المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ابن جرير من طرق عن الحسن، وفي بعضها أن رجلًا - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ابن جرير من طرق عن الحسن، وفي بعضها أن رجلًا

ابن جرير من طرق عن الحسن، وفي بعضها أن رجلًا من الأنصار لطم امرأته، فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص فنزلت:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ، ونزلت:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} .

وأخرج نحوه عن ابن جريج والسدي وأخرج ابن مردويه عن علي قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار بامرأة له، فقالت: يا رسول الله إنه ضربني، فأثر في وجهي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس له ذلك" فأنزل الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ

} الآية، فهذه شواهد يقوي بعضها بعضًا.

التفسير وأوجه القراءة

‌32

- {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} ؛ أي: لا تغتبطوا أيها المؤمنون كون ما فضل الله وخص به بعضكم، ورفعه به على بعض آخر من الأمور الدنيوية أو الدينية، كالجاه والمال والعلم والطاعة لأنفسكم، ولا تنافسوا فيه؛ لأن ذلك (1) التفضيل قسمة من الله، صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما ينبغي لكل من بسط في الرزق أو قبض، فعلى كل واحد أن يرضى بما قُسم له، ولا يحسد أخاه على حظه، فالحسد أن يتمنى أن يكون ذلك الشيء له ويزول عن صاحبه، والغبطة أن يتمنى مثلما لغيره، وهو مرخص فيه، والأول منهي عنه.

والتمني (2): هو التعلق بحصول أمر في المستقبل عكس التلهف؛ لأنه التعلق بحصول أمر في الماضي، فإن تعلق بانتقال ما لغيره له، أو لغيره مع زواله عنه، فهو حسد مذموم، وهو المعني بقوله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وفي ذلك قال الإِمام أحمد بن حنبل:

ألَا قُلْ لِمَنْ بَاتَ لِيْ حَاسِدَا

أَتَدْرِيْ عَلَى مَنْ أَسَأتَ الأدَبْ

(1) النسفي.

(2)

صاوي.

ص: 53

أَسَأتَ عَلَى اللهِ في فِعْلِهِ

كَأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِيْ مَا وَهَبْ

فَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَصَّنِي

وَسَدَّ عَلَيْكَ طَرِيْقَ الطَّلَبْ

وإن تعلق بمثل ما لغيره مع بقاء نعمته، فإن كان تقوى أو صلاحًا، أو إنفاق مال في الخير .. فهو مندوب، وهو المعني بقوله عليه الصلاة والسلام:"لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الخير، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ويعلمها الناس" وأما إن تمنى المال لمجرد الغنى .. فهو جائز.

قال ابن عباس (1): لا يتمنى الرجل مال غيره، ودابته وامرأته ولا شيئًا من الذي ثبت له، كالجاه وغير ذلك مما يجري فيه التنافس، وذلك هو الحسد المذموم؛ لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير لائق بأحوال العباد، متفرع على العلم بجلائل شؤونهم ودقائقها، {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} ، وقولوا: اللهم ارزقنا مثله أو خيرًا منه مع التفويض.

قيل: نزلت هذ الآية في حق أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ليت الله كتب علينا ما كتب على الرجال لكي نؤجر كما يؤجر الرجال، فنهى الله عن ذلك، وقال:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ} ؛ أي: الرجال {عَلَى بَعْضٍ} ؛ أي: النساء، من الجماعة والجمعة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بين الله ثواب كل من الرجال والنساء باكتسابهم فقال:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} ؛ أي: حظ من الثواب والأجر {مِمَّا اكْتَسَبُوا} ؛ أي: على ما اكتسبوا، وعملوا من الخيرات، كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنفقة على النساء. {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ}؛ أي: ثواب {مِمَّا اكْتَسَبْنَ} ؛ أي: على ما عملن من الخيرات في بيوتهن، كحفظ فروجهن وطاعة الله وأزواجهن، وقيامهن بمصالح البيت من الطبخ والخبز، وحفظ الثياب ومصالح المعاش وكالطلق والارضاع.

أي: إن الله (2) سبحانه وتعالى كلف كلًّا من الرجال والنساء أعمالًا، فما

(1) مراح.

(2)

المراغي.

ص: 54

كان خاصًّا بالرجال لهم نصيب من أجره لا يشاركم فيه النساءُ، وما كان خاصًّا بالنساء لهن نصيب من أجره، لا يشاركهن فيه الرجال، وليس لأحدهما أن يتمنى ما هو مختص بالآخر، وقد أراد أن يختص النساء بأعمال البيوت، والرجالُ بالأعمال الشاقة التي في خارجها، ليتقن كل منهما عمله، ويقوم بما يجب عليه مع الإخلاص.

وعلى كل منهما أن يسأل ربه الإعانة، والقوة على ما نيط به من عمل، ولا يجوز أن يتمنى ما نيط بالآخر، ويدخل في هذا النهي تمني كل ما هو من الأمور الخلقية، كالعقل والجمال؛ إذ لا فائدة في تمنيها لمن لم يعطها، ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الأمور الكسبية؛ إذ يحمد من الناس أن ينظر بعضهم إلى ما نال الآخرون، ويتمنوا لأنفسهم مثله أو خيرًا منه بالسعي والجد.

والخلاصة: أنه تعالى طلب إلينا أن نوجه الأنظار والأفكار إلى ما يقع تحت كسبنا، ولا نوجهها إلى ما ليس في استطاعتنا، فإنما الفضل بالأعمال الكسبية، فلا تتمنوا شيئًا بغير كسبكم وعملكم، فعلى المسلم أن يعتمد على مواهبه وقواه في كل مطالبه، بالجد والاجتهاد، مع رجاء فضل الله فيما لا يصل إليه كسبه، إما للجهل به وإما للعجز عنه، فالزارع مثلًا يجتهد في زراعته، ويتبع السنن والأسباب التي سنها الله تعالى لعمله، ويسأل الله أن يمنع الآفات والجوائح عنه.

روى عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن: وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فنزلت:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ} سبحانه وتعالى أيها المؤمنون والمؤمنات ما احتجتم إليه من حوائج الدين والدنيا، يعطكم {مِن} خزائن {فَضْلِهِ} وإحسانه وإنعامه، فإن خزائنه مملوءة لا تنفذ، ولا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم.

قال الفخر الرازي (1): قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} تنبيه على أن

(1) الفخر الرازي.

ص: 55