المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يكون ناشئًا عن بادرة غضب من زوجة أو ولد، كمن - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٨

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: يكون ناشئًا عن بادرة غضب من زوجة أو ولد، كمن

يكون ناشئًا عن بادرة غضب من زوجة أو ولد، كمن يحلف بالله أو بالطلاق أن لا يأكل من هذا الطعام أو نحوه من المباحات، أو يقول: إن فعل كذا .. فهو بريء من الإِسلام أو من الله ورسوله أو نحو ذلك، وكل هذا منهي عنه شرعًا، ولا يحرم على أحد شيء منها يحرمه على نفسه بهذه الأقوال، ولا كفارة في يمين يحلفه الحالف في نحو ذلك عند الشافعي.

وتحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس هو من العبادات المأثورة عند قدماء اليهود واليونان، قلَّدهم فيها أهل الكتاب خصوصًا النصارى، فإنهم قد شددوا على أنفسهم، وحرَّموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة على ما فيها من الشدة والصرامة والمبالغة في الزهد، ولما جاء الإِسلام وأرسل الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم خير خاتم النبيين بما فيه السعادة التامة للبشر في دنياهم وآخرتهم .. أباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات، وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه، والروح حقها، فالإنسان ما هو إلا روح وجسد، فيجب العدل بينهما، وبذا كانت الأمة الإِسلامية أمة وسطًا تشهد على جميع الأمم، وتكون حجة عليها يوم القيامة.

والحكمة في ذلك النهي: أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يستعمل عباده نعمه فيما خلقت لأجله، ويشكروه على ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم، فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها بإباحة ما حرمه، أو ترك ما فرضه، وقد أشار إلى ذلك بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} وورد في الأثر: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا".

‌88

- {وَكُلُوا} أيها المؤمنون {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} تعالى وأعطاكم حالة كونه {حَلَالًا} في نفسه لا من المحرمات، كالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ونحو ذلك، وحالة كونه {طَيِّبًا} في كسبه وتناوله؛ بأن لا يكون رِبًا ولا سحتًا ولا سرقة ولا غصبًا مثلًا، مع كونه مستلذًا غير مستقذرٍ لذاته أو لطارئ يطرأ عليه من فساد أو تغير لطول مكث ونحوه. والأكل في الآية يراد به التمتع الشامل للشرب ونحوه، وإنما خص الأكل بالذكر؛ لأنه أغلب الانتفاع بالرزق من حلال غير

ص: 22

مسكر ولا ضار، ومن كل طيب غير مستقذر في ذاته أو لطارئ عليه.

والخلاصة: (1) أنه ينبغي للمؤمن أن يتمتع بما تيسر له من الطيبات بلا تأثم ولا تحرج، ويحضر قلبه أنه عامل بشرع الله مقيم لسنة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، شاكرًا له بالاعتراف والحمد والثناء عليه، كما أن امتناعه عن الطيبات التي رزقه إياها مع الداعية الفطرية إلى الاستمتاع بها إثمٌ يجنيه على نفسه في الدنيا، ويستحق به عقاب الآخرة؛ لزيادته في دين الله قربات لم يأذن بها، ولإضاعة حقوق الله وحقوق عباده، كإضاعة حقوق امرأته وعياله.

والتحريم والتحليل تشريع، وهو من حقوق الله، فمن انتحله لنفسه كان مدعيًا الربوبية أو كالمدعي لها، وعن الحسن البصري: إن الله أدب عباده فأحسن أدبهم فقال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} ما عاب الله قومًا وسع عليهم الدنيا، فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قومًا زواها عنهم فعصوه. وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذج - حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل - ويقول: لا أؤدي شكره، قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم، قال: إنه جاهل، إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثرُ من نعمته عليه في الفالوذج.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} ؛ أي: وخافوا عقاب الله الذي آمنتم به في الأكل واللباس والنساء وغيرها، فلا تفتنتوا عليه في تحليل ولا تحريم، ولا تعتدوا حدوده فيما أحل وما حرم؛ إذ من جعل شهوة بطنه أكبر همه .. كان من المسرفين، ومن بالغ في الشبع وعرَّض معدته وأمعائه للتخمة .. كان من المسرفين، ومن أنفق في ذلك أكثر من طاقته، وعرض نفسه لذل الدَّين أو أكل أموال الناس بالباطل .. فهو من المسرفين، والله يقول:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وقيل: المعنى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ؛ أي: امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، فتقوى الله لا تتوقف على الرهبانية كما كان في الأمم السابقة.

والخلاصة: أن هدي القرآن في الطيبات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة

(1) المراغي.

ص: 23