المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

رسول الله، ما ينبغي أن نفارقك فإنك لو قدْ مِتَّ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: رسول الله، ما ينبغي أن نفارقك فإنك لو قدْ مِتَّ

رسول الله، ما ينبغي أن نفارقك فإنك لو قدْ مِتَّ لرفعت فوقنا، ولم نرك، فأنزل الله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ

} الآية.

وأخرج عن عكرمة قال: أتى فتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، إن لنا منك نظرة في الدنيا، ويوم القيامة لا نراك فإنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت معي في الجنة إن شاء الله" وأخرج ابن جرير نحوه من مرسل سعيد بن جبير ومسروق والربيع وقتادة والسدي.

التفسير وأوجه القراءة

‌58

- {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى، {يَأمُرُكُمْ} أيها المكلفون، {أَنْ تُؤَدُّوا} وتسلموا {الْأَمَانَاتِ} التي إئتمنتم عليها {إِلَى أَهْلِهَا} ومستحقيها، وتردوها إليهم فورًا، لما حكى الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا .. أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات، أو من باب الدنيا والمعاملات؛ لأن الآية وإن نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة كما مر، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقرىء:{أن تؤدوا الأمانة} بالإفراد، كما ذكره أبو حيان.

والأمانة على ثلاثة أنواع (1):

الأول: أمانة العبد مع ربه، وهي ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به، والانتهاء عما نهاه عنه، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه، وقد ورد في الأثر:"إن المعاصي كلها خيانة لله عز وجل".

والثاني: أمانة العبد مع الناس، ومن ذلك رد الودائع إلى أربابها، وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك، مما يجب للأهل والأقربين وعامة الناس والحكام. ويدخل في ذلك عدل الأمراء مع الرعية، وعدل العلماء مع العوام،

(1) المراغي.

ص: 163

بأن يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم، من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال، ومن المواعظ والأحكام التي تقوي إيمانهم، وتنقذهم من الشرور والآثام، وترغبهم في الخير والإحسان، وعدل الرجل مع زوجه بأن لا يفشي أحد الزوجين سرًّا للآخر، ولا سيما السر الذي يختص بهما، ولا يطلع عليه عادة غيرهما.

والثالث: أمانة الإنسان مع نفسه؛ بأن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأصلح والأنفع له في الدين والدنيا، وأن لا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه، ويتوقى أسباب الأمراض والأوبئة بقدر معرفته، وما يعرف من الأطباء، وذلك يحتاج إلى معرفة علم الصحة ولا سيما في أوقات انتشار الأمراض والأوبئة.

فكل هذه الأنواع داخلة في الأمانة التي أمر الله سبحانه وتعالى بأدائها إلى أهلها.

وروى البغوي بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".

{و} إن الله سبحانه وتعالى يأمركم {إذا حكمتم بين الناس} إذا أردتم الحكم بين الناس {أن تحكموا} بينهم {بالعدل} ؛ أي: بالحكم الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا". أخرجه مسلم.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم عنده مجلسًا، إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسًا إمام جائر". أخرجه الترمذي.

والحكم بين الناس له طرق منها: الولاية العامة والقضاء وتحكيم المتخاصمين لشخص في قضية خاصة. والحكم بالعدل يحتاج إلى أمور:

ص: 164

الأول: فَهْم الدعوى من الدعي، والجواب من المدعى عليه؛ ليعرف موضع التنازع والتخاصم بأدلته من الخصمين.

والثاني: خلو الحاكم من التحيز والميل إلى أحد الخصمين.

والثالث: معرفة الحاكم الحكم الذي شرعه الله تعالى؛ ليفصل بين الناس على مثاله من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة.

والرابع: تولية القادرين على القيام بأعباء الأحكام.

وقد أمر المسلمون بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق، قال تعالى:{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} ، وقال تعالى:{اعدلوا هو أقرب للتقوى} ، ثم بَيَّن حسن العدل وأداء الأمانة، فقال:{إن الله} سبحانه وتعالى {نعما يعظكم به} ؛ أي: نعم الشيء الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس؛ إذ لا يعظكم إلا بما فيه صلاحكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة. قرأ الجمهور بكسر النون إتباعًا لحركة العين؛ لأن أصله: نعم على وزن شهد، وقرأ بعض القراء بفتح النون على الأصل، وقرأ أبو عمرو بكسر النون وسكون العين.

{إنَّ اللهَ} سبحانه وتعالى {كاَنَ سميعًا} لكل المسموعات، يسمع ذلك الحكم إذا حكمتم بالعدل، {بَصِيرًا} لكل المبصرات، يبصركم إذا أديتم الأمانة، فيجازيكم على ما يصدر منكم.

والمعنى: فعليكم أن تعملوا بأمر الله ووعظه، فإنه أعلم منكم بالمسموعات والمبصرات، فإذا حكمتم بالعدل .. فهو سميع لذلك الحكم، وإن أديتم الأمانة .. فهو بصير بذلك، فيجازيكم على كل الأفعال والأقوال، وفي هذا وعد عظيم للمطيع ووعيد شديد للعاصي.

وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه .. فإنه يراك" متفق عليه. وفيه أيضًا إيماء إلى الاهتمام بحكم القضاة والولاة؛ لأنه قد فوض إليهم النظر في مصالح العباد، وبعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بأداء

ص: 165