المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقف على معاني كلام العرب، وذلك أنه تعالى بيَّن كون - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٨

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: وقف على معاني كلام العرب، وذلك أنه تعالى بيَّن كون

وقف على معاني كلام العرب، وذلك أنه تعالى بيَّن كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه، فذكر أن عاقبة كفرهم وشركهم الذي لزموه طول أعمارهم، وقاتلوا عليه، وافتخروا به، وقالوا: إنه دين آبائنا، لم تكن إلا جحوده، والتبرؤ منه، والحلف على عدم التدين به، ونظير هذا في اللغة أنك ترى إنسانًا يحب شخصًا غاويًا مذموم الطريقة، فإذا وقع في هلكة بسببه .. تبرأ منه فيقال له: ما كانت محبتك - عاقبة محبتك - لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته انتهى. وعلى هذا فالفتنة: هي شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس، ويكون في الكلام تقدير مضاف هو كلمة: عاقبة كما قدمنا ذلك. وقيل (1): المراد بالفتنة هنا: جوابهم؛ أي: لم يكن جوابهم إلا الجحود والتبرؤ، فكان هذا الجواب فتنة لكونه كذبًا.

وقرأ الجمهور (2): {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ} بالتاء. وقرأ حمزة والكسائي بالياء: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ} . وقرأ أبي وابن مسعود والأعمش: {وما كان فتنتهم} . وقرأ طلحة وابن مطرف: {ثم ما كان} . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص: {فِتْنَتُهُمْ} بالرفع. وقرأت فرقة: {ثم لم يكن} بالياء، و {فتنتهم} بالرفع، وإعراب هذه القراءات واضح، والبخاري منها على الأشهر قراءة:{ثم لم يكن فتنتهم} بالياء بالنصب؛ لأن أن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر، وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف .. فذكروا أن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم، وما دونه هو الخبر، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} وفي قوله: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} . وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين: {وَاللهِ رَبِّنَا} برفع الاسمين، قال ابن عطية: وهذا على التقديم والتأخير؛ أي: قالوا: ما كنا مشركين، والله ربنا. وقرأ حمزة والكسائي وخلف:{ربَّنا} بنصبه على النداء، أو المدح، والباقون بالكسر.

‌24

- {انْظُرْ} يا محمد؛ أي: فكر وتأمل بعين البصيرة إلى حال هؤلاء المشركين

(1) الشوكاني.

(2)

البحر المحيط.

ص: 248

{كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الكذب الصريح بإنكار صدور الإشراك منهم في الدنيا؛ حيث قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين {وَضَلَّ عَنْهُمْ} ؛ أي: وانظر أيضًا كيف ضل وغاب عنهم {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ؛ أي: يختلقون ويكذبون بألوهيته وشفاعته لهم من شركائهم وأصنامهم، فلم تغنِ عنهم شيئًا، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم، وهذا على جعل {مَا} موصولًا اسميًّا واقعة على الآلهة. ويحتمل أن تكون مصدرية، والمعنى عليه: انظر يا محمد كيف كذبوا باليمين الفاجرة بإنكار صدور ما صدر منهم في الدنيا من الإشراك، وكيف ضل وذهب عنهم افتراؤهم، وتلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من أن الشركاء يقربونهم إلى الله حتى نفوا صدوره منهم بتاتًا، وتبرؤوا منه غاية البراءة؟

وهذا تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حالهم المختلفة ودعواهم المتناقضة.

وقال (1) مجاهد: إذا جمع الله الخلائق، ورأى المشركون سعة رحمة الله تعالى، وشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد، فهذا قال الله لهم: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ قالوا: واللهِ ربنا ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم، فتشهد عليهم جوارحهم.

فإن قلت (2): كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟

قلتُ: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرةً ودهشًا، ألا تراهم يقولون: ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا .. فإنا ظالمون، وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، وقالوا: يا مالك ليقض علينا ربك، وقد علموا أنه لا يقضى عليهم.

الإعراب

{قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى

(1) النسفي.

(2)

البحر المحيط. [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نقله في البحر عن "الزمخشري" في الكشاف، ثم إنه قد وقع خلل طباعي في عزو الحواشي في هذه القطعة، وأصلحناه قدر الطاقة]

ص: 249

يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}.

{قُلْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ} إلى قوله:{قُلْ} مقول محكي لـ {قُلْ} ، وإن شئت قلت:{لِمَنْ} : {اللام} حرف جر. {من} : اسم استفهام في محل الجر باللام، الجار والمجرور متعلق بمحذوف وجوبًا خبر مقدم لـ {مَا} الموصولة. {مَا} موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {في السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {ما} ، أو صفة لها. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} . {قُلْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لِلَّهِ}: جار ومجرور خبر لمحذوف تقديره: هو الله، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {كَتَبَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله. {عَلَى نَفْسِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {كَتَبَ}. {الرَّحْمَةَ}: مفعول به لـ {كَتَبَ} ، والجملة الفعلية مستأنفة، أو في محل النصب حال من الجلالة. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}:{اللام} موطئة للقسم. {يجمعن} : فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والكاف: ضمير المخاطبين في محل النصب مفعول به. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بيجمع، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. وقيل (1): موضعه نصب بدلًا من {الرَّحْمَةَ} . {لَا} : نافية تعمل عمل إن. {رَيْبَ} : في محل النصب اسمها. {فِيهِ} : جار ومجرور خبر {لَا} ، وجملة {لَا} في محل النصب حال من {يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. {الَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ أول. {خَسِرُوا} : فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {أَنْفُسَهُمْ}: مفعول به ومضاف إليه. {فَهُمْ} : الفاء: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه المبتدأ بالشرط، {هم}: مبتدأ ثانٍ، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} في محل الرفع خبر المبتدأ الثاني،

(1) العكبري.

ص: 250

والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

{وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)} .

{وَلَهُ} الواو: استئنافية. {له} : جار ومجرور خبر مقدم. {مَا} : موصولة أو موصوفة، في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة وفي (1) "السمين ": قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ} جملة اسمية فيها قولان: أظهرهما: أنها مستأنفة إخبارًا بذلك، والثاني: أنها في محل النصب معطوفة على قوله: {لله} ؛ أي: على الجملة المحكية بـ {قل} ؛ أي: قل: هو لله، وقيل: له ما سكن. {سَكَنَ} : فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَا} ، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها. {في اللَّيْلِ}: جار ومجرور متعلق بـ {سَكَنَ} . {وَالنَّهَارِ} : معطوف على الليل، {وَهُوَ} مبتدأ. {السَّمِيعُ} خبر أول. {الْعَلِيمُ}: خبر ثانٍ، أو صفة لـ {السَّمِيعُ} ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، أو مستأنفة.

{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} .

{قُلْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} مقول محكي لـ {قل} ، وإن شئت قلت:{أَغَيْرَ اللهِ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري حقها أن تدخل على اتخذ، ولكن (2) لما كان الإنكار لاتخاذ غير الله وليًّا، لا لاتخاذ الولي مطلقًا .. دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل، والمراد بالولي هنا: المعبود؛ أي: كيف اتخذ غير الله معبودًا. {غير الله} : مفعول أول ومضاف إليه. {أَتَّخِذُ} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. {وَلِيًّا}: مفعول ثانٍ له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قُلْ} . ويجوز (3) أن يكون اتخذ متعديًا إلى واحد، وهو: وليًّا، و {غير الله} صفة له قدمت عليه فصارت حالًا، ولا يجوز

(1) الفتوحات.

(2)

الشوكاني.

(3)

العكبري.

ص: 251

أن تكون غير هنا استثناء. {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} : بدل من الجلالة ومضاف إليه، أو صفة له، وقد تعرف بالإضافة؛ لأنه بمعنى الماضي. {وَالْأَرْضِ}: معطوف على {السَّمَاوَاتِ} . {وَهُوَ} مبتدأ. {يُطْعِمُ} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في مجل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَلَا يُطْعَمُ}: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {يُطْعِمُ} .

