المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يعلم الشيء وإن كان هو عالمًا به تربيةً لكم، وتزكية - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٨

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: يعلم الشيء وإن كان هو عالمًا به تربيةً لكم، وتزكية

يعلم الشيء وإن كان هو عالمًا به تربيةً لكم، وتزكية لنفوسكم، وتطهيرًا لها. وقرأ الزهري:{لِيَعْلَمَ اللَّهُ} من أعلم الرباعي، وقال ابن عطية: أي ليعلم عباده. انتهى. فيكون من: أعلم المنقولة من عَلِم المتعدية إلى واحد تعدي عرف، فحذف المفعول الأول، وهو: عباده؛ لدلالة المعنى عليه، وبقي المفعول الثاني، وهو: من يخافه.

{فَمَنِ اعْتَدَى} بأخذ شيء من ذلك الصيد {بَعْدَ ذَلِكَ} البيان الذي أخبركم الله تعالى به قبل حصوله {فَلَهُ} ؛ أي: فلذلك المعتدي بالاصطياد {عَذَابٌ أَلِيمٌ} ؛ أي: مؤلم شديد في الآخرة؛ إذ هو لم يبال باختبار الله له، بل انتهك حرمة نواهيه، وأبان أنه لا يخافه بالغيب، بل يخاف لوم المؤمنين وتعزيرهم له إذا هو أخذ شيئًا من الصيد بمرأى منهم ومسمع، كما هو دأب المنافقين الذين يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلًا.

‌95

- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ؛ أي: صدقوا الله ورسوله {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ؛ أي: لا تقتلوه ولا تتعرضوا له بإتلاف ولا اصطياد، والحال أنكم محرمون بالحج أو العمرة، أو داخلون في الحرم المكي. نهاهم عن قتل الصيد في حال الإحرام. وفي معناه:{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم؛ لأنه يقال: رجل حرام، وامرأة حرام، والجمع: حُرُم، ويقال: أحرم الرجل إذا دخل في الحرم، وأحرم أيضًا إذا عقد الإحرام، فلا يجوز قتل الصيد للمحرم، ولا في الحرم. نزلت (1) هذه الآية في أبي اليسر، شد على حمار وحش فقتله وهو محرم، ثم صار هذا الحكم عامًّا، فلا يجوز قتل الصيد ولا التعرض له ما دام محرمًا، ولا في الحرم، ومقتول المحرم من الصيد ميتة، وإن ذبحه بقطع حلقومه ومريئه، وذلك لأن المحرم ممنوع من ذبحه لمعنى فيه؛ كذبح المجوسي. والمراد بالصيد: كل حيوان متوحش مأكول اللحم، وهذا قول الشافعي. وقال (2) أبو حنيفة: هو كل حيوان

(1) الخازن.

(2)

الخازن.

ص: 66

متوحش، سواء كان مأكولًا، أم لم يكن مأكولًا، فيجب عنده الضمان على من قتل سبعًا أو نمرًا أو نحو ذلك، واستثنى الشارع خمس فواسق، فأجاز قتلهن مطلقًا. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" متفق عليه. وفي رواية: "خمس لا جناح على مَنْ قتلهن في الحرم والإحرام".

وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب كلهن فواسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" متفق عليه. ولمسلم "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم" وذكر نحوه. وفي رواية النسائي قال: "خمس يقتلهن المحرم: الحية، والعقرب، والفأرة، والغراب الأبقع، والكلب العقور" قال ابن عيينة: الكلب العقور: كل سبع ضارٍ يعقر، وقاس الشافعي عليها جميع ما لا يؤكل لحمه، قال: لأن الحديث يشتمل على أشياء بعضها سباع ضارية، وبعضها هوام قاتلة، وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا في معنى الهوام، وإنما هو حيوان مستخبث اللحم، وتحريم الأكل يجمع الكل، فاعتبره ورتب عليه الحكم. وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في كل ما لا يؤكل لحمه إلا الأعيان المذكورة في الحديث، وقاسوا عليها الذئب، فلم يوجبوا فيه كفارة. وألحق (1) مالك بالكلب العقور: الذئب، والسبع، والنمر، والفهد؛ لأنها أشد منه ضررًا.

والظاهر أن المراد بالصيد الذي نهت عنه الآية: هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه، فلا جزاء في قتل الأهلي ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع والحشرات، ومنها الفواسق المذكورة في الحديث.

{وَمَنْ قَتَلَهُ} ؛ أي: ومن قتل الصيد أو أتلف جزءًا منه {مِنْكُمْ} أيها المؤمنون حالة كونه {مُتَعَمِّدًا} ؛ أي: قاصدًا (2) لقتله، ذاكرًا لإحرامه، عالمًا أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه، فإن قتله ناسيًا لإحرامه، أو رمى صيدًا وهو يظن أنه

(1) المراغي.

