الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فذهب قوم: إلى أنه لا يحل ذلك بحال، يروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول طاووس، وإليه ذهب الثوري، واحتجوا على ذلك: بما روي عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًّا - وهو بالأبواء أو بودان - فرده عليه صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ما في وجهه من الكراهة .. قال:"إنا لم نرده عليك إلا أنَّا حُرُم". أخرجاه في "الصحيحين".
وذهب جمهور العلماء: إلى أنه يجوز للمحرم أن يأكل لحم الصيد إذا لم يصده بنفسه، ولا صيد له، ولا دلَّ عليه بإشارته، ولا أعان عليه، وهذا قول عمر وعثمان وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي، ويدل عليه: ما روي عن أبي قتادة الأنصاري قال: كنت جالسًا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم عام الحديبية، فأبصروا حمارًا وحشيًّا، وأنا مشغول أخصف نعلًا، فلم يؤذنوا لي، وأحبوا لو أني أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، قالوا: لا والله، لا نعينك عليه، فغضبت ونزلت، فأخذتهما، ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلون، ثم إنهم شكُّوا في أكلهم إياه وهم حرم، فَرُحْنَا وخبأت العضد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك فقال:"هل معكم منه شيء"؟ فقلت: نعم، فناولته العضد، فأكل منها، وهو محرم. وزاد في رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "إنما هي طعمة أطعمكموها الله"، وفي رواية:"هو حلال فكلوه"، وفي رواية: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها، قالوا: لا، قال: كلوا ما بقي من لحمها" أخرجاه في "الصحيحين". وأجاب أصحاب هذا المذهب من حديث الصعب بن جثامة: بأنه إنما ردَّه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ظن أنه إنما صيد لأجله، والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله، والله أعلم.
97
- {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} وسميت الكعبة كعبة لتربيعها؛ أي: لكونها مربعة من التكعيب بمعنى: التربيع، وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة.
وقيل: سميت كعبة لارتفاعها وبروزها، وكل بارز كعبٌ مستديرًا كان أو غير مستدير، ومنه: كَعْب القدم، وكعوب القنا، وكعب ثدي المرأة، وسمي بيتًا؛ لأن له سقوفًا وجدارًا، وهي حقيقة البيت وإن لم يكن به ساكن، وسمي حرامًا؛ لتحريم الله تعالى إياه وتعظيمه وتشريفه بأداء المناسك فيه، وبعدم تنفير صيده، وعدم قطع شجره وخلاه. والمراد بالبيت الحرام: جميع الحرم؛ لما صح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "إن هذا البلد حرَّمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه" متفق عليه.
و {البيت الحرام} بدل من {الكعبة} أو عطف بيان منه؛ أي: أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الكعبة التي هي بيت الله الحرام {قِيَامًا لِلنَّاسِ} ؛ أي: أمنًا وسببًا لحصول مصالح الناس ومنافعهم في أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم. أمَّا في أمر الدين: فإنه بها يقوم الحج وتتم المناسك، وضوعفت الحسنات فيها، وأما في أمر الدنيا: فإن مكة بلدة لا ضرع فيها، ولا زرع، وقلما يوجد فيها ما يحتاج إليه أهلها، فجعل الله الكعبة معظمة في قلوب الناس يرغب الناس جميعًا في زيارتها والسفر إليها من كل فج عميقٍ لأداء المناسك، وللتجارة، فصار ذلك سببًا في إسباغ النعم على أهل مكة إجابةً لدعوة إبراهيم عليه السلام، وكان العرب يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم .. لم يتعرض له، ولو جنى أعظم الجنايات كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} فصار أهل مكة آمنين على أنفسهم وأموالهم، كما أنهم صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته، والسادة المعظمين إلى يوم القيامة. وأما في أمر آخرتهم: فإن البيت جُعل لقيام المناسك عنده، وجعلت تلك المناسك التي تقام عنده أسبابًا لعلو الدرجات، وتكفير الخطيئات، وزيادة الكرامات والمثوبات، فلما كانت الكعبة الشريفة سببًا لحصول هذه الأشياء .. كانت سببًا لقيام الناس.
وقرأ ابن عامر (1): {قِيَما} بغير ألف بوزن عِنَب، فإن كان أصله {قِيَامًا} بالألف، وحذفت فقيل: حكم هذا أن يجيء في الشعر، وإن كان مصدرًا على فِعَل .. كان قياسه أن تصح فيه الواو كعوض.
وقرأ الجحدري: {قيما} - بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة - وهو كسيد: اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان.
{وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} ؛ أي: وكذلك جعل الله سبحانه وتعالى الأشهر الحرم قيامًا للناس، والمراد بالشهر الحرام: الجنس، فيشمل الأشهر الأربعة: ذا القعدة وذا الحجة والمحرم ورجب؛ أي: سببًا لحصول مصالحهم وأمنًا في معاشهم وحياتهم؛ لأن العرب كان يقتل بعضهم بعضًا، ويغير بعضهم على بعض في سائر الأشهر حتى إذا استهل الشهر الحرام .. زال الخوف، وقدروا على الأسفار والتجارات، وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم، وكانوا يحصلون فيه من الأقوات ما يكفيهم طول العام، ولولاه لتفانوا من الجوع والشدة {و} كذلك جعل الله سبحانه وتعالى {الهدي} سببًا لقيام الناس ومصالحهم، وهو ما يهدى إلى الحرم ويذبح هناك، ويفرق لحمه على مساكينه، فيكون ذلك نسكًا للمُهدي وقوامًا لمعيشة الفقراء {و} كذلك جعل الله سبحانه وتعالى {القلائد} قيامًا للناس، وسببًا لمصالحهم، وهي ما يتخذ من لحاء شجر الحرم، فيعلق في عنق الإبل مثلًا؛ ليعلم أنه هدي للحرم، أو يعلّقه الشخص في عنقه؛ ليأمن من العدو؛ إذ أن من قصد البيت في الشهر الحرام .. لم يتعرض له أحد، ومن قصده في غير الشهر الحرام، ومعه هدي، وقلده، وقلد نفسه من لحاء شجر الحرم .. لم يتعرض له أحد؛ لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت، فكل من قصده أو تقرب إليه .. صار آمنًا من جميع الآفات والمخاوف.
ولما (2) كانت الكعبة موضعًا مخصوصًا لا يصل إليه كل خائف .. جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد قيامًا للناس كالكعبة {ذَلَكَ} الجعل المذكور
(1) البحر المحيط.
(2)
البحر المحيط.