{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

{قُلْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنِّي أُمِرْتُ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ} ، وإن شئت قلت {إِنِّي}: حرف نصب، والياء اسمها. {أُمِرْتُ}: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إنّ} تقديره: إني مأمور بأن أكون، وجملة {إنّ} في محل النصب مقول {قُل}. {أنْ أَكُونَ}: ناصب وفعل مضارع، واسمه ضمير يعود على محمد. {أَوَّلَ مَنْ}: خبر {أَكُونَ} ، ومضاف إليه، وجملة {أَنْ أَكُونَ} في تأويل مصدر مجرور بالباء المقدرة تقديره: قل إني أمرت بكوني أول من أسلم. {أَسْلَمَ} : فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} ، والجملة الفعلية صلة الموصول. {وَلَا}: الواو: عاطفة. {لا} : ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ} : فعل مضارع في محل الجزم بـ {لا} الناهية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على محمد. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: جار ومجرور خبر {تَكُونَنَّ} ، وجملة {تَكُونَنَّ} في محل الجر معطوفة على جملة قوله:{أَنْ أَكُونَ} ، والتقدير: إني مأمور بكوني أول من أسلم، وبعدم كوني من المشركين. وفي "الفتوحات": قوله: {وَلَا تَكُونَنَّ} معطوف على {أُمِرْتُ} بتقدير عامل؛ أي: وقيل لي: ولا تكونن من المشركين، والمعني: إني أمرت بما ذكر، ونهيت عن الإشراك. اهـ شيخنا.

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} .

{قُلْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنِّي

ص: 252

أَخَافُ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ} ، وإن شئت قلت {إنّ}: حرف نصب، والياء اسمها. {أَخَافُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنْ} وجملة {إِنْ} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {إِنْ} حرف شرط. {عَصَيْتُ رَبِّي}: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، في محل الجزم بـ {إِنْ} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب {إِنْ} معلوم مما قبلها تقديره: إن عصيت ربي .. أخاف عذاب يوم عظيم، وجملة {إِنْ} الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين الفعل الذي هو أخاف ومفعوله الذي هو عذاب يوم عظيم. {عَذَابَ} مفعول {أَخَافُ} ، وهو مضاف. و {يَوْمٍ}: مضاف إليه. {عَظِيمٍ} : صفة لـ {يَوْمٍ} .

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} .

{مَنْ} : اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما {يُصْرَفْ}: فعل مضارع مجهول أو معلوم، مجزوم بـ {مَنْ} على كونه فعل شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على العذاب، أو فاعله ضمير يعود على الله؛ أي: أيُّ شخص يصرف العذاب عنه، أو: أيَّ شخص يصرف الله العذاب عنه {عَنْهُ} : جار ومجرور متعلق بـ {يُصْرَفْ} . وكذا الظرف في قوله: {يَوْمَئِذٍ} متعلق به. {فَقَدْ} : الفاء: رابطة لجواب {مَنْ} الشرطية وجوبًا؛ لكونه مقرونًا بـ {قد} . {قد} : حرف تحقيق. {رَحِمَهُ} : فعل ومفعول في محل الجزم بـ {مَنْ} على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة {مَنْ} الشرطية مستأنفة. {وَذَلِكَ}: مبتدأ. {الْفَوْزُ} : خبره. {الْمُبِينُ} : صفة لـ {الْفَوْزُ} ، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة {من} الشرطية على كونها مستأنفة.

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} .

{وَإِنْ} الواو: استئنافية. {إن} : حرف شرط. {يَمْسَسْكَ الله} : فعل ومفعول وفاعل، مجزوم بـ {إن} الشرطية على كونه فعل شرط لها. {بِضُرٍّ}:

ص: 253

جار ومجرور متعلق به. {فَلَا} : الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية. {لا} : نافية للجنس تعمل عمل إن. {كَاشِفَ} : في محل النصب اسمها. {لَهُ} : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {لا} تقديره: فلا كاشف له موجود. {إِلَّا} : أداة استثناء مفرغ. {هُوَ} : ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر {لا} تقديره: فلا كاشف له موجود هو إلا هو سبحانه وتعالى. وفي "الفتوحات": قوله: {إِلَّا هُوَ} فيه وجهان:

أحدهما: أنه بدل من محل {لا كاشف} ، فإن محله الرفع على الابتداء.

والثاني: أنه بدل من الضمير المستكن في الخبر اهـ "كرخي". وجملة {لا} النافية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ}: الواو: عاطفة {يَمْسَسْكَ} : فعل ومفعول مجزوم بـ {إن} الشرطية، وفاعله ضمير يعود على الله. {بِخَيْرٍ}: جار ومجرور متعلق به. {فَهُوَ} : الفاء: رابطة لجواب {إن} الشرطية. {هو} : مبتدأ. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} : جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {قَدِيرٌ}. {قَدِيرٌ}: خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إن} الأولى. وفي "الفتوحات" قوله:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} جوابه محذوف تقديره: فلا راد له غيره كما في آية يونس: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} ، وقوله:{فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل لكل من الجوابين المذكور في الشرطية الأولى، والمحذوف في الثانية. اهـ.

