الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي: والحال أنهم يحملون {أَوْزَارَهُمْ} وذنوبهم وخطاياهم {عَلَى ظُهُورِهِمْ} وعواتقهم؛ أي: يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم، فلا تفارقهم ذنوبهم، وخص الظهر بالذكر؛ لأنه يطيق من الحمل ما لا يطيقه غيره من الأعضاء، كالرأس والكاهل، وهذا كما تقدم في قوله:{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِم} ؛ لأن اليد أقوى في الإدراك اللمسي من غيرها، وفي ذلك إيماء إلى أن عذابهم ليس مقصورًا على الحسرة والندامة على ما فات وزال، بل يقاسون مع ذلك تحمُّل الأوزار الثقال، وإشارة إلى أن تلك الحسرة من الشدة والهول بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من صنوف العقوبات.
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي: أن الأعمال القبيحة تتمثل بصورة رجل قبيح، يحمله صاحبها يوم القيامة، والصالحة بصورة رجل حسن، يحمل صاحبها يوم القيامة.
والخلاصة: أنهم ينادون الحسرة التي أحاطت بهم أسبابها وهم في أسوأ حال بما يحملون من أوزارهم على ظهورهم، وقد بيَّن الله تعالى سوء تلك الحال التي تلابسهم حينما يلهجون ويتكلمون بذلك المقال، فقال:{أَلَا} ؛ أي: انتبهوا واعرفوا ما سأذكره لكم وهو قوله: {سَاءَ} وقبح {مَا يَزِرُونَ} ويحملون على ظهورهم يوم القيامة؛ أي: ما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها وما أقبحها، والمخصوص بالذم ذنوبهم.
32
- {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} ؛ أي: وما هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار فيها أنه لا حياة غيرها {إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فهي دائرة بين عمل لا يفيد في العاقبة، كعب الأطفال، وعمل له فائدة عاجلة سلبية؛ كفائدة اللهو وهو دفع الهموم والآلام، ومن ثمَّ قال بعض الحكماء: إن جميع لذات الدنيا سلبية إذ هي إزالة للآلام، فلذة الطعام في إزالة ألم الجوع، وبقدر هذا الألم تعظم اللذة في إزالته، ولذة شرب الماء هي إزالة العطش، وهكذا، أو المعنى: وما الأشغال التي تشغلك في الحياة الدنيا عن خدمة الله وطاعته {إِلَّا لَعِبٌ} ؛ أي: عمل لا فائدة ولا عاقبة له؛ كعب الأطفال {وَلَهْوٌ} ؛ أي: عمل فائدته عاجلة لا آجلة، وليس المراد أن
مطلق الحياة لعب ولهو، بل ما قرب منها إلى الله .. فهو مزرعة للآخرة، فليست من أشغال الدنيا، وما أبعد منها عنه .. فهو حسرة وندامة، واللعب: هو كل ما يشغل النفس عما تنتفع به، واللهو: صرفها عن الجد إلى الهزل، وقيل: المعنى أي: وما اللذات والمستحسنات الحاصلة في هذه الدنيا إلا فرح يشغل النفس عما تنتفع به، وباطل يصرف النفس عن الجد في الأمور إلى الهزل.
وفي الآية وجه آخر، وهو أن متاع هذه الدنيا متاع قليل قصير الأجل، لا ينبغي أن يغتر العاقل به، فما هو إلا كلعب الأطفال قصير المدة، فإن الطفل سريع الملل لكل ما يقدم إليه من أصناف اللعب، أو أن زمن الطفولة قصير، كله غفلة، أو كلهو المهموم في قصر مدته على كونه غير مقصود لذاته، والقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم:{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} .
واللام في قوله: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} لام (1) قسم؛ أي: وعزتي وجلالي للدار التي هي محل الحياة الأخرى، وهي الجنة - جعلنا الله سبحانه وتعالى من أهله - {خَيْرٌ} ، وأفضل {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ويجتنبون الكفر والمعاصي لخلو لذاتها من المضار والآلام، وسلامتها من التقضِّي والانصرام من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظَّ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من قبيل اللعب في قصر مدته وعدم فائدته، أو من قبيل اللهو في كونه دفعًا لألم الهم والكدر.
والخلاصة: أن نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا، كما قال الشاعر:
لِلَّهِ أَيَّامُ نَجْدٍ وَالنَّعِيْمُ بِهَا
…
قَدْ كَانَ دَارًا لَنَا أَكْرِمْ بِهِ دَارَا
فالبدني منه أعلى وأكمل من نعيم الدنيا في ذاته وفي دوامه وثباته، وفي كونه إيجابيًّا لا سلبيًّا، وفي كونه غير مشوب ولا منغص بشيء من الآلام، وفي كونه لا يعقبه ثقل ولا مرض ولا إزالة أقذار، بخلاف نعيم الدنيا؛ لأن لذاتها يشوبها مكدرات، وسرورها يعقبه غم وحزن كما قال الشاعر:
أشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِيْ فِيْ سُرُوْرٍ
…
تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ زَوَالا
(1) الخازن.