المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لعباده، العالي فوقهم، القاهر لهم وهم مقهورون تحت قدرته، والقاهر - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٨

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: لعباده، العالي فوقهم، القاهر لهم وهم مقهورون تحت قدرته، والقاهر

لعباده، العالي فوقهم، القاهر لهم وهم مقهورون تحت قدرته، والقاهر والقهار معناه: الذي يدبر خلقه بما يريد، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن ويفقر ويميت ويذل خلقه، فلا يستطيع أحد من خلقه ردَّ تدبيره والخروج من تحت قهره وتقديره، وهذا معنى القاهر في صفة الله تعالى؛ لأنه القادر، والقاهر: الذي لا يعجزه شيء أراده. ومعنى فوق عباده هنا: أن قهره قد استعلى على خلقه، فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم به من الاقتدار والقهر الذي لا يقدر أحد على الخروج منه، ولا ينفك عنه، فكل من قهر شيئًا فهو مستعلٍ عليه بالقهر والغلبة. وقال "الشوكاني": ومعنى: {فَوْقَ عِبَادِهِ} فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، لا فوقية المكان، كما تقول: السلطان فوق رعيته؛ أي: بالمنزلة والرفعة، وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة وهو: منع غيره عن بلوغ المراد. انتهى.

{وَهُوَ} سبحانه وتعالى {الْحَكِيمُ} في أمره وتدبيره عباده {الْخَبِيرُ} ؛ أي: العالم بأعمالهم وما يصلحهم.

وخلاصة المعنى: أنه تعالى هو الغالب لعباده العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم، فهو فوقهم بالقهر وهم دونه، وهو الحكيم في تدبيره، الخبير بمصالح الأشياء ومضارها؛ ولا تخفى عليه خوافي الأمور ولا يقع في تدبيره خلل ولا في حكمته دخل.

‌19

- وقد ختم سبحانه هذه الأوامر القولية المبينة لحقيقة الدين وأدلته بشهادة الله لرسوله، وشهادة رسوله له، فقال:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} .

روى ابن عباس: أن رؤساء أهل مكة قالوا: يا محمد، ما وجد الله غيرك رسولًا، وما ترى أحدًا يصدقك، وقد سألنا اليهود والنصارى عنك، فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة، فأرنا من يشهد لك بالنبوة؟ فأنزل الله قوله هذا:{قُلْ} لهم يا محمد {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} ؛ أي: قل لهؤلاء المشركين من قومك الذين يكذبونك ويجحدون نبوتك أيُّ شهيد أكبر شهادة وأعظمها وأجدر أن تكون شهادته أصحها وأصدقها؟ ثم أمره بأن يجيب عن هذا السؤال بأن أكبر الشهداء

ص: 240

وأصدقهم وأعظمهم شهادة هو: الله سبحانه وتعالى، فقال {قُلْ} لهم يا محمد إن لم يجيبوا لك {الله} سبحانه وتعالى أكبر شهادة؛ لأنه لا جواب غيره؛ أي: أحب لهم بأن أكبر الأشياء شهادة هو من لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ، وذلك هو الله سبحانه وتعالى، وهو سبحانه وتعالى {شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يشهد لي بالحق، وعليكم بالباطل الذي تقولونه. والمراد (1) بشهادة الله: إظهار المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن حقيقة الشهادة ما بُيِّن به المدعى، وهو كما يكون بالقول يكون بالفعل، ولا شك أن دلالة الفعل أقوى من دلالة القول لعروض الاحتمالات في الألفاظ دون الأفعال، فإن دلالتها لا يعرض لها الاحتمال، وإن المعجزة نازلة منزلة قوله تعالى صدق عبدي في كل ما يبلغ عني انتهى "كرخي".