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .

{وَهُوَ الْقَاهِرُ} : مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {فَوْقَ عِبَادِهِ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف إما متعلق بـ {الْقَاهِرُ} ، أو متعلق بمحذوف خبر ثانٍ لـ {وَهُوَ} ، أو حال من الضمير في {الْقَاهِرُ} ، والتقدير: وهو القاهر حالة كونه مستعليًا أو غالبًا فوق عباده {وَهُوَ الْحَكِيمُ} : مبتدأ وخبر أول {الْخَبِيرُ} خبر ثانٍ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.

ص: 254

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ} .

{قُلْ} فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة. {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} مقول محكي لـ {قُلْ} ، وإن شئت قلت:{أَيُّ} : اسم استفهام مبتدأ مرفوع. و {شَيْءٍ} : مضاف إليه لـ {أَيُّ} {أَكْبَرُ} : خبر المبتدأ. {شَهَادَةً} : تمييز محول عن المبتدأ، والأصل: شهادة أي شيء أكبر، أو: أي شيء شهادته أكبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {قُلْ}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {اللَّهُ شَهِيدٌ} إلى قوله:{قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ} مقول محكي لـ {قُلِ} ، وإن شئت قلت:{اللَّهُ} : مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: الله أكبر شهادة، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {قُلِ}. {شَهِيدٌ}: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو شهيد، والجملة في محل النصب مقول لي {قُلِ}. {بَيْنِي}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {شَهِيدٌ} . {وَبَيْنَكُمْ} : معطوف على {بَيْنِي} . {وَأُوحِيَ} : الواو: عاطفة {أوحي} : فعل ماضٍ مغير الصيغة. {إِلَيَّ} : جار ومجرور متعلق به. {هَذَا الْقُرْآنُ} : نائب فاعل لـ {أوحي} وبدل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية على كونها مقولا لـ {قُلْ}. {لِأُنْذِرَكُمْ}: اللام: لام كي. {أنذركم} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد. {بِهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أنذر} . {وَمَنْ} : الواو: عاطفة. {من} : اسم موصول في محل النصب معطوف على الكاف في {أنذركم} . {بَلَغَ} : فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على القرآن، والعائد محذوف تقديره: ومن بلغه القرآن، وجملة {بَلَغَ} صلة {من} الموصولة، وجملة {أنذر} من الفعل والفاعل صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي تقديره: لإنذاري إياكم به، والجار والمجرور متعلق بـ {أوحى}. وفي "الفتوحات" قوله:{وَمَنْ بَلَغَ} فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه في محل نصب عطفًا على المنصوب في {لِأُنْذِرَكُمْ} وتكون {من} موصولة، والعائد عليها من صلتها محذوف؛ أي: ولأنذر الذي بلغه القرآن.

ص: 255

والثاني: أن في {بَلَغَ} ضميرًا مرفوعًا يعود على {من} ، ويكون المفعول محذوفًا وهو منصوب المحل أيضًا عطفًا على مفعول {لِأُنْذِرَكُمْ} ، والتقدير: ولأنذر الذي بلغ الحلم، والعائد هنا مستقر في الفعل.

والثالث: أن {من} مرفوعة المحل عطفًا على الضمير المرفوع في {لِأُنْذِرَكُمْ} ، وجاز ذلك؛ لأن الفصل بالمفعول، والجار والمجرور أغنى عن تأكيده، والتقدير: لأنذركم به ولينذركم الذي بلغه القرآن. اهـ "سمين".

{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)} .

{أَئِنَّكُمْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري كما سبق في بحث التفسير. {إنكم} : ناصب ومنصوب. {لَتَشْهَدُونَ} : اللام: لام الابتداء المؤكدة زحلقت إلى خبر {إن} {تشهدون} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} التقدير: أئنكم لشاهدون، وجملة {إن} في محل النصب مقول لـ {قل}. {أَنَّ}: حرف نصب. {مَعَ اللهِ} : ظرف ومضاف إليه، خبر مقدم لـ {أن}. {آلِهَةً}: اسم {أَنَّ} مؤخر عن الخبر. {أُخْرَى} : صفة لـ {آلِهَةً} ، وجملة {أَنَّ} في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {لَتَشْهَدُونَ}؛ أي: لتشهدون كون آلهة أخرى مع الله. {قُلْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {لا أَشْهَدُ}: مقول محكي لـ {قل} ، وإن شئت قلت:{لَا} : نافية. {أَشْهَدُ} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ {قل}. {قُل}: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قل} ، وإن شئت قلت:{إِنَّمَا} : أداة حصر. {هُوَ} : مبتدأ. {إِلَهٌ} : خبره. {وَاحِدٌ} : صفة لـ {إله} ، والجملة في محل النصب مقول القول. {وَإِنَّنِي}: الواو: عاطفة. {إن} : حرف نصب، والنون للوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها. {بَرِيءٌ}: خبر {إن} . {مِمَّا} : جار ومجرور متعلق بـ {بَرِيءٌ} . {تُشْرِكُونَ} : فعل وفاعل صلة لـ {ما} المصدرية أو الموصولة، والعائد حينئذ