(2)

النسفي.

ص: 67

ليس بصيد .. فهو مخطئ، وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ في جزاء الإتلافات؛ لأن مورد الآية فيمن تعمد. فقد روي: أنه عنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحشي، فحمل عليه أبو اليسر بن عمرو فقتله، فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم، فنزلت الآية؛ ولأن الأصل فعل المتعمد والخطأ ملحق به للتغليظ. وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ.

{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} ؛ أي: فعليه (1) ضمان شبه ما قتله من الصيد حالة كون ذلك المثل {مِنَ النَّعَمِ} ؛ أي: من الإبل والبقر والغنم؛ أي: ومن قتل شيئًا من الصيد وهو محرم قاصدًا قتله .. فعليه جزاءٌ من الأنعام مماثل لما قتله في هيئته وصورته وخلقته إن وجد ذلك المثل. فقد روى الدارقطني عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الضبع إذا أصابه المحرم كبشٌ، وفي الظبي شاةٌ، وفي الأرنب عناقٌ - الأنثى من ولد المعز قبل أن تبلغ سنة - وفي اليربوع جفرة - الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر - ". وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الضبع صيد، فإذا أصابه المحرم .. ففيه جزاءٌ كبش مسن، وتؤكل".

وإن لم يوجد المماثل من النعم، فقيمته حيث صيد، أو في أقرب الأماكن إليه. قال القاضي أبو يعلى (2): والصيد الذي يجب الجزاء بقتله ما كان مأكول اللحم؛ كالغزال وحمار الوحش والنعامة ونحو ذلك، أو كان متولدًا من حيوان يؤكل لحمه؛ كالسبع فإنه متولد من الضبع والذئب، وما عدا ذلك من السباع كلها فلا جزاء على قاتلها، سواء ابتدأَ قتلها، أو عَدَت عليه فقتلها دفعًا عن نفسه؛ لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة، فلم يدخل تحت الآية، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للمحرم قتل الحية والعقرب والفويسقة والغراب والحدأة والكلب العقور والسبع العادي. قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثل من الأنعام .. مثله، وفيما لا مثل له .. قيمته، وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه القيمة

(1) المراغي.

(2)

زاد المسير.

ص: 68

وحمل المثل على القيمة. وظاهر الآية يرد ما قال، ولأن (1) الصحابة حملوا الآية على المثل في الصورة والخلقة والصغر والعظم، فحكموا في بلدان شتى وأزمان مختلفة بالمثل من النعم، فحكموا في النعامة ببدنة، وهي لا تساوي بدنة، وحكموا في حمار الوحش ببقرة، وهو لا يساوي بقرة وكذا في الضبع بكبش، فدل ذلك على أنهم إنما نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبهًا من حيث الخلقة، فحكموا به، ولم يعتبروا القيمة، فيجب في الظبي شاة، وفي الأرنب سخل، وفي الضب سخلة، وفي اليربوع جفرة، ويجب في الحمامة وكل ما عب وهدر كالفواخت والقمري وذوات الأطواق شاة، وما سواه من الطير ففيه القيمة في المكان الذي أصيب فيه، وقتل المحرم بحج أو عمرة للصيد حرامٌ بالإجماع لنفس الآية، وأكل المحرم مما صاده الحلال جائز؛ لما روي:(أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلوا مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي).

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (2): {فَجَزَاءٌ} بالتنوين {مِثْلُ} بالرفع، فارتفاع جزاء على أنه مبتدأ خبر محذوف تقديره: فعليه جزاء، ومثل صفة له؛ أي: فعليه جزاء مماثل ما قتل. وقرأ باقي السبعة: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} برفع جزاء وإضافته إلى مثل، فيكون {مثل} مقحمًا، والتقدير: فجزاء ما قتل. وقيل: من إضافة المصدر إلى المفعول، ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي:{فجزاءٌ} بالرفع والتنوين {مِثْلَ مَا قَتَلَ} بالنصب.

وقرأ محمد بن مقاتل {فجزاءً مثلَ ما قتل} بنصب جزاء ومثل، والتقدير: فليُخرج جزاءً مثلَ ما قتل، و {مثل} صفة لـ {جزاء}. وقرأ الحسن:{من النعْم} بسكون العين تخفيفًا.

فائدة: والظاهر من تقييد المنهيين عن القتل بقوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أنه لو صاد الحلال بالحل، ثم ذبحه في الحرم، فلا ضمان، وهو حلال، وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: عليه الجزاء، ذكره أبو حيان في "البحر".

(1) الخازن.

(2)

البحر المحيط.