والحاصل (2): أنهم طلبوا شاهدًا مقبول القول يشهد له بالنبوة، فبين الله تعالى بهذه الآية أن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى، ثم بيَّن أنه يشهد له بالنبوة وهو المراد بقوله:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} فهو بمنزلة التعليل لما قبله؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى يشهد لي بالنبوة؛ لأنه أوحى إليَّ هذا القرآن، وهو معجزة لأنكم أنتم الفصحاء البلغاء وأصحاب اللسان وقد عجزتم عن معارضته، فكان معجزًا، وإذا كان معجزًا .. كان نزوله عليَّ شهادة من الله تعالى بأني رسوله، وهو المراد بقوله:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} يعني: أوحي إليَّ هذا القرآن لأخوفكم به وأحذركم مخالفة أمر الله عز وجل ولأبشركم، فحذف المعطوف لدلالة المعنى عليه، أو اقتصر على الإنذار؛ لأنه في مقام تخويف لهؤلاء المكذبين بالرسالة المتخذين غير الله إلهًا. وقوله:{وَمَنْ بَلَغَ} في محل النصب معطوف على الكاف في {لِأُنْذِرَكُمْ} ؛ أي: ولأنذر به من بلغه القرآن ممن يأتي بعدي إلى يوم القيامة من العرب والعجم وغيرهم من سائر الأمم من الإنس والجن، فكل من بلغ إليه القرآن وسمعه فالنبي صلى الله عليه وسلم نذير له. قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه. وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية .. كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل. وعن

(1) الجمل.

(2)

الخازن.

ص: 241

عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا .. فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه البخاري.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه، فربَّ مبلغ أوعى له من سامع" أخرجه الترمذي، وله عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم أخرجه أبو داود موقوفًا، وقالت فرقة: الفاعل ببلغ عائد على {من} لا على القرآن، والمفعول محذوف والتقدير: ومن بلغ الحلم.

وشهادة (1) الله بين الرسول وقومه ضربان: شهادته برسالة الرسول، وشهادته بصدق ما جاء به.

والأول أنواع ثلاثة:

1 -

إخباره بها في كتابه بنحو قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} ، وقوله:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} .

2 -

تأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن، فهو المعجزة الدائمة بما ثبت من عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله، وبما اشتمل عليه من أخبار الغيب ووعد الرسول والمؤمنين بنصر الله وإظهارهم على أعدائهم.

3 -

وشهادة كتبه السابقة له، وبشارة الرسل السابقين به، ولا تزال هذه الشهادة في كتب اليهود والنصارى.

والثاني ثلاثة أنواع أيضًا:

1 -

شهادة كتبه بذلك كقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو

(1) المراغي.

ص: 242

الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ}.

2 -

ما أقامه من الآيات في الأنفس والآفاق مما يدل على توحيده واتصافه بصفات الكمال.

3 -

ما أودعه جل شأنه في الفطرة البشرية من الإيمان بإله واحد له صفات الكمال وببقاء النفس.

والخلاصة: أن شهادته تعالى هي شهادة آياته في القرآن، وآياته في الأكوان، وآياته في العقل والوجدان اللذين أودعهما في نفس الإنسان.

وقرأ الجمهور (1): {وَأُوحِيَ} مبنيًّا للمفعول، {الْقُرْآنُ} هو مرفوع به. وقرأ عكرمة وأبو نهيك وابن السميقع والجحدري:{وأوحي} مبنيًّا للفاعل، و {القرآن} منصوب به. والمعنى (2): أوحى الله سبحانه وتعالى إليَّ هذا القرآنَ الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه؛ أي: كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة إلى يوم القيامة.

والاستفهام في قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} للتوبيخ والتقريع لهم والإنكار عليهم على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل، أو بقلب الثانية؛ أي: لا تنبغي ولا تصح منكم هذه الشهادة؛ لأن المعبود واحد لا تعدد فيه. وأما من قرأ على الخبر .. فقد حقق عليهم شركهم؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جحدوا نبوتك واتخذوا آلهة غيري: هل إنكم أيها المشركون لتشهدون وتثبتون وتعتقدون وتقرون {أَنَّ مَعَ} سبحانه وتعالى {آلِهَةً أُخْرَى} يعني: الأصنام، إن كان الخطاب لأهل مكة، فإنهم أصحاب أوثان، وإن كان لجميع المشركين، فالآلهة كل ما عبد من دون الله تعالى من وثن أو كوكب أو نار أو آدمي، وإنما قال:{أُخْرَى} بتأنيث الصفة وإفرادها؛ لأن ما لا يعقل يعامل جمعه معاملة المؤنثة الواحدة، كما قال بعضهم:

وَجَمْعُ كَثْرَةٍ لِمَا لَا يَعْقِلُ

الأَفْصَحُ الإِفْرَادُ فِيْهِ يَا فُلُ

(1) البحر المحيط.

(2)

الشوكاني.

ص: 243