ص: 256

محذوف تقديره: مما تشركونه، وجملة {إن} في محل النصب معطوفة على جملة قوله:{إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} على كونها مقولا لـ {قل} .

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)} .

{الَّذِينَ} : مبتدأ. {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} : فعل وفاعل ومفعولان؛ لأن آتى بمعنى: أعطى، والجملة الفعلية صلة الموصول. {يَعْرِفُونَهُ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {كَمَا}: الكاف: حرف جر وتنبيه. {ما} : مصدرية. {يَعْرِفُونَ} : فعل وفاعل {أَبْنَاءَهُمُ} : مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كمعرفتهم أبناءهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: معرفة كائنة كمعرفتهم أبناءهم. {الَّذِينَ} : مبتدأ. {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} : فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {فَهُمْ}: الفاء: رابطة الخبر لشبه المبتدأ بالشرط. {هم} : مبتدأ ثان. وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} خبره، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)} .

{وَمَنْ} الواو: استئنافية. {من} : اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. {أَظْلَمُ} : خبره، والجملة مستأنفة. {مِمَّنِ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَظْلَمُ} . {افْتَرَى} : فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من} ، والجملة صلة الموصول. {عَلَى اللهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {افْتَرَى} . {كَذِبًا} : مفعول {افْتَرَى} . {أَوْ} : حرف عطف وتفصيل. {كَذَّب} : فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {من} ، والجملة معطوفة على جملة {افْتَرَى}. {بِآيَاتِهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبَ} . {إِنَّهُ} : ناصب ومنصوب. {لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} : فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إن} ، وجملة {إن} من اسمها وخبرها مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

ص: 257

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .

{وَيَوْمَ} : الواو: استئنافية. {يوم} : منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف جوازًا تقديره: واذكر لهم يا محمد قصة يوم نحشرهم. {نَحْشُرُهُمْ} : فعل ومفعول. {جَمِيعًا} : حال من ضمير {نَحْشُرُهُمْ} ، أو توكيد له عند من يقول التأكيد، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ {يوم}؛ {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب {نَقُولُ} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة نحشرهم. {لِلَّذِينَ}: جار ومجرور متعلق بـ {نَقُولُ} ، {أَشْرَكُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}: مقول محكي لـ {نقول} ، وإن شئت قلت:{أَيْنَ} : اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم. {شُرَكَاؤُكُمُ} : مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مقول لـ {نَقُولُ}. {لِلَّذِينَ}: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {شُرَكَاؤُكُمُ} . {كُنْتُمْ} : فعل ناقص واسمه. {تَزْعُمُونَ} : فعل، وفاعله ومفعولاه محذوفان تقديرهما: تزعمونهم شركائكم، وجملة {تَزْعُمُونَ} في محل النصب خبر {كان} ، وجملة {كان} صلة الموصول، والعائد الضمير المحذوف من {تَزْعُمُونَ} .

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .

{ثُمَّ} : حرف عطف وترتيب. {لَمْ} : حرف جزم. {تَكُنْ} : فعل ناقص مجزوم بـ {لَمْ} . {فِتْنَتُهُمْ} : اسمها ومضاف إليه. {إِلَّا} : أداة استثناء مفرغ. {أَنْ قَالُوا} : ناصب وفعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه اسمًا لـ {تَكُنْ} تقديره: ثم لم تكن عاقبة فتنتهم وشركهم إلا قولهم: واللهِ ربنا، وجملة {لَمْ تَكُنْ} معطوفة على جملة قوله {ثم نقول} ، {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: مقول محكي لـ {قالوا} وإن شئت قلت: {وَاللهِ} : الواو: حرف جر وقسم. {اللهِ} : مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: نقسم والله، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول {قَالُوا}. {رَبِّنَا}: بدل من الجلالة أو عطف بيان منه. {مَا} : نافية. {كُنَّا} : فعل ناقص واسمه. {مُشْرِكِينَ} : خبر كان،

ص: 258

وجملة كان في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب القسم.

{انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} .

{انْظُرْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. {كَيْفَ}: اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل {كَذَبُوا} والعامل فيه {كَذَبُوا} وصاحب الحال الواو في {كَذَبُوا} أي: جاحدين كذبوا على أنفسهم {كَذَبُوا} : فعل وفاعل. {عَلَى أَنْفُسِهِمْ} : جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَبُوا} ، وجملة {كَذَبُوا} في محل النصب على أنها مفعول لـ {انْظُرْ} ، وكيف علقته عن العمل في لفظه. {وَضَلَّ}: فعل ماضٍ. {عَنْهُمْ} : متعلق به. {مَا} : موصولة أو مصدرية في محل الرفع فاعل لـ {ضل} . {كَانُوا} : فعل ناقص واسمه، وجملة {يَفْتَرُونَ} خبره، وجملة كان من اسمها وخبرها صلة لـ {ما} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما كانوا يفترونه، أو صلة لما المصدرية، {مَا} مع صلتها في تأويل مصدر على الفاعلية تقديره: وضل عنهم افتراؤهم، وجملة {ضل} معطوفة على جملة {كَذَبُوا}. وفي "الفتوحات": قوله: {وَضَلَّ} يجوز أن يكون نسقًا على كذبوا، فيكون داخلًا في حيز النظر، ويجوز أن يكون استئناف إخبار، فلا يدخل في حيز المنظور إليه، وقوله:{مَا كَانُوا} يجوز في {مَا} أن تكون مصدرية؛ أي: وضل عنهم افتراؤهم، وهو قول ابن عطية، ويجوز أن تكون موصولة اسمية؛ أي: وضل عنهم الذي كانوا يفترونه اهـ "سمين".

التصريف ومفردات اللغة

{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} : يقال: كتب على نفسه يكتب من باب نصر؛ أي: أوجب إيجاب فضل وكرم، لا إيجاب لزوم، وقيل: كتب هنا بمعنى: وعد فضلًا وكرمًا، وقيل: بمعنى: سطر وخط؛ أي: أمر بالكتب في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: الرحمة: إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا، فلم يعاجلهم على كفرهم، وقيل: الرحمة لمن آمن وصدق الرسل.

{وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قال السدي: سكن هنا من السكنى يقال: سكن في المكان يسكن من باب دخل سكنى إذا حل واستقر فيه، ولم يذكر الزمخشري

ص: 259

غيره، قال: وتعديه بفي كما في قوله: {وَسَكَنْتُمْ في مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم} وقيل: هو من السكون المقابل للحركة، وعلى هذا ففي المقام حذف؛ أي: وله ما سكن وتحرك، وحذف مقابله للاكتفاء كما في قوله:{تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ؛ أي: والبرد، واقتصر على ذكر السكون؛ لأن كل متحرك قد يسكن، ولأنه أكثر وجودًا. {أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا}: الولي: الناصر ومتولي الأمر المتصرف فيه.

{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وفي "المصباح"(1): فطر الله الخلق فطرًا من باب قتل: خلقهم، والاسم: الفطرة اهـ. وفي "السمين": والفطر: الإبداع والإيجاد من غير سبق مثال، ومنه:{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: موجدهما على غير مثال يحتذى. وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى فطر وفاطر حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي: أنشأتها وابتدأتها، ويقال: فطرت كذا وفطر هو فطورًا، وانفطر انفطارًا، وفطرت الشاة: حلبتها بإصبعين، وفطرت العجين: خبزته من وقته. وفي "الكرخي": والفطير ضد الخمر، وهو العجين الذي لم يختمر، وكل شيء أعجلته عن إدراكه فهو فطير، ويقال: إياك والرأي الفطير، ويقال: عندي خبز خمير وخبز فطير. اهـ. وأصل الفطر: الشق، ومنه:{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} ، ويقال: فطر ناب البعير، ومنه قوله تعالى:{هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} ، وقوله:{يتفطرن منه} .

{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} ؛ أي: هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. {يُصْرَفْ عَنْهُ} : يبعد عنه، ويقال: صرف الله عنه الأذى من باب ضرب إذا أبعده ونجاه عنه.

