الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صدق أنبائه وأخباره على الزمان .. بين في هذه الآيات السبيل في معاملة من يخوض في آيات الله بالباطل، ومن يتخذ دين الله هزوًا ولعبًا من الكفار الذين لم يجيبوا الدعوة.
أسباب النزول
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ
…
} الآيات، سبب نزولها (1): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ
…
} الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف"، قالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال بعض الناس:"لا يكون هذا أبدًا أن يقتل بعضنا بعضًا، ونحن مسلمون"، فنزلت:{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)} .
التفسير وأوجه القراءة
59
- {وَعِنْدَهُ} سبحانه وتعالى خاصة {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ؛ أي: مخازن الغيب أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن؛ أي: له سبحانه وتعالى علم الأمور المغيبة المخفية عن غيره، من الأرزاق والأمطار والآجال والعذاب والثواب والحساب والجزاء وغيرها.
وقرىء: {مفاتيح} بالياء. {لَا يَعْلَمُهَا} ؛ أي: لا يعلم تلك الأمور المغيبة ولا يحيط بها {إِلَّا هُوَ} سبحانه وتعالى، وهذه الجملة الفعلية مؤكدة لمضمون الجملة التي قبلها، ويندرج تحت مضمون هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب اندراجًا أوليًّا، كما يدل عليه السياق، فهو سبحانه وتعالى الذي يحيط بها، وسواه جاهل بذاته، لا يعلم منها شيئًا إلا بإعلامه عز وجل، فعلينا أن نفوِّض إليه إنجازه وعده لرسله بالنصر، ووعيده لأعدائه بالعذاب والقهر، وأن نجزم بأنه لا يُخلف وعده رسله، وإنما يؤخر تنفيذه إلى الأجل الذي اقتضته حكمته.
(1) لباب النقول.
روى البخاري (1) عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} ".
وما حكاه الله تعالى عن عيسى عليه السلام من قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} ، وما قاله يوسف عليه السلام لصاحبي السجن:{لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} داخل فيما يظهر الله عليه رسله من علم الغيب، كما قال تعالى في سورة الجن:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، وجاء في معنى الآية: قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)} .
وروى البخاري عن عمران بن حصين مرفوعًا: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض".
وفي (2) هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلي الإِسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:"من أتى كاهنًا أو منجمًا .. فقد كفر بما أنزل الله على محمد".
{وَيَعْلَمُ} سبحانه وتعالى {مَا فِي الْبَرِّ} من النبات والدواب {و} ما في {البحر} من الحيوان والجواهر وغيرهما. وإنما (3) قدم ذكر البر؛ لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر، وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال والحيوان والنبات والمعادن. وإنما أخر البحر في الذكر؛ لأن إحاطة العقل بأحواله أقل، لكن الحس يدل على أن عجائب البحر أكثر، وأجناس المخلوقات فيه أعجب، وأن طول البحر وعرضه أعظم.
(1) المراغي.
(2)
الشوكاني.
(3)
المراح.
وقال مجاهد (1): البر: المفاوز والقفار، والبحر: المدن والقرى فيه والأمصار، لا يحدث فيها شيء إلا وهو يعلمه. وقال جمهور المفسرين: هما البر والبحر المعروفان؛ لأن جميع الأرض إما بر، وإما بحر، وفي كل واحد منهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه. والمعنى: أي: وعنده سبحانه وتعالى علم ما لم يغب عنكم؛ لأن ما فيهما ظاهر للعين، يعلمه العباد، وعلمه تعالى بما فيهما علم مشاهدة مقابل لعلم الغيب.
والخلاصة: أن عنده تعالى علم ما غاب عنكم مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه، وعنده علم ما يعلمه جميعكم لا يخفى عليه شيء منه، فعنده علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة. {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ}؛ أي: وما تسقط ورقة واحدة من أوراق الشجر أو النجم، ولا تبقى عليه في الصحارى والبراري، أو في الأمصار والقرى {إِلَّا يَعْلَمُهَا}؛ أي: إلا والحال أنه سبحانه وتعالى عليم بالساقطة منها والباقية، ويعلم زمان سقوطها، ومكانه، وعدد الساقطة والباقية وأحوالها قبل السقوط وبعده.
{وَلَا} من {حَبَّةٍ} ملقاة {فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} وبطونها لتنبت، قيل: هي الحبة المعروفة تلقى في بطن الأرض قبل أن تنبت، وقيل: هي الحبة التي في الصخرة التي تحت الأرضين السبع. {وَلَا} من {رَطْبٍ} ، وهو كل ما ينبت، وقيل: الحي {وَلَا} من {يَابِسٍ} وهو كل ما لا ينبت، وقيل: الميت، وقيل: هما عبارة عن كل شيء؛ لأن جميع الأشياء إما رطبة أو يابسة {إِلَّا} هو {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ؛ أي: إلا كان كل ما ذكر ثابتًا مكتوبًا في كتاب مبين؛ أي: موضح مبين مقدارها ووقتها ومكانها، وهو اللوح المحفوظ.
فإن قلت (2): إن جميع هذه المذكورات داخلة تحت قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} فلِمَ أفردها بالذكر؟
قلتُ: ذكرها من قبيل التفصيل بعد الإجمال، وقد ذكر البر والبحر لما فيهما
(1) الخازن.
(2)
الفتوحات.
من العجائب، ثم الورقة؛ لأنها يراها كل أحد، لكن لا يعلم عددها إلا الله، ثم ذكر ما هو أضعف من الورقة، وهو الحبة، ثم ذكر مثالًا يجمع الكل، وهو الرطب واليابس، فذكر هذه الأشياء، وأنه لا يخرج شيء منها عن علمه سبحانه وتعالى، فصارت الأمثال منبهة على عظمة عظيمة، وقدرة عالية، وعلم واسع، فسبحان العلم الخبير.
وعبارة "المراغي" هنا: {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ؛ أي: وما (1) تسقط من حبَّة بفعل الإنسان باختياره، كالحب الذي يلقيه الزراع في بطون الأرض يسترونه بالتراب، فيحجب عن ضوء النهار، أو تذهب به النمل في قراها وحجورها، أو بغير فعل الإنسان؛ كالذي يسقط من النبات في الشقوق والأخاديد، وما يسقط من الثمار رطبًا ويابسًا إلا وهو في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ الذي كتب ذلك فيه، وكتب عدده، والوقت الذي يوجد فيه، والذي يفنى فيه، وجعل الكتاب مبينًا؛ لأنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم عليه، هذا هو الذي اختاره الزجاج لقوله في الآية الأخرى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} ، واختار الرازي أن الكتاب المبين: علم الله تعالى الذي يشبه المكتوب في الصحف بثباته وعدم تغيره.
واتفق (2) علماء التفسير بالمأثور على تفسير الكتاب المبين وأم الكتاب والذكر في نحو ما تقدم من الآيات والأحاديث باللوح المحفوظ، وهو شيء أخبر الله به، وأنه أودعه كتابه ولم يعرفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن بأنه شيء موجود، وأن الله قد حفظ كتابه فيه، وأما دعوى أنه جرم مخصوص في سماء معينة .. فمما لم يثبت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم بالتواتر، فلا ينبغي أن يدخل في باب العقائد لدى المؤمنين.
وروي عن الحسن: أن حكمة كتابة الله لمقادير الخلق تنبيه المكلفين إلى عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب. وزاد بعضهم حكمتين أخريين:
(1) المراغي.
(2)
المراغي.