحق، يجمع على أباطيل، يقال: بطل يبطل - من باب نصر - بطلًا وبطولًا، إذا ذهب خسرًا وضياعًا فهو باطل، وفي "المراغي": الباطل من البطل، والبطلان وهو الضياع والخسار، وفي الشرع: أخذ المال بدون عوض حقيقي يعتد به، ولا رضي ممن يؤخد منه، أو إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع، فيدخل في ذلك الغصب والغش والربا والغبن وإنفاق المال في الوجوه المحرمة والإسراف بوضع المال فيما لا يرضى به العقلاء، {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ}: اجتنب من باب افتعل، والاجتناب: ترك الشيء جانبًا، والكبائر جمع كبيرة ككريمة وكرماء، وهي المعصية العظيمة، {سَيِّئَاتِكُمْ} والسيئات: جمع سيئة، وهي الفعلة التي تسوء صاحبها عاجلًا أو آجلًا، والمراد بها هنا الصغائر، كما هو مذهب الجمهور. {مُدْخَلًا كَرِيمًا}: وفي "السمين": قرأ (1) نافع وحده هنا، وفي الحج {مُدْخَلًا} بفتح الميم، والباقون بضمها، ولم يختلفوا في ضم التي في الإسراء كما مرَّ.
فأما المضموم الميم فإنه يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه مصدر، وقد علم أن المصدر الميمي من الرباعي فما فوقه، كاسم المفعول منه، والمدخول فيه على هذا محذوف؛ أي: وندخلكم الجنة إدخالًا كريمًا.
والثاني: أنه اسم مكان الدخول.
وفي نصبه حينئذ احتمالان:
أحدهما: أنه منصوب على الظرف، وهو مذهب سيبويه.
والثاني: أنه مفعول به، وهو مذهب الأخفش، وهكذا كل مكان مختص بعد دخل، فإن فيه هذين المذهبين، وهذه القراءة واضحة، لأن اسم المصدر والمكان جاريان على فعلهما، وأما قراءة نافع: فتحتاج إلى تأويل، وذلك لأن
(1) الفتوحات.
المفتوح الميم إنما هو من الثلاثي، والفعل السابق لهذا كما رأيت رباعي، فقيل: إنه منصوب بفعل مقدر مطاوع لهذا الفعل المذكور، والتقدير: وندخلكم فتدخلون مدخلًا، ومدخلًا منصوب على ما تقدم إما المصدرية وإما المكانية بوجهيها، وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، نحو أنبتكم من الأرض نباتًا على إحدى القراءتين انتهى.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبديع (1):
منها: التكرار في اسم الله وفي قوله: {يُرِيدُ} في أربعة مواضع، وفي قوله:{يَتُوبَ} ، {أَنْ يَتُوبَ} .
ومنها: إطلاق المستقبل على الماضي في قوله: {يُرِيدُ} ، وفي قوله:{لِيُبَيِّنَ} ؛ لأن إرادة الله وبيانه قديمان؛ إذ تبيانه في كتبه المنزلة، والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة.
ومنها: الاستعارة في قوله: {يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} ، وفي قوله:{أَنْ تَمِيلُوا} ؛ لأنه استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام؛ لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق. وفي قوله: {أَنْ يُخَفِّفَ} لأن التخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم، وتخفيف التكاليف: رفع مشاقها من النفس، وذلك من المعاني. وفي قوله:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} جعله ضعيفًا باسم ما يؤول إليه، أو باسم أصله.
ومنها: الزيادة في قوله: {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ، قال الزمخشري: تقديره: يريد الله أن يبين لكم، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين، كما زيدت في لا أبا لك؛ لتأكيد إضافة الأب كما مر ذلك.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: {لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} ؛ لأنه مجاز عن
(1) البحر المحيط.
مطلق الأخذ؛ لأن المراد النهي عن مطلق الأخذ، وإنما خص الأكل بالذكر؛ لأن معظم المقصود من الأموال الأكل.
ومنها: الحذف في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} لأنه على تقدير إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وتفعلوا الطاعات؛ لأن التكفير ليس مرتبًا على الاجتناب فقط، بل لا بد معه من فعل الطاعات.
ومنها: قصد الدلالة على الثبوت في جملة، وعلى التجدد في أخرى، في قوله:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} لأنه جاءت الجملة الأولى اسمية والثانية فعلية، لإظهار تأكيد الجملة الأولى؛ لأنها أدل على الثبوت، ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار، وأما الجملة الثانية: فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد؛ لأن إرادتهم تتجدد في كل وقت.