{فَقَدْ رَحِمَهُ} ؛ أي: بإنجائه من الهول الأكبر. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} : المس أعم من اللمس، وحقيقة المس تلاقي جسمين يقال: مسه السوء والكبر والعذاب والتعب إذا أصابه ونزل به، والضر: الألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها.

{فَلَا كَاشِفَ لَهُ} يقال: كشف التفسير إذا أزاله، وكشفَتْ عن ساقيها:

(1) الفتوحات.

ص: 260

أزالت ما يسترهما.

والخير (1): ما كان فيه منفعة حاضرة أو مستقبلة، والنفع: اللذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما، والشر: ما لا منفعة فيه ألبتة، أو ما كان ضره أكبر من نفعه، قال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} .

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} من القهر، والقهر: الغلبة والحمل على الشيء من غير اختيار؛ أي: فالقهر؛ إما أن يراد به الغلبة، أو التذليل، وما هنا من الأول، وكذا قوله:{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} ومن الثاني قوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)} .

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} وشهادة الشيء حضوره ومشاهدته، والشهادة به: الإخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبني على المشاهدة بالبصر أو بالعقل والوجدان.

{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} : مأخوذ من الإنذار، والإنذار: التخويف، واكتفى به عن ذكر البشارة لمناسبته للمقام؛ أي: لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن، ووصل إليه من الأسود والأحمر، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة مما تشركون به؛ أي: من الأصنام.

{آلِهَةً أُخْرَى} {أُخْرَى} صفة لآلهة، وصفه بالصفة المفردة. ولم يقل: آلهة أُخر بالجمع ليطابق الوصف موصوفه في الجمعية؛ لأن الآلهة مما لا يعقل يعامل جمعه معاملة المؤنثة الواحدة كما سبق، ولما كانت الآلهة حجارةً وخشبًا .. أجريت هذا المجرى.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} من آتى الرباعي فهو بمعنى: أعطى، فيتعدى إلى مفعولين.

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} قرأ الجمهور بضم الشين من {نَحْشُرُهُمْ} ، وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المضارع من بابي: ضرب وقتل.

(1) المراغي.

ص: 261

البلاغة

وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: التكرار في قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} ، وفي قوله:{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} ، وفي قوله:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} إذا قلنا كتب بمعنى: أوجب؛ لأنه استعار الكتابة بمعنى: الخط والتسطير للكتابة بمعنى: الإلزام والإيجاب بجامع الإثبات في كل.

ومنها: الاكتفاء في قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ في اللَّيْلِ} إذا قلنا من السكون ضد التحرك، والاكتفاء: ذكر أحد متقابلين وحذف الآخر لعلمه من المذكور، وهو من المحسنات البديعية.

ومنها: المبالغة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ؛ لأنه بمعنى: أهلكوا، فالخسران حقيقة في البيوع.

ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: {أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} ؛ أي: لا ينبغي لي ولا يمكن مني أن أعبد غيره.

ومنها: تجنيس (1) التشكيل في قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} ، وضابطه: أن يكون الشكل فرقًا بين الكلمتين، وسماه أسامة بن منقذ في بديعته: تجنيس التحريف، وهو بتجنيس التشكيل أولى.

ومنها: الاعتراض في قوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لاعتراض الجملة الشرطية بين الفعل ومفعوله اللذين هما: {أَخَافُ} و {عَذَابَ} .

ومنها: الجناس المماثل في قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} ، وقوله: {وَإِنْ

(1) البحر المحيط.

ص: 262

يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ}.

ومنها: الطباق في قوله: {بِضُرٍّ} . وفي قوله: {بِخَيْرٍ} .

ومنها: التعليق بأمر مستحيل في قوله: {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} ؛ لأن العصيان ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم لعصمته. وقال (1) أبو عبد الله الرازي: نظير هذه الآية قولك: إن كانت الخمسة زوجًا كانت منقسمة إلى متساويتين.

ومنها: الحصر في قوله: {فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} ، وفيه الحذف أيضًا تقديره: فلا كاشف له عنك إلا هو.

ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} .

ومنها: الجناس المغاير والمماثل في قوله: {أَكْبَرُ شَهَادَةً} ، وفي قوله:{قُلِ الله شَهِيدٌ} ، وفي قوله:{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} ، وفي قوله:{قُلْ لَا أَشْهَدُ} ، وفيه أيضًا الجمع بين الأسئلة والأجوبة، والجناس المغاير في قوله:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ} ، وفي قوله:{لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} .