ص: 69

{يَحْكُمُ بِهِ} ؛ أي: حالة كون ذلك الجزاء المماثل يحكم به؛ أي: يحكم بمماثلته {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ؛ أي: صاحبا عدالة منكم أيها المؤمنون؛ أي: رجلان صالحان من أهل دينكم، فقيهان فطنان في باب الشبه عدلان، فينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من النعم، فيحكمان به، ووجه الحاجة إلى حكم العدلين: أن المماثلة بين النعم والصيد مما يخفى على أكثر الناس، وما لا مثل له بوجه من الوجوه يحكمان فيه بالقيمة.

قال ميمون بن مهران (1): جاء أعرابي إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا، فسأل أبو بكر رضي الله عنه أُبي بن كعب، فقال الأعرابي: أتيتك أسألك، وأنت تسأل غيرك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: وما أنكرت من ذلك، قال تعالى:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء .. أمرناك به.

وعن قبيصة بن جابر: أنه حين كان محرمًا ضرب ظبيًا فمات، فسأل عمر بن الخطاب - وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف - فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة، قال: وأنا أرى ذلك، قال: فاذهب فأهدِ شاة، قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي، وقلت له: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال: ففاجأني عمر، وعلاني بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم، وتسفِّه الحَكَم؟! قال الله تعالى:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف.

وقرأ جعفر بن محمد (2): {يحكم به ذو عدل} بالإفراد، والمراد به: الجنس كما تكون من محمولة على المعنى فتقديره على هذا: فريق ذو عدل، أو حاكم ذو عدل؛ لأن عدلًا هنا مصدر غير وصف، ذكره أبو البقاء. وقوله:{هَدْيًا} حال من ضمير {بِهِ} و {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} صفة لـ {هَدْيًا} ؛ أي: يحكم به؛ أي: بذلك المثل ذوا عدل منكم حالة كون ذلك المثل هديًا بالغ الكعبة؛ أي:

(1) المراح.

(2)

البحر المحيط والعكبري.

ص: 70

مساقًا إلى أرض الحرم ليذبح فيه ويتصدق به على مساكين الحرم.

وسميت الكعبة كعبة لارتفاعها، والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة، والمراد بالكعبة هنا: كل الحرم؛ لأن الذبح لا يقع في الكعبة وعندها ملاقيًا لها، وإنما يقع في الحرم، وهو المراد بالبلوغ، فيذبح المثل في الحرم كدم الهدي، ويتصدق به على مساكين الحرم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: يتعين الذبح في الحرم، وأما التصدق به: فحيث شئتَ إذا وصل الهدي إلى الكعبة. والمعنى: إن ذلك الجزاء يكون هديًا يصل إلى الكعبة، ويذبح في جوارها، حيث تؤدى المناسك، ويفرق لحمه على مساكين الحرم. قال أبو حيان (1): والحرم كله منحر لهذا الهدي، فما وقف به بعرفة من هدي الجزاء ينحر بمنى، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم بشرط أن يدخل به من الحل، ولا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغًا لكعبة. وقرأ الأعرج:{هِديًّا} بكسر الدال وتشديد الياء. انتهى.

وقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ} معطوف على {جزاء} ، وقوله:{طَعَامُ} - بالرفع - بدل من {كَفَّارَةٌ} ، أو عطف بيان لها، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي طعام. وقوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ} ؛ أي: قدر أمداد ذلك الطعام. {عَدْلُ} : معطوف على {طَعَامُ} ، وقوله:{صِيَامًا} تمييز لـ {عَدْلُ ذَلِكَ} ، والمعنى: فمن قتل الصيد منكم متعمدًا، وهو محرم .. فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النعم، أو كفارة هي إطعام مساكين بقيمة ذلك المثل، لكل مسكين مدٌّ عند الشافعي، ونصف صاع عند أبي حنيفة من غالب قوت البلد، أو كفارة هي صيام أيام تعادل وتساوي عدد أمداد ذلك الطعام الذي هو قيمة المثل عند الشافعي، أو يصوم يومًا بدل نصف صاع عند أبي حنيفة، فيختار الجاني بين هذه الخصال الثلاثة.

(1) البحر المحيط.

ص: 71

فصل

ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى أن كلمة (1): {أَوْ} في هذه الآية للتخيير. وقال أحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة: إنها للترتيب، وهما روايتان عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الشافعي: إذا قتل صيدًا له مِثْل .. فهو مخير بين ثلاثة أشياء: إن شاء ذبح المثل من النعم وتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء قَوَّم المثل دراهم، والدراهم طعامًا، ثم يتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يومًا، فأي ذلك فعل .. أجزأه موسرًا كان أو معسرًا، وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل نصف صاع يومًا. وعن أحمد روايتان كالقولين، وأصل هذه المسألة: أن الصوم مقدَّر بطعام اليوم، فعند الشافعي مقدر بالمد، وعند أبي حنيفة مقدر بنصف صاع، وله أن يصوم حيث شاء؛ لأنه لا نفع فيه للمساكين.

