الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)} ، وقوله:{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)} .
38
- وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} كلام (1) مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته تعالى وشمول علمه وسعة تدبيره؛ ليكون كالدليل على أنه قادر على تنزيل الآية، وإنما لم ينزلها محافظة على الحكم البالغة؛ أي: وما من دابة من الدواب التي تدب في أي مكان من أمكنة الأرض {وَلَا} من {طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} في أي ناحية من نواحي الأرض {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ؛ أي: إلا جماعات أمثالكم، خلقهم الله كما خلقكم، ورزقهم كما رزقكم، داخلة تحت علمه وتدبيره وتقديره وإحاطته بكل شيء. قال (2) العلماء: ما خلق الله عز وجل في الأرض لا يخرج عن هاتين الحالتين؛ إما أن يدب على الأرض أو يطير في الهواء، حتى ألحقوا حيوان الماء بالطير؛ لأن الحيتان تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء، وإنما خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء، وإن كان ما في السماء مخلوقًا له؛ لأن الاحتجاج بالمشاهد أظهر وأولى مما لا يشاهد، وإنما ذكر الجناح في قوله:{بِجَنَاحَيْهِ} للتوكيد كقولك: كتبت بيدي، ونظرت بعيني.
{إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال مجاهد؛ أي: إلا أصناف مصنفه تعرف بأسمائها، يريد أن كل جنس من الحيوان أمة، فالطير أمة، والدواب أمة، والسباع أمة، تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم، كما يقال: الإنس والناس، ويدل على أن كل جنس من الدواب أمة ما روي عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لولا أن الكلاب أمة من الأمم .. لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
فإن قلت: ثبت بالآية والحديث أن الدواب والطير أمم أمثالنا، وهذه المماثلة لم تحصل من كل الوجوه فيما يظهر لنا، فما وجه هذه المماثلة؟.
(1) أبو السعود.
(2)
الخازن.
قلتُ: اختلف العلماء في وجه هذه المماثلة، فقيل: إن هذه الحيوانات تعرف الله وتوحده وتسبحه وتصلي له، كما أنكم تعرفون الله وتوحدونه وتسبحونه وتصلون له، وقيل: إنها مخلوقة لله كما أنكم مخلوقون لله عز وجل، وقيل: إنها يفهم بعضها عن بعض، ويألف بعضها بعضًا، كما أن جنس الإنسان يألف بعضهم بعضًا ويفهم بعضهم عن بعض، وقيل: أمثالكم في طلب الرزق، وتوقي المهالك، ومعرفة الذكر والأنثى، وقيل: أمثالكم في الخلق والموت والبعث بعد الموت للحساب، حتى يقتص للجماء من القرناء، وقال سفيان بن عيينة؛ أي: ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاوس، والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائنًا ما كان. وعبارة "المراغي" هنا:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} إلخ؛ أي: لا يوجد (1) نوع من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض، ولا نوع من أنواع الطير التي تسبح في الهواء إلا وهي أمم مماثلة لكم أيها الناس، وقد أثبت الإحصائيون الباحثون في طباع الحيوان الذين تفرغوا لدرس غرائزها وأعمالها، أن النمل مثلًا يغزو بعضه بعضًا، وأن المنتصر يسترق المنكسر ويسخره في حمل قوته وبناء قراه إلى نحو أولئك من الأعمال التي تخصه.
وخص دواب الأرض بالذكر؛ لأنها هي التي يراها المخاطبون عامة ويدركون فيها معنى المماثلة دون دواب الأجرام السماوية القابلة للحياة الحيوانية التي أعلمنا بوجودها في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} وهذا من أخبار الغيب التي دل العلم الحديث على صدقها، فقد أثبت الباحثون من علماء الفلك أن بعض الكواكب كالمريخ فيه ماء ونبات، فلا بد أن يكون أنواع من الحيوان، بل فيه أمارات على وجود عالم اجتماعي صناعي كالإنسان، منها ما يرى على سطحه بالمرقب - التلسكوب - من جداول منظمة، وخلجان وجبال ووديان إلى نحو أولئك.
(1) المراغي.
وهذه (1) الآية الكريمة ونحوها ترشدنا إلى البحث في طباع الأحياء لنزداد علمًا بسنن الله تعالى وأسراره في خلقه، ونزداد بآياته فيها إيمانًا وحكمة وكمالًا وعلمًا، ونعتبر بحال المكذبين بها الذين لم يستفيدوا بما فضلهم الله به على الحيوان، فكانوا أضلَّ من جميع أنواعه التي لا تجني على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه.
{مَا فَرَّطْنَا} ؛ أي: ما تركنا وما أهملنا {فِي الْكِتَابِ} ؛ أي: في اللوح المحفوظ من الشيطان، ومن تغيير شيء منه {مِنْ شَيْءٍ}؛ أي: شيئًا من الكائنات، ما كان منها وما سيكون بحسب السنن الإلهية، فإن الله سبحانه وتعالى أثبت فيه جميع الحوادث، وهو خلق من عالم الغيب، وقيل: المراد بالكتاب هنا: علم الله المحيط بكل شيء، شبه بالكتاب لكونه ثابتًا لا ينسى. قال الحافظ ابن كثير:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ؛ أي: الجميع علمهم عند الله تعالى لا ينسى واحدًا من جميعها من رزقه، سواء كان بريًّا أو بحريًّا، كقوله:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} ؛ أي: مفصح بأسمائها وأعدادها ونظامها، وحاصر لحركاتها وسكناتها. انتهى.
وقيل: هو القرآن؛ أي: ما تركنا شيئًا من ضروب الهداية التي نرسل من أجلها الرسل إلا بيناه فيه، فقد ذكرت فيه أصول الدين وأحكامه، وحكمها، والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية التي سخرها الله للإنسان.
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ؛ أي: ما تركنا في القرآن شيئًا من الأشياء المهمة من أمور الدين؛ إما (2) تفصيلًا، أو إجمالًا، ومثله قوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل حكم سنه الرسول لأمته فقد ذكره الله سبحانه وتعالى في
(1) المراغي.
(2)
الشوكاني.
كتابه العزيز بهذه الآية، وبنحو قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} ، وبقوله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ؛ أي (1): إن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام، فليس لله على الخلق بعد ذلك تكليف آخر، وإن القرآن دلَّ على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة، فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة. كان ذلك في الحقيقة موجودًا في القرآن.
روي أن ابن مسعود كان يقول: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه، فقرأت امرأة جميع القرآن، فأتته فقالت: يا ابن أم عبد، تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة، فقال: لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، وإن مما أتانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لعن الله الواشمة والمستوشمة".
وذُكر أن الشافعي كان جالسًا في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى، فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور، فقال: لا شيء عليه، فقال: أين هذا من كتاب الله، فقال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وقال عمر رضي الله عنه للمحرم الذي قتل الزنبور: لا شيء عليك.
وروي أن أبا العسيف قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقضِ بيننا بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله" ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة. وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم هو عين كتاب الله؛ لأنه ليس في نص الكتاب ذكر الجلد والتغريب. {ثُمَّ} بعد انقضاء مدة الدنيا {إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}؛ أي: إلى موقف حسابهم يجمعون؛ أي: يبعث الخلائق والأمم المذكورة من الإنس والدواب والطيور، ويساقون إلى موقف حسابهم حالة كونهم محشورين ومجموعين في صعيد واحد للمجازاة، وفيه
(1) المراح.