ومنها: الحصر في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} .

ومنها: القسم في قوله: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .

ومنها: الاستفهام التعجيبي في قوله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} .

ومنها: الحذف في مواضع.

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

(1) البحر المحيط.

ص: 263

قال الله سبحانه جلَّ وعلا:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} .

المناسبة

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ

} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (1) بين أحوال الكفار في الآخرة، وذكر ما يكون منهم من تلجلج واضطراب، فتارة ينكرون شركهم بالله، وأخرى يعترفون بها، وذكر ما يواجهون به من اللوم والتقريع على الشركاء الذين اتخذوهم أولياء وشفعاء .. ذكر هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعض منهم لوجود الموانع الصادة عنه، فمهما توالت الآيات والنذر لا تجدي معهم شيئًا؛ إذ الحجب كثيفة، والأغطية سميكة، فاختراقها عسير، والوصول إليها في حكم المستحيل.

(1) المراغي.

ص: 264

قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا

} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (1) بيَّن في الآيات السابقة حال طائفة من المشركين تلقي السمع مصغية للقرآن، لكن لا يدخل القلب شيء مما تسمع؛ لما عليه من أكنة التقليد والاستنكار لكل شيء جديد، فهم يستمعون ولا يسمعون .. بين في هاتين الآيتين بعض ما يكون من أمرهم يوم القيامة، وتمنيهم العودة إلى الدنيا ليعملوا صالح العمل، ويكونوا من المؤمنين حقًّا، ثم كذبهم فيما يقولون، وأنهم لو ردوا .. لعادوا لما كانوا فيه؛ لفقد استعدادهم للإيمان، وأن حالهم بلغ مبلغًا لا يؤثر فيه كشف الغطاء ورؤية الأهوال.

قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا

} مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (2) ذكر في الآيات السالفة إنكارهم في الدنيا للبعث والجزاء .. بين هنا حالهم في الآخرة يوم يكشف عنهم الغطاء، فيتحسرون ويندمون على تفريطهم السابق، وغرورهم بذلك المتاع الزائل، ثم أردفه ذكر حقيقة الدنيا مقابلًا بينها وبين الآخرة، وموازنًا بين حاليهما لدى المتقين والعاصين.

قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ

} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أنزل هذه السورة في دعوة مشركي مكة إلى الإسلام ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث، وكثر فيها حكاية أقوالهم بلفظ: وقالوا، نحو:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} ، {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} إلى نحو ذلك، وتلقين الرسول صلى الله عليه وسلم الرد عليهم مع إقامة الحجة والبرهان بلفظ: قل، نحو:{قُلْ لِمَنْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بعد هذا الحجاج كله ذكر في هذه الآيات تأثير كفرهم في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وحزنه مما يقولون في نبوته، وما يراه منهم من الإعراض عن دعوته، وسلاه على ذلك ببيان سنته سبحانه في الرسل مع أقوامهم، وأن كثيرًا منهم كذبوا

(1) المراغي.

(2)

المراغي.

ص: 265

فصبروا حتى جاءهم النصر المبين، وخذل الله أعداءهم الكافرين.

أسباب النزول

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ

} الآية، سبب (1) نزولها: ما رواه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، والحارث بن عامر، وأبو جهل في جمع كثير من قريش، واستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر: يا أبا قتيبة، ما يقول محمد، فقال: والذي جعلها - الكعبة - بيته ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك شفتيه، ويتكلم بأساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، يحدث قريشًا بما يستملحونه، قال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقًّا، فقال أبو جهل: كلا لا تقر بشيء من هذا وقال: الموت أهون من هذا، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآيات.

قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ

} الآية، سبب (2) نزولها: ما رواه الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عما جاء به، وكان يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش بأبي طالب يريدون أن يفعلوا السوء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب شعرًا:

وَاللهِ لَنْ يَصِلُوْا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ

حَتَّى أُوَسَّدَ فِيْ التُّرَابِ دَفِيْنَا

فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ

وَابْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُوْنَا

وَدَعَوْتَنِيْ وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِيْ

وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِيْنَا

وَعَرَضْتَ دِيْنًا لَا مَحَالَةَ أَنَّهُ

مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِيْنَا

(1) المراغي والبحر المحيط.

(2)

لباب النقول مع زيادة من البحر المحيط.

ص: 266