وذهب جمهور الفقهاء (2): إلى أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة الأشياء إلى قاتل الصيد الذي وجب عليه الكفارة؛ لأن الله تعالى أوجب عليه أحد هذه الثلاثة على التخيير، فوجب أن يكون هو المخير بين أيها شاء. وقال محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة: التخيير إلى الحكمين؛ لأن الله تعالى قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، ومن قال: إن كلمة {أَو} للترتيب قال: إن لم يجد الهدي اشترى طعامًا وتصدق به، فإن كان معسرًا صام. وقال مالك: إن لم يخرج المثل من النعم .. يقوِّم الصيد، ثم يجعل القيمة طعامًا، فيتصدق به أو يصوم. وقال أبو حنيفة: لا يجب المثل من النعم، بل يقوَّم الصيد، فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم، وإن شاء إلى الطعام، فيتصدق به، وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يومًا. واختلفوا في موضع التقويم، فقال جمهور الفقهاء: يقوَّم في المكان الذي قتل فيه الصيد. وقال الشعبي: يقوَّم بمكة بثمن مكة؛ لأنه يصرف بها.

(1) الخازن.

(2)

الخازن.

ص: 72

وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد .. فعليه فيه الجزاء، فإن قتل ظبيًا أو نحوه .. فعليه ذبح شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد .. فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد .. فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلًا - من بقر الوحش - فعليه بقرة، فإن لم يجدها .. صام عشرين يومًا، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحو ذلك .. فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد .. أطعم ثلاثين مسكينًا، فإن لم يجد .. صام ثلاثين يومًا، والطعام مد مد يشبعهم. وقال مالك: بوجوب الشاة في خصوص حمام مكة ويمامها تعبدًا، فإن لم يكن .. فصيام عشرة أيام من غير تقويم ولا حكم، وحمام غيرها وسائر الطيور ليس فيه إلا قيمته طعامًا، أو عدله صيامًا، ذكره الصاوي.

وقرأ نافع وابن عامر (1): {كفارة طعام مساكين} بالإضافة، والإضافة تكون بأدنى ملابسة؛ إذ الكفارة تكون كفارة هدي، وكفارة طعام، وكفارة صيام. وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع {طعام} .

وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا {مسكين} على أنه اسم جنس. وقرأ الجمهور {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ} بفتح العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرها.

وقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق ب محذوف تقديره: أوجبنا عليه ذلك الجزاء بأقسامه الثلاثة ليذوق وبال أمره؛ أي: جزاء ذنبه الصادر منه، وعقوبة هتكه لحرمة الإحرام؛ إما بدفع الغرم، وإما بالعمل ببدنه بما يتعبه ويشق عليه، والوبال في الأصل: الشيء الثقيل الذي يخاف ضرره، وإنما سمَّى الله ذلك الجزاء وبالًا؛ لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس؛ لأن فيه تنقيصًا للمال، وهو ثقيل على النفس، وكذا الصوم أيضًا ثقيل على النفس؛ لأن فيه إنهاك البدن.

والمعنى (2): أن الله سبحانه وتعالى أوجب على قاتل الصيد في الإحرام أو في الحرم أحد هذه الأشياء الثلاثة التي كل واحد منها ثقيل على النفس، حتى

(1) البحر المحيط.

(2)

المراح.

ص: 73

يحترز عن قتل الصيد في الحرم، أو في حال الإحرام. {عَفَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى وسامح لكم {عَمَّا سَلَفَ} وسبق منكم قبل هذا النهي والتحريم من قتل الصيد في الإحرام أو في الحرم {وَمَنْ عَادَ} ورجع إلى قتل الصيد بعد هذا النهي والتحريم، أو المعنى: ومن قتل الصيد وهو محرم بعد ورود هذا النهي وهو عالم بهذا النهي {فـ} ـإنه {ينتقم الله منه} ؛ أي: يعاقبه في الاخرة عقوبة شديدة مع لزوم الكفارة له في الدنيا.

وقال ابن كثير (1): ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد .. وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة، وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد. وحكى علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: مَن قتل شيئًا من الصيد خطأً وهو محرم .. يحكم عليه فيه كلما قتله، وإن قتله عمدًا .. يحكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك كما قال الله عز وجل. انتهى.

{وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ} ؛ أي: غالب على أمره فلا يغلبه العاصي {ذُو انْتِقَامٍ} ؛ أي: صاحب عقوبة شديدة لمن عصاه. وقال ابن جرير (2): في قوله {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} يقول الله جلَّ ذكره: والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره، له العزة والمنعة. وقوله:{ذُو انْتِقَامٍ} يعني: أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.

والآية صريحة (3): في أنَّ الجزاء الدنيوي إنما يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب، فإن تكرر .. استحق صاحبه الجزاء في الدنيا، والعقاب في الآخرة.

(1) ابن كثير.

(2)

الطبري.

(3)

المراغي.

ص: 74