المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٨

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ

الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} .

قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ

} الآية، سبب (1) نزولها: أنه لما نزل قوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ

} قال القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فنزلت هذه الآية. رواه العوفي عن ابن عباس.

التفسير وأوجه القراءة

‌82

- وعزتي وجلالي {لَتَجِدَنَّ} يا محمد {أَشَدَّ النَّاسِ} وأكثرهم وأبلغهم، والناس هنا: الكفار؛ أي: ولتجدن أشد الكفار {عَدَاوَةً} وبُغضًا {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به {الْيَهُودَ} يعني: يهود بني قريظة والنضير وفدك وخيبر وغيرهم من سائر يهود الحجاز؛ لشدة شكيمتهم - إبائهم وأنفتهم من الحق - وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وقربهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما خلا يهوديان بمسلم إلا همَّا بقتله". وقد قال بعضهم: مذهب اليهود: أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان، فإن قدروا على القتل فذاك، وإلا فبغصب المال، أو بالسرقة، أو بنوع من الحيلة. وأما النصارى: فليس مذهبهم ذلك، بل الإيذاء حرام في دينهم.

وذكر الله تعالى فيما سيأتي آنفًا أن النصارى ألين عريكة - أسهل خلقًا - من اليهود، وأقرب إلى المسلمين منهم.

{وَ} لتجدن أيضًا أشدهم عداوة للذين آمنوا {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} ؛ أي: المشركين من أهل مكة عبدة الأوثان، الذين اتخذوها آلهة يعبدونها من دون الله، وأشد ما لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من العداوة والإيذاء كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب ولا سيما مكة وما قرب منها، وقد كان اليهود والمشركون مشتركين في بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت عداوتهم الشديدة

(1) زاد المسير.

ص: 11

للمؤمنين، كالكبر والعتو، والبغي وغلبة الحياة المادية، والأثرة والقسوة، وضعف عاطفة الحنان والرحمة، والعصبية الجنسية، والحمية القوية، ولكن مشركي العرب - على جاهليتهم - كانوا أرق من الحهود قلوبًا، وأعظم سخاءً وإيثارًا، وأكثر حرية في الفكر واستقلالًا في الرأي. وقدَّم سبحانه ذكر اليهود؛ للإشارة إلى تفوقهم على العرب فيما وصفوا به فضلًا عما امتازوا به من قتل بعض الأنبياء، وإيذاء بعض آخر، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل، ولم يكن ميلهم مع المسلمين في البلاد المقدسة والشام والأندلس قبل هذه الواقعة العصرية إلا ميلًا وراء مصلحتهم الخاصة؛ إذ هم تفيؤوا ظلال عدلهم، واستراحوا به من اضطهاد النصارى في تلك البلاد. و {لتَجِدَنَّ}؛ أي: وعزتي وجلالي لتجدن يا محمد {أَقْرَبَهُمْ} ؛ أي: أقرب الناس {مَوَدَّةً} ؛ أي: محبة وميلًا {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بك وصدقوك {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ؛ أي: أنصار دين الله، وموادون لأهل الحق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة؛ بحماية المهاجرين الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإِسلام من مكة إلى الحبشة خوفًا عليهم من مشركيها، الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء ليفتنوهم عن دينهم.

ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتبه إلى الملوك ورؤساء الشعوب .. كان النصارى منهم أحسنهم ردًّا، فهرقل ملك الروم في الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإِسلام، فلم يستطع لجمودهم على التقليد، فاكتفى بالرد الحسن. والمقوقس عظيم القبط في مصر كان أحسن منه ردًّا - وإن لم يكن أكثر منه ميلًا إلى الإِسلام - وأرسل للنبي صلى الله عليه وسلم هدية حسنة، ثم لما فتحت مصر والشام، وعرف أهلهما ما للإسلام من مزايا .. هرعوا إلى الدخول في الدين أفواجًا، وكان القبط أسرع إليه قبولًا.

والخلاصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به رأوا في عصره من مودة النصارى وقربهم من الإِسلام بقدر ما رأوا من عداوة اليهود والمشركين، وأن من توقف من ملوكهم عن الإِسلام، فما كان توقفه إلا ضنًّا بملكه، وأن النجاشي - أصحمة ملك الحبشة - قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا، ولكن الإِسلام لم ينتشر في الحبشة بعد موته، ولم يهتم المسلمون بإقامة دينهم في تلك البلاد كما فعلوا في مصر والشام.

ص: 12

قلتُ: هذا في الزمان الأول، وإلا فالآن المسلمون في الحبشة ثمانون في المئة، حتى تداول فيها سبعون أميرًا من أمراء السلمين قبل أن يأخذها استئمار الأمحار بمساعدة الأوروبيين لهم على محاربة المسلمين.

وإنما أسند (1) تسميتهم نصارى إليهم دون تسمية اليهود؛ للإشعار بقرب مودتهم، حيث يدَّعون أنهم أنصار الله، وأَوِدَّاءُ أهل الحق، وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإِسلام، فتسميتهم نصارى ليست حقيقة، بخلاف تسمية اليهود يهودًا فإنها حقيقة، سواء سموا بذلك لكونهم أولاد ابن يعقوب: يهودا، أو لكونهم تابوا عن عبادة العجل، أو لترجيعهم في دراستهم إن قلنا: من تهود بمعنى: رجع ومطّط في الدراسة، ولكن ما رأينا في كتب اللغة: تهود بمعنى: تحرك في الدراسة، كما قاله أبو العلاء المعري.

فإن قلت: كافر (2) النصارى أشد من كفر اليهود؛ لأن النصارى ينازعون في الألوهية، فيدعون لله ولدًا، واليهود إنما ينازعون في النبوة، فينكرون نبوة بعض الأنبياء، فلِمَ ذم اليهود ومدح النصارى؟

قلتُ: هذا مدح في مقابلة ذم، وليس مدحًا على الإطلاق، وأيضًا الكلام في عداوة المسلمين وقرب مودتهم، لا في شدة الكفر وضعفه، وقد قال بعضهم: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين، ومذهب النصارى أن الأذى حرام، فحصل الفرق بين اليهود والنصارى كما مر آنفًا.

وقيل: إن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد، وطلب الرياسة، ومن كان كذلك .. كان شديد العداوة لغيره، وأما النصارى: فإن فيهم من هو معرض عن الدنيا ولذاتها، وترك طلب الرياسة، ومن كان كذلك .. فإنه لا يحسد أحدًا، ولا يعاديه، بل يكون ألين عريكة - أخلاقًا - في طلب الحق، فلهذا قال:{ذَلِكَ} ؛ أي: كونهم أقرب مودة للمؤمنين {بِأَنَّ مِنْهُمْ} ؛ أي: بسبب أن منهم {قِسِّيسِين} ؛ أي: علماء {وَرُهْبَانًا} ؛ أي: عبادًا، أصحاب صوامع {وَأَنَّهُمْ لَا

(1) المراح.

(2)

الفتوحات.

ص: 13