الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عند سماعه إياها .. ذكر هنا ما يخفف عنه ما يلاقيه منهم من سوء الأدب ومن الهزء والسخرية، فأبان له أنك لست ببدع من الرسول، فإن كثيرًا منهم لاقوا من أقوامهم مثل ما لاقيت، بل أشد من ذلك وأنكى، فأنزل الله بهم من العذاب ما يستحقونه كفاء أفعالهم الشنيعة، وجرأتهم على من اصطفاهم ربهم من خلقه، ثم أمر هؤلاء المكذبين بأن يسيروا في الأرض ليروا كيف كان عاقبة المكذبين لأنبيائه.
أسباب النزول
وأما الأسباب: فلم يكن لهذه الآيات سبب لنزولها؛ لأنها إنما نزلت لتعليم العباد كيف يحمدونه فكأنه قال: قولوا يا عبادي عند حمدي وثنائي: الحمد لله. وقال أهل المعاني: لفظه خبر، ومعناه أمر، والمعنى: احمدوا الله سبحانه وتعالى لذاته، وعلى نعمه.
التفسير وأوجه القراءة
1
- {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ؛ أي: جنس الحمد بأنواعه، وكل الشكر على نعمه مستحق لله {الَّذِي} خلقكم أيها الناس من نفس واحدة و {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ أي: أوجد وأبدع السموات السبع والأرضين السبعة على غير مثال، فهو سبحانه وتعالى هو المستحق عليكم الحمد والشكر على نعمه، لا ما تعبدون من دونه وتجعلونه شريكًا له من خلقه. والمراد بالسموات والأرض: العوالم العلوية التي يرى كثير منها فوقنا، وهذا العالم السفلي الذي نعيش فيه.
وإنما قدم (1) السموات على الأرض لشرفها؛ لأنها متعبد الملائكة، ولم تقع فيها معصية، والأرض وإن كان فيها الأنبياء، لكنها احتوت على الأشرار والمفسدين، ولتقدم وجودها على وجود الأرض كما قاله القاضي. ومراده أن السموات على هذه الهيئة مقدمة على الأرض الكائنة على هذه الهيئة الموجودة؛ لأنه تعالى قال في سورة النازعات:{أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} ، فإنه صريح في أن بسط الأرض
(1) الفتوحات.
مؤخر عن تسوية السماء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاحه في تلك السورة. اهـ "كرخي". ولا منافاة بين آية فُصِّلَت وبين آية النازعات فإن الأرض خلقت أولًا كرة ثم خلقت السموات من دخان كما دلت عليه آية فُصلت، ثم بنى السماء ورفعها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها. وإنما جمع السموات وأفرد الأرض؛ لاختلاف أجناسها، فإن الأولى على ما قيل من موج مكفوف، والثانية من مرمرة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من ياقوتة حمراء، والأرض وإن كانت سبعًا أيضًا إلا أنها من جنس واحد، واختلف هل الأرض واحدة؟ وهو الصحيح، فالتعدد باعتبار أقطارها، وقيل: طباق كالسماء، وأما السماء: فهي طباق باتفاق ذكره "الصاوي"، ولكن هذا كله إسرائيليات لا مستند له.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى بدأ هذه السورة بالحمد لنفسه تعليمًا لعباده أن يحمدوه بهذه الصيغة الجامعة لصنوف التعظيم والتبجيل والكمال، وإعلامًا بأنه المستحق لجميع المحامد، فلا ندّ له ولا شريك ولا نظير ولا مثيل. ومعنى الآية: احمدوا الله ربكم المفضل عليكم بصنوف الإنعام والإكرام، الذي أوجد وأنشأ وأبدع خلق السموات والأرض بما فيهما من أنواع البدائع وأصناف الروائع، وبما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة بما يدهش العقول والأفكار تذكرة وذكرى لأولي الأبصار. والحمد (1): هو الثناء الحسن والذكر الجميل، والفرق بينه وبين المدح: أن المدح أعم من الحمد؛ لأن المدح يكون للعاقل ولغير العاقل، فكما يمدح العاقل على أنواع فضائله كذلك يمدح اللؤلؤ لحسن شكله، والياقوت على نهاية صفائه وصقالته. والحمد لا يكون إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإحسان، والحمد أعم من الشكر؛ لأن الحمد تعظيم المنعم لأجل ما صدر عنه من الإنعام واصلًا إليك أو إلى غيرك، والشكر: تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك، والمقصود من الآية: ذكر الدلالة على وجود الصانع.