ومنها: إطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: {لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} لأن إضافة الأموال إلى المخاطبين معناه أموال بعضكم، كما قال تعالى:{فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، وقوله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} .
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
المناسبة
قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
…
} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (1): أنه تعالى لما نهى عن أكل المال بالباطل، وعن قتل الأنفس، وكان ما نهى عنه مدعاة إلى التبسط في الدنيا والعلو فيها، وتحصيل حطامها .. نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض؛ إذ التمني لذلك سبب مؤثر في تحصيل الدنيا، وشوق النفس إليها بكل طريق، فلم يكتف بالنهي عن تحصيل المال بالباطل، وقتل الأنفس، حتى نهى عن السبب المحرض على ذلك، وكانت المبادرة إلى النهي عن السبب آكد لفظاعته ومشقته، فبدىء به، ثم أتبع بالنهي عن السبب حسمًا لمادة المسبب، وليوافق العمل القلبي العمل الخارجي، فيستوي الباطن والظاهر في الامتناع عن الأفعال القبيحة.
وقال في "المراغي"(2): المناسبة: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى عن أكل
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.
أموال الناس بالباطل، وعن القتل، وتوعد فاعلهما بالويل والثبور، وهما من أفعال الجوارح؛ ليصير الظاهر طاهرًا عن المعاصي الوخيمة العاقبة .. نهى عن التمني، وهو التعرض لها بالقلب حسدًا؛ لتطهر أعمالهم الباطنة، فيكون الباطن موافقًا للظاهر، ولأن التمني قد يجر إلى الأكل، والأكل قد يقول إلى القتل، فإن من يرتع حول الحمى .. يوشك أن يقع فيه انتهى.
وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ
…
} قال أبو حيان (1): مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما نهى عن التمني المذكور، وأمر بسؤال الله من فضله .. أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث، وأن في شرعه ذلك مصلحة عظيمة، من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه، ولم يتعن فيه بطلب فرب ساع لقاعد.
وقال المراغي: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (2) نهى عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن تمني أحد ما فضل الله به غيره عليه من المال، حتى لا يسوقه التمني إلى التعدي، وهو وإن كان نهيًا عامًّا، فالسياق يعين المراد منه، وهو المال؛ لأن أكثر التمني يتعلق به، ثم ذكر القاعدة العامة في حيازة الثروة وهي الكسب .. انتقل إلى نوع آخر تأتي به الحيازة وهو الإرث.
قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ
…
} الآية، مناسبتها لما قبلها (3): أن الله سبحانه وتعالى لما نهى كلًّا من الرجال والنساء عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض وأرشدهم إلى الاعتماد في أمر الرزق على كسبهم، وأمرهم أن يؤتوا الوارثين أنصبتهم، وفي هذه الأنصبة يستبين تفضيل الرجال على النساء .. ذكر هنا أسباب التفضيل.
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.
(3)
المراغي.
أسباب النزول
قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
…
} سبب نزوله (1): ما رواه الترمذي والحاكم عن أم سلمة أنها قالت: يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله قوله: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
…
}، وأنزل فيها {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ
…
}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل أفنحن في العمل هكذا، إن عملت المرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة، فأنزل الله {وَلَا تَتَمَنَّوْا
…
} الآية.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
…
} الآية أخرج (2) أبو داود في سننه من طريق ابن إسحاق عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد ابنة الربيع، وكانت مقيمة في حجر أبي بكر فقرأت:{والذين عاقدت أيمانكم} فقالت: لا ولكن {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ} وإنما نزلت في أبي بكر وابنه، حين أبى الإِسلام، فحلف أبو بكر أن لا يورثه، فلما أسلم أمره أن يؤتيه نصيبه.
قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ
…
} سبب نزوله: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعدي على زوجها أنه لطمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"القصاص"، فأنزل الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ
…
} الآية فرجعت بغير قصاص.
وروي أن سعد بن الربيع - كان نقيبًا من نقباء الأنصار - نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد، فلطمها فأنطلق معها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لتقتص منه"، فنزلت {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ، فقال:"أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا والذي أراد الله خير" وأخرج (3)
(1) لباب النقول.
(2)
لباب النقول.
(3)
لباب النقول.