المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى … } - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى … }

وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى

} إلى قوله: {ضَلَالًا بَعِيدًا} .

قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.

وأخرج ابن سعد في "الطبقات" بسنده عن محمود بن لبيد قال: عدا بشير بن الحارث على عُليَّة رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان، فنقبها من ظهرها، وأخذ طعامًا له ودرعين بأداتهما، فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فدعا بشيرًا فسأله، فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلًا من أهل الدار ذا حسب ونسب، فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ

} الآيات، فلما نزل القرآن في بشير وعثر عليه .. هرب إلى مكة مرتدًا، فنزل على سلافة بنت سعد، فجعل يقع في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المسلمين فنزل فيه: {وَمَن يشَاقِقِ اَلرَّسُولَ

} الآية، وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع، وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة.

التفسير وأوجه القراءة

‌101

- {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} وسافرتم أيها المؤمنون للغزو أو للتجارة أو غيرهما {فِي} بعض نواحي {الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} لا حرج ولا إثم في {أنْ تَقْصُرُوا} وتنقصوا، وتتركوا ركعتين {مِنَ} عدد ركعات {الصَّلَاة} الرباعية التي تصلونها في الحضر، بأن تصلوا الظهر والعصر والعشاء ركعتين {إِنْ خِفْتُمْ} وخشيتم {أَنْ يَفْتِنَكُمُ}؛ أي: أن يقصدكم {الَّذِينَ كَفَرُوا} بفتنة وأذية، من قتل أو جرح أو أخذ في حال إتمامكم الصلاة، وذكر الخوف ليس للشرط والقيد، وإنَّما هو لبيان الواقع، حيث كانت أسفارهم لا تخلو من خوف العدو؛ لكثرة المشركين وقتئذ، ويؤيده حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ خِفْتُمْ} وقد أمن؟ فقال: عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" رواه مسلم وأصحاب السنن. قال ابن كثير: وأمَّا قوله (1): {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد يكون هذا خرج

(1) ابن كثير.

ص: 321

مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الإِسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، كقوله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} وكقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} .. الآية.

وقد تقرر بالسنة المطهرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر مع الأمن، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم:"سافر بين مكة والمدينة لا يخاف إلا الله عز وجل، فكان يصلي ركعتين" فالقصر (1) مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من القصر مع الأمن فحينئذ فالقصر في السفر رخصة، سواء وجد خوف أم لا، ويدل على أن قيد الخوف لا مفهوم له قراءة أبي:{أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا} بسقوط: {إنْ خفتم} والمعنى على هذه القراءة: كراهية أن يفتنكم الذين كفروا. وقرأ (2) الزهري {تقصِّروا} مشددًا، وقرأ ابن عباس {أن تقصروا رباعيا} وبه قرأ الضبي عن رجاله، وقرأ أبي وعبد الله:{أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم} بإسقاط إن خفتم، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى؛ أي: مخافة أن يفتنكم، كما مر آنفًا.

ويؤخذ من قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أنَّه رخصة لا واجب، وعليه الشافعي؛ لأن {لَّا جُنَاحَ} يستعمل في موضع التخفيف والرخصة، لا في موضع العزيمة، بخلاف أبي حنيفة فإن القصر واجب عنده.

{إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} أي: ظاهري العداوة، فتحرزوا عنهم؛ أي: إن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين، وازدادت عداوتهم، وبسبب شدة العداوة قصدوا إتلافكم إن قدروا، فإنْ طالت صلاتكم .. فربما وجدوا الفرصة في قتلكم، فلأجل هذا رخصت لكم

(1) الشوكاني.

(2)

البحر المحيط.

ص: 322

في قصر الصلاة، لئلا يجدوا إلى قتلكم واغتيالكم سبيلًا، وإنَّما قال:{عَدُوًّا} ولم يقل: أعداء؛ لأنه يستوي فيه الواحد والجمع.

فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل

المسألة الأولى في حكم القصر: قصر الصلاة في حالة السفر جائز بإجماع الأمة، وإنَّما اختلفوا في جواز الإتمام في حال السفر، فذهب أكثر العلماء إلى أن القصر واجب في السفر، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة، وهو قول مالك وأبي حنيفة، ويدل عليه ما روي عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. وفي رواية أخرى قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، أخرجاه في "الصحيحين".

وذهب قوم إلى جواز الإتمام في السفر، ولكن القصر أفضل، يروى ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص، وإليه ذهب الشافعي وأحمد، وهو رواية عن مالك أيضًا، ويدل على ذلك ما روى البغوي بسند الشافعي عن عائشة قالت: كل ذلك قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قصر وأتمّ. وعن عائشة أنَّها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة .. قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت، قال: "أحسنت يا عائشة، وما عاب علي. أخرجه النسائي، وظاهر القرآن يدل على ذلك؛ لأن الله تعالى قال:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} . ولفظة {لَّا جُنَاحٌ} إنَّما تستعمل في الرخصة لا فيما يكون حتمًا كما مر، وأجيب عن حديث عائشة (فرض الله الصلاة ركعتين) بأن معناه: فرضت ركعتين أولًا، وزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار عليها، وثبت جواز الإتمام بدليل آخر، فوجب المصير إليه، ليمكن الجمع بين دلائل الشرع.

ص: 323

المسألة الثانية: اختلف في صلاة المسافر إذا صلى ركعتين، هل هي مقصورة أم غير مقصورة؟ فذهب قوم إلى أنَّها غير مقصورة؛ وإنَّما فرض صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر، يروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله، وإليه ذهب سعيد بن جبير والسدى وأبو حنيفة، فعلى هذا يكون معنى القصر المذكور في الآية: هو تخفيف ركوعها وسجودها، ولكن يعارض هذا المعنى لفظة {مِنَ} في الآية أعني قوله:{أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} لأن لفظة {مِنَ} للتبعيض، وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض ركعات الصلاة، وذهب قوم إلى أنَّها مقصورة وليست بأصل، وهو قول مجاهد وطاوس، وإليه ذهب الشافعي وأحمد.

المسألة الثالثة: ذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور إلى أنَّه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، أو سفر طاعة كطلب العلم، ولا يجوز القصر في سفر المعصية، كسفر ناشزة وآبق وقاطع طريق، وقال أبو حنيفة والثوري: يجوز ذلك.

المسألة الرابعة: اختلف العلماء في مسافة القصر، فقال داود الظاهري وأهل الظاهر: يجوز القصر في قصير السفر وطويله، ويروى ذلك عن أنس أيضًا، وقال عمرو بن دينار: قال لي جابر بن زيد: أقصر بعرفة. وأما عامة أهل العلم فإنَّهم لا يجوِّزون القصر في السفر القصير، واختلفوا في حد الطويل الذي يجوز فيه القصر، فقال الأوزاعي: مسيرة يوم، وكان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في رمضان في مسيرة أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، وقدر هذه المسافة المرحوم أحمد الحسيني بك في كتابه "دليل المسافر" بنحو (89 ك م)، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق، وقول الحسن والزهري قريب من ذلك، فإنهما قالا: مسيرة يومين، وإليه ذهب الشافعي فقال: مسيرة ليلتين قاصدتين ستة عشر فرسخًا، كل فرسخ ثلاثة أميال، فتكون ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرين إصبعًا معترضة معتدلة، والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، وقال الثوري وأبو حنيفة وأهل الكوفة: لا قصر في

ص: 324