(1) المراح.
{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} ؛ أي: والذي أوجد وأنشأ الظلمات والنور الحسيين والمعنويين، كظلمة الليل ونور النهار وظلمة الكفر ونور الإيمان. واختلف (1) العلماء في المراد منهما: فمن قائل: إن المقصود منهما ظلمة الليل ونور النهار، وإلى هذا جنح ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، وفي ذلك ردٌّ على المجوس - الثنوية - الذين زعموا أن للعالم ربين، أحدهما: النور، وهو الخالق للخير، والثاني: الظلمة، وهو الخالق للشر. ومن قائل: إن المراد منهما الكفر والإيمان، وروي هذا عن ابن عباس.
والفرق (2) بين الخلق والجعل: أن كلًّا منهما هو الإنشاء والإبداع إلا أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل عام له، كما في هذه الآية الكريمة، وللتشريعي أيضًا كما في قوله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} الآية. وإنما جمع الظلمات دون النور؛ لكثرة محالها؛ إذ ما من جرم إلا وله ظل، والظل هو الظلمة بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار، وهذا إذا حملا على الكيفيتين المحسوستين بحاسة البصر وإن حمل النور على الإِسلام والإيمان واليقين والنبوة، والظلمات على ظلمة الشرك والكفر والنفاق .. فنقول: لأن الحق واحد والباطل كثير. وفي "البيضاوي"(3): وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، وفي "شيخ الإِسلام " قوله: لكثرة أسبابها؛ إذ ما من جرم إلا وله ظل، والظل هو الظلمة بخلاف النور، فإنه من جنس واحد وهو النار، ولا ترد الأجرام النيرة كالكواكب؛ لأن مرجع كل نير إلى النار على ما قيل: إن الكواكب أجرام نورية نارية، وإن الشهب تنفصل من نار الكواكب، فصح أن النور من جنس النار. اهـ.
وإنما قدم الظلمات على النور؛ لأن الظلمة عدم النور عن الجسم الذي يقبله وعدم المحدثات متقدم على وجودها. {ثُمَّ} بعد قيام هذه الأدلة {الَّذِينَ
(1) المراغي.
(2)
المراح.
(3)
الفتوحات.
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} وجحدوا به {يَعْدِلُونَ} ؛ أي: يميلون عن عبادته إلى عبادة غيره من الأصنام والأحجار، فهو من العدول (1) بمعنى الميل، ولا مفعول له حينئذ. والجار والمجرور في قوله:{بِرَبِّهِمْ} متعلق بـ {كَفَرُوا} ، ويجوز أن يتعلق بـ {يَعْدِلُونَ} ، وقدم عليه للفاصلة، وفي {الباء} حينئذ احتمالان:
أحدهما: أن تكون بمعنى: {عن} وبعدلون من العدول أيضًا؛ أي: يعدلون عن ربهم إلى غيره.
والثاني: أنها للتعدية، ويعدلون من العدل بمعنى التسوية بين الشيئين، والمعنى: ثم الذين كفروا يسوون بربهم غيره من المخلوقين، فيكون المفعول محذوفًا. اهـ "سمين".
وعبارة "المراح" هنا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ؛ أي (2): يشركون به غيره، وهذه الجملة إما معطوفة على قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، والباء متعلقة بـ {كَفَرُوا} ، فيكون {يَعْدِلُونَ} من العدول بمعنى الميل، ولا مفعول له، والمعنى: إن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه؛ لأنه تعالى ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا بربهم يميلون عنه فيكفرون نعمته، أو متعلقة بـ {يَعْدِلُونَ} ، وهو من العدل، ويوضع الرب موضع الضمير العائد إليه تعالى، والمعنى: إنه مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته، وباعتبار شؤونه العظيمة الخاصة، ثم هؤلاء الكفرة يسوون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسه الحمد، وإما معطوفة على قوله:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} ، والباء متعلقة بـ {يَعْدِلُونَ} وقدمت لأجل الفاصلة، وهي إما بمعنى: عن، ويعدلون من العدول، والمعنى: إن الله تعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم الذين كفروا يعدلون عن ربهم إلى غيره، أو للتعدية و {يَعْدِلُونَ} من العدل، وهو التسوية، والمعنى: أنه تعالى خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه، ثم إنهم يعدلون به جمادًا لا يقدر على شيء أصلًا، فيكون المفعول
(1) الفتوحات.
(2)
المراح.